fbpx

صناعة الترفيه وطاعة النظام
مصر : الرقابة الفنية وصورة الأب – الرئيس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يمتلك الفن سلطة لا مرئيّة، سواء صُنِّف راقياً أو مبتذلاً، سلطة  لا تعمل في فراغ، ولا يمكن فهمها منعزلة عن الظواهر المحيطة بها، خصوصاً “السلطة” بمعناها السياسيّ، التي في السياق المصري، تطوّع الفن كأداة للهيمنة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نناقش في مقالات “صناعة الترفيه وطاعة النظام” علاقة الإنتاج الفني والثقافي بالسلطة السياسيّة، التي تتحكم بعمليات الإنتاج ومكونات العمل الفنيّ لترسيخ ثقافة الطاعة. نبدأ بمصر، وتطور أنظمة  وقوانين الرقابة التي تتدخل في مكونات العملّ الفنيّ. نشير بعدها إلى تحوّل الدولة إلى مُنتج ورقيب يوظف الصناعة الثقافيّة والترفيهيّة لرسم حدود الطاعة، فالنظام أشبه بالأب القاسي الذي يرسم حدود حياة المواطن/ الطفل، ذاك الواجب عليه اتباع تعليمات النظام/ الأب الذي يرشده ويؤدّبه في حال أخطأ.

لا فكاك من الأيديولوجيا في الحديث عن الفن، سواء كنا نتحدث عن لوحة واقعية واضحة المعالم كـ”الزعيم وتأميم القناة” لحامد عويس، أو رقصة على “تيك توك” لا تتجاوز الـ30 ثانية تؤديها فتاة من منزلها، كلها تختزن ملامح السلطة، التي تتدخل لضبط ما “نشاهده” ورسم حدوده، عبر تحديد الموضوعات وتضييق نطاقها، أو عبر “القانون” واعتقال من يخرج عن الخط المرسوم.

يمتلك الفن سلطة لا مرئيّة، سواء صُنِّف راقياً أو مبتذلاً، سلطة  لا تعمل في فراغ، ولا يمكن فهمها منعزلة عن الظواهر المحيطة بها، خصوصاً “السلطة” بمعناها السياسيّ، التي في السياق المصري، تطوّع الفن كأداة للهيمنة، ورسم حدود ضمن المُتخيّل، للعلاقة بين السلطة والمواطنين، وبين المواطنين أنفسهم، أي تزرع المتخيل السياسيّ في عقول المشاهد، وترسم حدود الطاعة. لتثبيت الواقع وخلق ما يشبه الاتفاق حول الوضع القائم.

الملك فاروق

يد الملك الطويلة 

بدأ تطويع الفن، في سياق الدعاية للسلطة قبل عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إذ صدر أول قانون ينظم الرقابة على المطبوعات عام 1881 لإيقاف طباعة وتوزيع أي صحيفة أو كتاب يساند تمرد الثورة العُرابية، لاحقاً عام 1904 عُدّل القانون، وصارت وزارة الداخلية (المسؤولة عن الأمن الداخلي والشرطة) رقيباً على الأفلام السينمائية بجانب المطبوعات، ولها حق مصادرة أو وقف أي مصنف فني بذريعة الحفاظ على النظام العام أو الآداب أو الدين.

وعام 1947، صدرت لائحة مشددة للقانون تنص بشكل مفصل على 71 بنداً، لمنع تداول موضوعات عدة في الأفلام والإذاعة، وأهمها عدم إذاعة أي مصنف فني يدعو إلى الشيوعية أو يتصالح معها، أو يدعو إلى ما يخالف النظام السياسي الحاكم للبلاد، أو يحرض ضد الملك. شملت المحاذير أيضاً منع ظهور الحارات والشوارع التي تملؤها القاذورات في ذاك الوقت، أو بيوت الفلاحين الفقراء، باعتبار أن النظام كان يريد أن الترويج لمصر الأرستقراطية في الأفلام.

وهناك واقعة شهيرة حدثت مع أم كلثوم شخصياً، حيث كانت تجري بروفات لتسجيل قصيدة “ولد الهدى” والتي تضم بيتاً شعرياً يقول: “الاشتراكيون أنت إمامهم”، وأثناء التسجيل، فوجئ الحضور بوصول مندوب من القصر الملكي يطالب بحذف هذه العبارة من الأغنية أو منعها كلياً، ولكن إثر اتصالات شخصية أجرتها أم كلثوم، تم تمرير العبارة.

وإضافة إلى إحكام المنع ضد ما يمكن أن يسيء إلى النظام أو قيمه، كانت هناك أعمال فنية تحتفي بالنظام الحاكم وتمجده، كأغاني شادية في فيلم “الحياة حلوة” عام 1951، حين قالت في نشيد “فتاة النيل”: “نحن ربات البيوت نسل شعب لا يموت/ رددوا: عاش الملك، وانشدوا: عاش الملك”.

محمد عبد الوهاب غنى عام 1945 “أنشودة الفن”، وفيها يمدح الملك فاروق، ويعتبر أنه أول من أنصف الفنان ورعى فنه، فشرف بذلك الفن والفنانين إذ يقول: “والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه/ والفن مين شرّفه غير “الفاروق” ورعاه/ انت اللى أكرمت الفنان ورعيت فنه/ رديت له عزه بعد ما كان محروم منه/ ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه”.

وغنت أسمهان نشيد الأسرة العلوية في فيلم “غرام وانتقام” من إنتاج عام 1944، والذي يحتفي بكل حكام مصر من الأسرة العلوية، وهو من ألحان رياض السنباطي وكلمات أحمد رامي، والتي جاء فيها: “حيوا معي عهد الربيع المقبل/ حيوا معي فاروق كنز الأمل/ دامت لنا نعماه يا نعم ما أسداه/ للبر والإحسان/ يا مليك العصر يا حليف النصر/ عش بوادي النيل واقبل حبه/ خالصًا للعرش موفور الولاء/  وامض للعلياء سباق الخطى/ نحن من حولك للتاج الفدا”.

دولة يوليو مُنتجاً فنياً

استمرت الرقابة بعد ثورة تموز/ يوليو وصدر قانون جديد لتنظيمها عام 1955، والذي نقل تبعية الرقابة من وزارة الداخلية إلى وزارة الثقافة، الأمر الذي ما زال سارياً حتى الآن، مع تعديلات أجريت عليه، وقرارات تنظيمية ولوائح مختلفة صدرت لاحقاً. من هذه القرارات ما صدر عام 1976، والذي منح الأزهر سلطة الاعتراض على الأعمال التي تتناول موضوعات تاريخية أو دينية، بالتنسيق مع هيئة الرقابة، إذ لا يجوز إنتاج أي عمل فني قبل عرض مادته المكتوبة (كالسيناريو والحوار) على هيئة الرقابة لتوافق عليها، وبعد تصوير المادة يعاد عرضها على لجنة رقابية أخرى للحصول على الموافقة النهائية، وفقاً للقانون.

لم تكتف الدولة بالرقابة فقط، بل تدخلت بقوة في الإنتاج الفني نفسه، فصارت رقيباً على ما تنتجه! وذلك بعدما أسست ما عرف بمؤسسة دعم السينما عام 1957، والتي تغير اسمها إلى “المؤسسة المصرية العامة للسينما”، والتي كانت تنتج أفلاماً سينمائية بجانب ما ينتجه القطاع الخاص.

كانت المؤسسة في البداية تقتصر على تمويل شركات القطاع الخاص ودعمها في إنتاج أفلام معينة تخدم أهداف الدولة، كفيلم “الناصر صلاح الدين” الذي أنتجته آسيا داغر عام 1962، و عام 1963 بدأت يد الدولة تحكم قبضتها وتهيمن بشكل كامل على الإنتاج الفني، وقد صدر قرار رئيس الجمهورية بدمج المؤسسة المصرية العامة للسينما، بالمؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتلفزيون، ليصبح الكيان الجديد “المؤسسة المصرية العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون” المملوك للدولة هو المهيمن على الإنتاج الفني في مصر.

بدأت الدولة تنتج بنفسها ولا تكتفي بتمويل المنتجين، بعدما كانت قد اشترت الاستوديوهات العاملة في الإنتاج السينمائي أو أممتها، كما سيطرت الدولة على دور العرض الكبيرة بأكثر من شكل إداري، كفرض الحراسة عليها. أنتجت الدولة أفلاماً تروج لرؤيتها، سواء بتبني أفلام تهاجم نظام ما قبل يوليو كـ”القاهرة 30” و”الأرض“، أو أفلام تدعو إلى التكاتف كـ”القضية 68” الذي يدعو بشكل رمزي إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد هزيمة 67.

اللافت أن المؤسسة أنتجت أفلاماً تهاجم نظام ثورة يوليو أحياناً بشكل صريح، مثل فيلم “ميرامار” من إنتاج عام 1969، أو تهاجم الاستبداد في المطلق وبدا للبعض أن في تلك الأعمال إسقاطاً على عبد الناصر شخصياً، مثل “شيء من الخوف” الذي أنتج في العام ذاته. لكن عام 1971 في عهد الرئيس أنور السادات، تم حل المؤسسة وفكّت الدولة قبضتها عن الإنتاج الفني، برغم أنها أسست هيئة أكثر شمولية هي “الهيئة المصرية العامة للسينما والمسرح والموسيقى”، لكنها اكتفت بالرقابة والتوجيه لتلك الأعمال.

شهدت فترة الرئيس حسني مبارك انفتاحا نسبيًا، بالسماح بأفلام تهاجم الحكومة وتكشف فساد وظلم أجهزة الأمن، كـ”الهروب” و”ضد الحكومة” من بطولة أحمد زكي وإخراج عاطف الطيب، و”هي فوضى” من بطولة خالد صالح وإخراج يوسف شاهين.

وبرغم هذا الانفتاح، يرى حميد عقبي في كتابه “السينما العربية… محاولات البحث عن الهوية والأسلوب”، أن الديكتاتورية في عصر مبارك سيطرت على السينما والتلفزيون من طريق رأسماليين تابعين للسلطة اشتروا أدوات الإنتاج الفني، وفق خطة مدروسة للسيطرة على الفن، كما نقل عن المخرج المصري أحمد فؤاد.

يضرب عقبي مثلاً بفيلم “طباخ الريس” من بطولة طلعت زكريا وإخراج سعيد حامد وتأليف يوسف معاطي، الذي زين صورة رئيس الدولة وجعله شخصاً مثالياً يسعى إلى كل الخير، ولكن العيب إما في البطانة المحيطة به التي تغشه ولا تنقل إليه الحقيقة، أو في سلبية الشعب. 

السيسي: هل عدنا لى عصر “مؤسسة السينما”؟

تأسست عام 2016 “الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية” والتي استحوذت على معظم القنوات الفضائية والمنصات الرقمية، وبعض الصحف المؤثرة، وأكبر شركات الإنتاج الفني والإعلامي في مصر.

“المتحدة” وإن لم تكن من الناحية القانونية حكومية، إلا أنها تابعة للدولة وداعمة لها، وتتبنى خطاب رئيس الدولة ومسؤوليها، وتوجه من أجهزتها، وفق ما يتبين من تصريحات المسؤولين، كما أن الإعلام المعارض لنظام السيسي يؤكد دائماً أنها مملوكة لجهاز المخابرات.

وبوجود “المتحدة”، عادت الدولة إلى الإنتاج الفني بنفسها، فصارت منتجاً ورقيباً في الوقت ذاته. فالأعمال الفنية التي تنتجها الشركة عبر ذراعها القوية للإنتاج الدرامي “سيينرجي” تتبنى كتالوغ الدولة، ومن أبرز الأعمال التي أنتجتها كان مسلسل “الاختيار”، والذي عرض على 3 أجزاء.

الجزء الأول يقدم صورة مثالية للجيش المصري، الذي يضحي أبناؤه بأنفسهم من أجل الوطن، خلال حربهم مع الجماعات الإرهابية، ويقدم صورة مثالية على المستوى الإنساني والعسكري لبطل هذا العمل، الضابط أحمد المنسي.

ولا يخفى على أحد أن الرئيس السيسي دائماً ما يقدم نفسه كابن بار للمؤسسة العسكرية، التي يحكم بدعمها، ولا تنفصل صورته عن صورتها، وبالتالي فإن الدعاية لها بمثابة دعاية له. 

الجزء الثاني من المسلسل يروي بطولات الشرطة المصرية ودورها في حفظ الأمن في الدولة، بخاصة بعد سقوط جماعة الإخوان، واعتصام أعضائها في ميدان رابعة العدوية. أما الجزء الثالث وهو الأكثر مباشرة، فيتناول العملية السياسية التي أعقبت أحداث ثورة يناير 2011، وملابسات صعود جماعة الإخوان للسلطة، ثم الإطاحة بها، وفي هذا الجزء تُجَسّد شخصية الرئيس عبد الفتاح السيسي، حين كان وزيراً للدفاع، إذ ترسم صورة مثالية للفريق أول عبد الفتاح السيسي، كناصح أمين للسلطة، وكبطل مُخَلّص لمصر من نظام ديني غير وطني، فاشل سياسياً واقتصادياً.

المسلسل في أجزائه الثلاثة هو معالجة درامية إنسانية لرؤية النظام الحاكم الواضحة التي تبثها وسائل الإعلام باستمرار، التي ترسخ لفكرة أن النظام القائم حمى الدولة من السقوط ويدرك مصلحتها أكثر من غيره، وبالتالي فإن الاعتراض عليه هو اعتراض على الدولة المصرية.

حتى المسلسلات غير السياسية ليست بعيدة من هذه الفكرة، فمثلاً مسلسل “جزيرة غمام” الذي يحكي عن سكان جزيرة نائية في البحر الأحمر، جنوب شرقي مصر، في زمن أحداث يعود إلى الربع الأول من القرن العشرين، نلاحظ خلاله ترسيخ لفكرة طاعة السلطة.

يحكي المسلسل عن صراع بين العمدة عجمي (الفنان رياض الخولي) المدعوم من الشيخ “الصوفي” عرفات (الفنان أحمد أمين)، في مواجهة الشيخ “محارب” الحالم بالسلطة والساعي إليها بقوة السلاح، المتحالف مع الغجر الأشرار، الأغراب عن الجزيرة.

وينتهي المسلسل بانتصار العمدة عجمي (كبير الجزيرة) ومن معه، ونجاتهم من الزوبعة، وهلاك أعدائه، في رسالة توحي بأن من اتبع السلطة، وزهد في المطالبة بها نجا، ومن خالفها وتمرد عليها وصدّق غيرها من الأشرار هلك وخسر.      

السلطة- الأب والمواطن- الطفل

المسلسلات التي أشرنا إليها تسعى إلى ترسيخ سلطة النظام السياسي على المصريين وأيضاً سلطة النظام الأبوي، حيث تمرر قيم نظام يجمع بين الخوف والعاطفة، بين طرف أدنى ضعيف، وطرف قوي يتولى شؤونه، كالطفل وأبيه الذي يكفله، ويعلم ما لا يعلمه هو، كما نفهم مما نقله عنه هشام شرابي في كتابه “النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي”.

هذا النظام الأبوي يولد الطاعة للأب، ويعزز من ولاء الابن له، ويحاول جعل الأب مثلاً أعلى للابن، في أفكاره وسعيه، من دون السماح بأي اختلاف بين الاثنين، حتى لو نما إلى عقل الابن ما يجعله يختلف مع الأب أو يخرج عن طاعته، فإن قوة الأب التي يبثها غموضه وتظهرها سلطته تجعل الابن دائماً متردداً في إبداء الاختلاف، أو التمرد.

وفي سياق هذا الشكل من  الولاء القائم على العجز والخضوع، لا يمكن رسم فكرة واضحة  عن العقد الاجتماعي (الدستور والقانون)، فالمجتمع في الواقع خاضع لإرادة السلطة الأبوية، القادرة على تعليق العمل بهذا العقد وتنفيذ ما تشاء، وكأن بعض التصرفات، أو عصيان الأب، بحاجة إلى سلطة قد تنتهك حق المواطن/ الطفل، لكنها تتجاوزه وعياً، وتحاول تقويم طريقه، لذا تحاول السلطة إقناع الشعب بشتى الوسائل أن أسلوب إدارتها هدفه مصلحة المواطنين، ويرسم الفن صورة مثالية لهذه السلطة وأدواتها، وصورة قاتمة لأعدائها.