fbpx

في الذكرى الـ12 للثورة السورية: لا تصافح! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد 12 عاماً على انطلاق الثورة السورية، والتي تلتها حرب بين الكبار على أرضنا، أكتب لأقول إنني لم أقرأ في التاريخ عن شعب أكثر شجاعة من أولئك الذين نزلوا الى وسط المدن وهتفوا ضد رئيس أوهمهم مع أبيه أنه فرعون لا يُقهر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أكتبُ بعد 12 سنة، على ثورة البلاد التي ولدتُ فيها. أكتب من خارجها، أنا اللاجئة إلى الأبد، بجانبي صوت لينا شماميان تغنّي للشام “فيا ليت قبري وفستان عرسي بفلّك يعمر”، أتذكر مي سكاف وخوفها من الموت خارج سورياها العظيمة التي لا تحمل اسم عائلة أحد، مي التي ماتت بعدما كتبت “عندي أمل”، لم يُعدها أحد الى بلادها لأنها تخيف الأجهزة الاستخباراتية حتى وهي ميْتة ولا حول لها ولا قوة. أنا لست مي، لكنني ورثت أملها وعنادها، لذا أكتب عن بلاد أعتقد أنني لن أراها مجدّداً.

عندما كنتُ صغيرة، كانت سوريا بالنسبة إلي شوارع واسعة مغبّرة، وأناساً أصواتهم عالية ولكنتهم حادّة، سيارات “تاكسي” صفراء لا تنتهي عند أي خط أفق، جدتي التي تنتظر زيارتي لتأخذني بجولة في الحي تنتهي بساندويش شاورما، أولاد خالاتي وخلّاني الذين علموني كيف نعيش الطفولة في الأحياء الفقيرة، البيوت المتلاصقة التي تحجب الشمس والسماء، جارتنا أم حسّان التي لا تتوقف عن الصراخ على زوجها طوال اليوم، أنفي النازف من شدة الحرارة، ومئة قصة روتها لي جدتي على السطح بعد الظهر وهي تحرك رُب البندورة. كانت سوريا زيارة جميلة لأسبوعين في السنة، حفظت عنها صورة البلاد التي لا تنام ولا تهدأ، فإذ بها تموت. كنت أشبه بالسياح الذين لا يرون من البلاد إلّا جمالها، لذا عندما بدأت الثورة السورية عام 2011، غضبت لأن أحدهم أفسد عطلتي الصيفية. كنت طفلة لا تفقه بالسياسة إلّا ما يبثه التلفزيون الذي يتحكم أبوها بقنواته. غضبت، مَن ذلك الأحمق الذي استيقظ فجأة وقرر أن يُحرق بلاده؟ أبي كان يقول إنها مؤامرة، وإنها ضمن خطة ممنهجة لتدمير سوريا، سوريا التي عرّفها أبي على أنها بلاد الخير والأمان، ولم يكن لي إلا أن أصدقه. تبنيت رأي أبي لأنه كان مريحاً، لا مسؤولية فيه أو ذنب شخصي، بل هناك متهم غريب لا نحمل عاطفة تجاهه، جاهز لتحمّل اللوم والشتائم. كبرت وأنا أحقد على أولئك الوحوش الذين اجتمعوا وحاكوا المؤامرة ودمروا عطلتي الصيفية. 

أكتبُ بعد 12 سنة، على ثورة البلاد التي ولدتُ فيها. أكتب من خارجها، أنا اللاجئة إلى الأبد، بجانبي صوت لينا شماميان تغنّي للشام “فيا ليت قبري وفستان عرسي بفلّك يعمر”.

كان ذلك قبل أن أتعلم كيف تُقرأ السياسة بأعيننا لا بأعين الآخرين، بخاصة أهلنا. عندما أصبح البحث عن المعلومات يبعد مني بمقدار دقيقة وكبسة زر واحدة، جفلت. أن تتخذ القرار بالبحث عن الحقيقة وحدك، إنه أمرٌ مخيف لأنك بهذا القرار تشكك في رواية أهلك، التي كانت بمثابة الحقيقة المطلقة لسنوات طوال، أنت على وشك أن تخرج من معسكر كنتَ في خنادقه مذ بدأت الحرب لتزحف بين الرصاص وحقل الألغام، باحثاً عن الحقيقة خارجه وربما في خنادق معسكر آخر. لكنني أعرف أن الهروب لا ينتهي إلا بمزيد منه، وأنا لا أود إكمال حياتي وأنا أركض. دقيقة واحدة وكبسة زر واحدة، مصدر جديد للأخبار والمعلومات، مئات المقالات والوثائقيات، وبعدها لم أرَ سوريا كما كنت أراها في الصغر وفي تلفزيون أبي، وظللت حاقدة على الأشرار والمؤامرات، لكنهم هذه المرة زادوا واحداً، وحرصت على وضع اسمه في رأس القائمة وباللون الأحمر، حتى أتذكر دائماً أنه هو من خيّرني بين الأمان والحرية. 

لم أتوقف مذاك عن قراءة الحقيقة، وفي الأيام التي حاول العالم طمسها، كنت أحفر الأرض وأبحث عنها، وعندما تعذر عليّ ذلك، كنتُ أكتبها أنا. سوريا ليست ما أتذكره عنها، وليست كما يعرّفها أبي ولا تلفزيونه، وليست بلد “المستشفيات والمدارس ببلاش”، سوريا بلد قوي قضمه نظامه ورؤوس الأموال المقربة منه، سوريا هي السبعة ملايين لاجئ في العالم، هي ضحايا مجازر الكيماوي والبراميل المتفجرة والإرهاب، هي شعبها الذي يعيش مجاعة ويموت من البرد والزلازل والإهمال.

أصدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان تقريراً جديداً في آذار/ مارس الحالي، يحدد بالأرقام من هو نظام الأسد، وإن كانت الآراء تختلف فالأرقام ثابتة ولا تحتمل تعدّد الوجهات، فبين عامي 2011 و2022 وصل عدد الضحايا السوريين الذين قضوا تحت التعذيب الى 14697، من بينهم 14475 قتلهم النظام السوري والميليشيات الحليفة له تحت التعذيب، من بينهم 182 طفلاً و94 امرأة. أما ضحايا الاختفاء القسري، فقد وصل عددهم الى 111907، منهم 95696 تم إخفاؤهم على يد النظام والميليشيات الحليفة له، من بينهم 3014 طفلاً و6642 امرأة. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان، فإن عدد ضحايا الاعتقال وصل الى 154398، منهم 135253 اعتقلهم النظام من بينهم 5161 طفلاً و10159 امرأة. وفي المجمل، فإن عدد الضحايا الأطفال في سوريا هو 22981 طفلاً، قضوا بين قصف واعتقال وتعذيب وتجنيد. 

بعد 12 عاماً على انطلاق الثورة السورية، والتي تلتها حرب بين الكبار على أرضنا، أكتب لأقول إنني لم أقرأ في التاريخ عن شعب أكثر شجاعة من أولئك الذين نزلوا الى وسط المدن وهتفوا ضد رئيس أوهمهم مع أبيه أنه فرعون لا يُقهر، هتفوا ضده تحت أنظاره وأنظار عساكره، لم أشهد على ثورة أصدق من تلك التي خاضها أهل الأرياف السورية بوجه ديكتاتور ظنّ نفسه إلهاً، لم أبكِ في حياتي كما بكيتُ على السوريين الذي دفعوا كل الأثمان في سبيل الحرية. أكتب لأقول إنه من الإنسانية أن تكتب ضد هذا النظام وحلفائه، ومن العدل ألا تنسى من دفع دماً وقاتل وآمن بغد أفضل، من العدل أن تتذكر هذا كله في حين تذهب الدول الكبيرة لتجتمع مع رئيس النظام السوري بشار الأسد فوق الدمار والأنقاض. 

إقرأوا أيضاً: