fbpx

التمسّك بالمبادرة في وجه قادة الانهيار: تحرّكات المعلمين اللبنانيين نموذجاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يمكن فصل معركة أساتذة القطاع العام عن الحل المالي الشامل، حيث أن سبب عجز أحزاب الطوائف في تقديم حلول للأساتذة هو رفض تلك الأحزاب وشركائها المصرفيين الإقرار بمسؤوليتهم واستعدادهم لتحمّل الخسائر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


“أدعو المعلمين إلى مواصلة العام الدراسي وعدم العودة الى الإضراب، اعتبروها مساهمة إنسانية – بكل المقاييس الدينية والأخلاقية، الإيمانية، الدينية”. 

جملة تلخّص الموقف المختصر لأمين عام “حزب الله” حسن نصرالله في يوم 9 آذار/ مارس حول إضراب الأساتذة في المدارس الرسمية احتجاجاً على التدهور الاقتصادي والاجتماعي. 

نصرالله شدد في خطابه على أهمية مقاومة “اليأس” عبر “التمسك بالأمل” و”المساهمة الإنسانية”، بمعنى آخر هو يطلب من موظفي القطاع العام، ومن بينهم المعلمون، أن يعملوا من دون مقابل، أي وفق نظام السخرة.
هي المقاربة نفسها يكررها الأمين العام لـ”حزب الله”: تضامن رمزي، ضغط باتجاه شل الحركات الاجتماعية النقيضة، والتركيز على العامل الخارجي على حساب التناقضات الفعلية، التي يشارك فيها بطريقة مباشرة. لذلك، يحسم حسن نصرالله الموقف مجدداً، بل بالأحرى الموقف محسوم منذ سنين. لا شيء غريباً في هذا الخطاب؛ ببساطة التزم نصرالله بالموقع والدور الذي يلعبه منذ أوائل ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، عندما دعا مناصري الحزب إلى الخروج من الشارع والتمسّك بجثة نظامٍ منهارٍ.


“النيوليبرالية الطائفية” 

يرى نصرالله وبقية أقطاب النظام في أساتذة القطاع العام مجموعات تابعة، غير قادرة على رسم مستقبل حياتها، مجرد أرقام حسابية خدمةً لمشروع اللادولة والزبائنية، وذلك بمواجهة المقاربة التاريخية لمن يرى في الأساتذة ركناً أساسياً لبناء الدولة الاجتماعية التي تضمن حق التعليم لجميع المواطنين والمقيمين في لبنان.  

بحسب الباحثة الاجتماعية ريما ماجد، يحكُم لبنان نظام “النيوليبرالية الطائفية”، وهو مزيج من تقاسم السلطة بناءً على الهُويّة الطائفية ونظام اقتصادي نيوليبرالي شرس يعتمد على الريْع وعلى تسخير مرافق الدولة العامة لضمان استمراريته في الحكم. وفي الوقت نفسه، ما من شخص أو مجموعة واحدة ظاهرة تحكم الدولة بالمعنى السياسي الحقيقي، إنما قادة طوائف يتحالفون ويتخاصمون من خارج المؤسسات الدستورية لضمان مصالحهم. 

من هذا المنطلق، حاولت أحزاب الطوائف ترويض الأساتذة واستيعابهم منذ بدء الإضراب في أوائل شهر كانون الثاني/ يناير، عبر التحاقها (من خلال الروابط النقابية التابعة لها) بالإضراب القائم قبل أن تتراجع عن تضامنها المزيف في 6 آذار، وتعلن فك الإضراب، وذلك من دون العودة إلى الجمعيات العمومية للأساتذة.

اختلف الوضع من جهة النظام، لأنه وبكل بساطة عاجز عن الإجابة عن أسئلة حتمية تتعلق بالمسائل الاقتصادية – المعيشية، وذلك لارتباطاته بمصالح تناقض مصالح الفئات التي يدّعي زوراً تمثيلها.

نصرالله شدد في خطابه على أهمية مقاومة “اليأس” عبر “التمسك بالأمل” و”المساهمة الإنسانية”، بمعنى آخر هو يطلب من موظفي القطاع العام، ومن بينهم المعلمون، أن يعملوا من دون مقابل، أي وفق نظام السخرة.

ردّ الأساتذة وتصاعد الصراع الاقتصادي

رفض الأساتذة قرارات الروابط واصفين إياها بغير الشرعية، فملأوا ساحة وزارة التربية والتعليم العالي ونصبوا الخيم، متمسكين بالإضراب حتى تحقيق مطالبهم برواتب عادلة ومصححة، بتثبيت سعر “صيرفة”، وضمان الاستشفاء لهم. 

وكانت أحزاب الطوائف، ما بين قرار الإضراب وتعليقه، تحاول بشتى الوسائل تحفيز الأساتذة على التراجع عن “ثورتهم”، عبر رشوة الأساتذة وتأمين مساعدات خاصة لهم من خارج الدولة، وإرساء ما سمته رئيسة اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي، نسرين شاهين، “بالفيدرالية التربوية”، حيث تتعامل أحزاب الطوائف مع الملف التربوي وكأنه عمل خيري، وليس “حقوقاً مقابل عمل”. وبذلك تحوّل إضراب الأساتذة من تحرك للحصول على مكتسبات محقة إلى انتفاضة على أطر نقابية انتهت صلاحيتها- وإن كان ذلك لن يدوم بسبب ضغوط الروابط وغياب أي غطاء نقابي يحمي الأساتذة المتمردين.

وسلوك أمين عام أقوى حزب لبناني في البلاد في هذا القطاع المتواضع، ليس إلا مؤشراً على الفصل بين “حزب الله” والقواعد الشعبية التي كانت تتمتع بالحد الأدنى من الاستقلالية المالية. وهذا الفصل نتيجة طبيعية لموقع “حزب الله” الحالي في الصراع العام بين كتل مجتمعية، مهنية، نقابية مختلفة من جهة، وكتلة أخرى جمعت بين مصرفيين وسياسيين وبعض النخب والصحافيين، ومحاولته أن يتفادى المسالة الأساسية التي تكمن في تحديد المسؤوليات في توزيع الخسائر، لإرضاء شركائه المصرفيين وخداع الفئات الشعبية التي يدّعي تمثيلها. فيصبح الأستاذ رسالة إنسانية وليس عاملاً يستحق أجراً عادلاً وشريكاً في بناء الدولة. وهذه ليست المرة الأولى التي تبرر فيها السخرة عبر الخطاب “الأخلاقي” الفارغ. فالتاريخ يعج برجال الاستعباد والاستعمار ورأس المال، الذين أتقنوا استخدام الأيديولوجيا للحفاظ على نظام “الستاتوس كو”.

على سبيل المثال، ألغى الرئيس الراحل إميل اده عام 1930، 111 مدرسة ابتدائية رسمية، وصرف حوالى 400 معلم رسمي (مرسوم 6130) بحجة أنهم لا يعرفون اللغة الفرنسية، ضمن سياسة ممنهجة للانتداب في ضرب التعليم الرسمي وضمان احتكار الإرساليات للملف التربوي.  

القراءة المطلوبة اليوم: الحل المالي الشامل 

لا يمكن فصل معركة أساتذة القطاع العام عن الحل المالي الشامل، حيث أن سبب عجز أحزاب الطوائف في تقديم حلول للأساتذة هو رفض تلك الأحزاب وشركائها المصرفيين الإقرار بمسؤوليتهم واستعدادهم لتحمّل الخسائر. فالموقف واحد متضامن بين أكبر الكتل بوجه المجتمع: لن يدفعوا الثمن.

وقد أعلن النائب محمد رعد موقف الحزب حول سبل حل الأزمة المالية في تصريح صريح منذ أسابيع، حيث شدّد على أهمية الحفاظ على “أموال المودعين” (أموال ليست موجودة اليوم)، ومن بعدها طالب بتحميل “الدولة والمصارف” نصيبها من الخسائر. في الأسبوع نفسه، قدّم تكتل “الجمهورية القوية” (القوات اللبنانية) مسودة اقتراح قانون للقيام بمؤسسة مستقلة “لإدارة أصول الدولة”. وبحسب الاقتراح، تهدف هذه المؤسسة إلى “إعادة تكوين الودائع وتعزيز المالية العامة”، بحجة أزمة المؤسسات العامة غير القادرة على إدارة الأصول ذات “الطابع التجاري”.

في الواقع، هذا القانون هو مجرد تأكيد على حديث رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع منذ سنة، حين شدّد على وجود خطّة “لتدمير القطاع المصرفي” والحاجة إلى محاسبة “السلطة السياسية”. نشهد في الساحة اليوم أقطاباً وقوى قد تختلف في “السياسة” وتتفق على المصالح، ولكن يبقى السؤال: ما هي السياسة إلا مشروع لإدارة المصالح المتناقضة و المتنازعة؟ بالتوازي، أصبح ملف مفاوضات صندوق النقد في الجارور، وقد وضع بين أيادٍ حددت هدفها وموقعها بالنسبة إلى هذه المصالح، ما يفسر “الهوة” بين الحكومة والصندوق. فهكذا وصفها نائب رئيس مجلس النواب إلياس أبو صعب عندما تحدث عن نقاط الاختلاف الكثيرة حول مسائل جوهرية كضبط أموال التصدير، والاستثمار في أصول الدولة، وشطب الديون، والفصل بين المودعين الكبار والصغار.

على هذا الأساس، وفي ظل هذه التناقضات، يجب على الكتل المجتمعية التي تتحرك اليوم، إيجاد عنوان مشترك يربط مصيرها الاقتصادي والاجتماعي بهذا الاستحقاق المالي والمسار التفاوضي مع الصندوق. متطلبات هذه الخطوة ليست محصورة بتقديم هذه القراءة، ولكن أيضاً تستوجب جهداً كبيراً لجمع “ممثلي” تلك الفئات في ظل غياب الأطر النقابية الرسمية. “الحركة” هي نقطة الانطلاق، وعلينا أن نتعلم اليوم من تجربة الأساتذة، الذين قرروا استبدال العجز بالفعل السياسي وفرض المبادرة كإجابة عن شلل النظام ومعارضيه.