fbpx

أين يتقاطع فشل “وادي السيليكون” مع الانهيار اللبناني؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تجاوز سعر الدولار الواحد في لبنان المئة وسبعة آلاف ليرة لبنانية. وعلى ورقة المئة ألف ليرة، لا توجد أي صورة لمسؤول لبناني، لكن توقيع الحاكم رياض سلامة يبدو واضحاً هناك. تراءى لي وجهه وأنا أنظر في غلاف كتاب جايمس هنري. ورأيت دماءً كثيرة في عينيه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تظن الواحدة منا أنها إذا وصلت إلى الولايات المتحدة الأميركية هرباً من الانهيار المالي الاقتصادي في لبنان، لن تسمع بعد الآن عبارات كـ “أموال المودعين”، “أصول المصارف” “المصرف المركزي”، وسواها من المصطلحات المرتبطة بالقطاع المصرفي.

أقلّ من شهر على وصولي إلى بلاد العمّ سام، وينهار مصرفان دفعة واحدة!

لوهلة خُيّل إليّ أنني سأعيش السيناريو نفسه مجدداً: حجز الودائع، منع السحوبات، طوابير أمام المصارف، “شيك بانكير”، منصة صيرفة، “لولار”، “فريش” دولار، جمعية المصارف، رياض سلامة، مارسيل غانم… لكن مهلاً، الأمر كان مختلفاً تماماً. بسرعة جرى احتواء الأمر، تحركت الإدارة الأميركية وأكدت أن الودائع محميّة ومؤمّنة، وطلبت من أصحاب الودائع التي لا تتجاوز الـ 250 ألف دولار، الحضور في أي وقت لسحب أموالهم. 

على وقع استمرار الانهيار في لبنان، وتجاوز الدولار عتبة المئة ألف ليرة، تابعتُ وسائل الإعلام الأميركية في الأيام الماضية لمحاولة فهم ما يحدث وكيف سارت الأمور بسلاسة من دون تحميل المودعين أية أعباء أو خسائر. ثم لجأتُ الى الخبير الاقتصادي والصحافي الاستقصائي الأميركي جيمس إس هنري، الذي كتب عن هروب رأس المال والتهرب الضريبي والعدالة الضريبية والتمويل التنموي.

ساعدني هنري على فهم الموضوع تقنياً وكيف تدخلت الحكومة لتقييم الأصول وتقدير الودائع بعد انهيار المصرف، ولماذا كان الهم الأكبر للبنك الفيدرالي هو ضمان حقوق المودعين.

أصدر هنري كتاباً تحت عنوان the blood bankers، يرى فيه أن “إعادة تشكيل عالمنا غالباً ما تتم بطريقة شريرة”، من خلال أسواق رأس المال المفتوحة على مصراعيها وشبكة مصرفية دولية موجودة لـ”غسل مئات المليارات من الدولارات في مكاسب غير مشروعة”.

“هذه ثاني أو ثالث أكبر الإخفاقات المصرفية في تاريخ الولايات المتحدة. منذ العام 2000، كانت هناك 565 إخفاقاً مصرفياً في الولايات المتحدة، من ضمنها تلك التي حصلت في العام 2008، تمت تغطيتها من شركة تأمين الودائع الفيدرالية”.

 يتابع الصحافي الاقتصادي والحقوقي الأميركي عن كثب ما يحدث في أميركا، يقول لـ “درج”: “هذه ثاني أو ثالث أكبر الإخفاقات المصرفية في تاريخ الولايات المتحدة. منذ العام 2000، كانت هناك 565 إخفاقاً مصرفياً في الولايات المتحدة، من ضمنها تلك التي حصلت في العام 2008، تمت تغطيتها من شركة تأمين الودائع الفيدرالية”.

أنشئت هذه الهيئة في مثل هذه الأيام من العام 1933 (12 آذار/مارس) بعد الكساد الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة في عشرينات القرن الماضي، وهي مدعومة من الحكومة وجزء أساسي من النظام المالي الأميركي،  وبحسب موقعها الإلكتروني، منذ بدء عملها في العام 1934، “لم يخسر أي مودع بنساً واحداً من الأموال المؤمنة نتيجة أي فشل مصرفي”.

يلاحظ صاحب كتاب “مصرفيون قراصنة”، أن “ما هو غير عادي في الفشل المصرفي الحالي هو أن معظم ودائعه كانت غير مؤمنة”. اعتباراً من نهاية العام الماضي، يتابع هنري، “2.3 في المئة من ودائع المصرف البالغة 175 مليار دولار مؤمنة، أي ما يقارب الـ 4 مليارات دولار فقط”. بالتالي، حسب هنري، “هناك بعض الودائع الكبيرة جداً، التابعة لبعض شركات التكنولوجيا الثرية جداً، والتي تتركز في معظمها في المصرف المنهار الذي يقوم في الأساس على تقديم الخدمات المصرفية لنحو نصف الشركات الناشئة في العاصمة واشنطن”، ما دفع الحكومة الأميركية إلى التدخل السريع، “حتى لا تسمح لهذه الشركات بأن تنهار، لأن انهيارها سيؤدي إلى خسارة الآلاف من الوظائف التقنية، وستغلق الكثير من شركات التكنولوجيا الناشئة كلياً”. 

يترجم هنري كلامه بصيغة أكثر وضوحاً: “لو جرى اتباع الأصول القانونية مع هذا المصرف، من دون تدخل الحكومة، سيخسر الكثير من المودعين أموالهم”. 

القروض المغرية التي يصعب رفضها، أو ما يسميها هنري بالإنكليزية بـ”سويت هارت لونز”، هي القاسم المشترك بين لبنان والولايات المتحدة الأميركية، وفساد البنوك والتحايل على تطبيق القوانين المنظمة للعمل المصرفي موجودة في البلدين، يقول هنري إن “الخطيئة لم يرتكبها الاحتياطي الفيدرالي وحده ،الذي كان يعمل لمحاربة التضخم، بل كانت بسبب عدم تحوّط المصرف ضد زيادات أسعار الفائدة، خصوصاً أنه قدّم لزبائنه قروضاً ميسرة مغرية مقابل هذه الودائع الضخمة”.   

“يشمّ” هنري رائحة فساد “بحاجة إلى تحقيق استقصائي”، يقول إن “الأزمة المصرفية ناتجة من حقيقة مهمة تكمن في أن رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي كان ضعيفًا جداً في وضع نظم للبنوك، وهذه المؤسسات المالية مثل بنك سيليكون فالي لديها  الكثير من العلاقات السياسية”. 

يكشف هنري أن “رئيس مجلس إدارة المصرف المنهار هو عضو في مجلس إدارة الجهاز المركزي في سان فرانسيسكو”. ماذا يعني ذلك؟ حسب هنري، “علينا أن نفتش عن علاقته السياسية والنفعية المشبوهة برئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بلوسي، وقربه من كثير من أعضاء ديمقراطيين في الكونغرس مارسوا ضغوطاً للتخلص من النظم والقوانين المصرفية التي لم تعجبهم، وهذا يحتاج إلى تحقيق استقصائي لإثباته”.

لكن، لماذا تتحمل الحكومة مسؤولية إعادة الودائع غير المؤمنة؟ يقول هنري “البعض يعتبر أنه كان يجب ترك المودعين لمصيرهم، لأنهم يعرفون القوانين وقبلوا بها وكانت ودائعهم غير مؤمنة”. وهذه سردية سمعناها في لبنان، عن أن المودعين يتحملون مسؤولية ثقتهم العمياء بالمصارف. وهنا الفارق الجوهري بين الحكومتين الأميركية واللبنانية. فإدارة الرئيس الأميركي جوزف بايدن، قررت إنقاذ المودعين “المتهورين” والمصرف الذي تدور حوله “شبهات الفساد”، لإنقاذ الاقتصاد الأميركي قاطبة، فيما قررت المنظومة اللبنانية التضحية بالمودعين والاقتصاد اللبناني قاطبة. 

الولايات المتحدة، بحسب هنري، لديها قطاع مصرفي قوي، يتداخل فيه الكثير من التأثير السياسي من كلا الحزبين، وهنا يقول الصحافي الاقتصادي إن “رأسمالية العصابات في صلب هذا النوع من الانهيارات المصرفية”. لكنه يلوم بشكل أساسي المصرفيين: “إنهم خطرون جداً، لديهم تأثير سياسي قوي، ويقومون بصياغة القوانين والقواعد التي تناسبهم”. 

ما الحل إذاً؟ إيجاد قوانين صارمة وإعطاء الحكومات صلاحيات واسعة: “عندما ينهار مصرف، يجب ألّا تقوم الحكومة بإنقاذه، بمعنى إنقاذ أصحابه، بل يجب أن تستولي عليه وتنظفه من الفساد، وإلا ستنفق الكثير من الأموال لإنقاذ البنوك الفاسدة. كان هذا الخطأ الأساسي في أزمة العام 2008، حيث لم تتم محاسبة أي مسؤول مصرفي بشكل جدي. لم يُزجّ بأحد منهم في السجون، وعدد قليل منهم خسر تراخيصه. لقد حصلوا على أطنان من الأموال لإنقاذهم”. 

يبدو هنري منزعجاً من تعويم حكومته المصارف المنهارة، لكنه  يتفهّم ما تفعله الحكومة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الوطني. لم أخبر هنري بشعوري تجاه حكومتي، وما فعلته باقتصادنا الوطني، لكنه  قدّم لي نصيحة أخيرة تتعلق بلبنان: “سيطروا على المصارف والمصرفيين”. 

وضع هنري على غلاف كتابه “مصرفيو الدم”، صورة الرئيس الأول للولايات المتحدة الأميركية جورج واشنطن، الموضوعة نفسها على ورقة الدولار، واختار أن تكون عيناه باللون الأحمر، دلالة على وحشية النظام المصرفي الأميركي. 

تجاوز سعر الدولار الواحد في لبنان المئة وسبعة آلاف ليرة لبنانية. وعلى ورقة المئة ألف ليرة، لا توجد أي صورة لمسؤول لبناني، لكن توقيع الحاكم رياض سلامة يبدو واضحاً هناك. تراءى لي وجهه وأنا أنظر في غلاف كتاب جايمس هنري. ورأيت دماءً كثيرة في عينيه.