fbpx

احتجاجات باريس وقانون نظام التقاعد: ماذا وراء الأزمة السياسية في فرنسا؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في هذا الوقت، وبينما تتصاعد حركة التعبئة والإضرابات، التي شملت قطاعات النفط والطاقة، والمواصلات، وعمال النظافة، وفئات واسعة من قطاعي التعليم والصحة، من الواضح أن أحزاب المعارضة، ستلجأ إلى عرقلة مهمات ماكرون، لما تبقى له في الرئاسة،

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حين هرع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الملعب، بعد خسارة فرنسا أمام الأرجنتين، في المباراة النهائية لكأس العالم 2022، كي يواسي نجم المنتخب الفرنسي كيليان مبابي، اعتُبر ذلك وقتها، محاولة منه للظهور قريباً من النجم الأكثر شعبية في فرنسا اليوم، وبالتالي قريباً من الناس. لكن الرئيس ذاته رفض أن يناقش مع نقابات العمال مشروع القانون، الذي تبناه مع أعضاء حكومته لـ”إصلاح نظام التقاعد”، محافظاً على صورته شبه الدائمة في أذهان كثر من مواطنيه، الذين لا يترددون في وصفه بالاستعلاء.

مرّرت الحكومة الفرنسية، التي ترأسها رئيسة الوزراء إليزابيت بورن، مشروع قانونها “لإصلاح نظام التقاعد”، من خلال اللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور الفرنسي، والتي تعطي إمكان تبنّي نص القانون، من دون التصويت عليه في الجمعية العامة، في حال لم يقدم النواب اقتراحاً لحجب الثقة عن الحكومة، يحظى بغالبية الأصوات المطلقة.

وكان مشروع القانون، الذي يحظى بمعارضة واسعة في الشارع الفرنسي، مرَّ في مجلس الشيوخ بعدما حازَ 195 صوتاً، حيث الغالبية هناك لليمين، بينما عارضه 112 فقط. ولأنه بحاجة إلى الغالبية المطلقة من أصوات الجمعية العامة كي يصبح نافذاً، أي 287 صوتاً، وهو ما لا يملكه الرئيس إيمانويل ماكرون وحزبه “النهضة” في البرلمان، جازف الرئيس بمستقبله السياسي، واتخذ القرار بتمرير القانون من خلال اللجوء إلى المادة 49.3.

وعلى رغم نجاة الحكومة من الإطاحة بها، بعد جلسة الجمعية العامة يوم الاثنين 20 آذار/ مارس 2023، إلا أنه من الواضح دخول فرنسا على خطّ أزمة سياسية عميقة، ربما تكون الأخطر منذ احتجاجات السترات الصفر، التي انطلقت في خريف 2018.

يأتي القانون الذي يرفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، ضمن سلسلة قوانين مرتبطة بشخص الرئيس ماكرون، مذ كان وزيراً للاقتصاد في حكومة الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند، إذ تبنى قوانين تهدف إلى “إصلاح النموذج الاجتماعي” في فرنسا، وهو ما يلاقي معارضة واسعة في الشارع، بخاصة أن من يتبناها رئيسٌ لطالما اتهمه خصومه بالانحياز الى العولمة والشركات الكبرى، إضافة إلى خلفية عمل مصرفية. فيما لم يتردد الرئيس السابق  فرانسوا هولاند، بالإجابة عندما سئل في أحد مداخلاته، إذا كان ماكرون رئيساً للأغنياء، بالرد سريعاً “بل هو رئيس الأكثر غنىً”، في عبارة باتت شديدة التداول والتكرار، بخاصة أن قائلها هو من أتى بماكرون وزيراً في حكومته.

هكذا، وعلى رغم طرح مذكرتي حجب ثقة في وجه حكومة إليزابيت بورن، إلا أنها نجت من السقوط بفارق 9 أصوات فقط، فالمذكّرة الأولى قدمها نواب اليمين المتطرف، ولم تحظَ إلا بـ 94 صوتاً. بينما حصلت المذكرة الثانية على 278 صوتاً، والتي قدمتها كتلة (ليوت) من يمين الوسط، بدعم نواب من الوسط، وكامل تحالف الخضر واليسار (نوبس)، بالإضافة إلى عدد من نواب كتلة اليمين (الجمهوريون). وعلى رغم أن رئيس المجموعة النيابية لحزب الجمهوريين، كان أشار في مداخلته أمام الجمعية العامة، إلى أن نواب كتلته لن يصوتوا على مذكرة حجب الثقة، لكن يبدو أن هناك من يخالفه في توجهه من زملائه داخل الكتلة، ما يعطي فكرة عن حالة التشتت التي يعيشها اليمين التقليدي في فرنسا، بخاصة بعد النتيجة المخزية لمرشحته فاليري بيكريس في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2022، إذ لم تنجح في تجاوز عتبة الـ5 في المئة من الأصوات، يضاف إليها انزياح جزء من كتلة الحزب الانتخابية وكوادره باتجاه اليمين المتطرف، والتحاق آخرين من أوساط اجتماعية أكثر انفتاحاً، واقتصادية أكثر راحةً، بحزب الرئيس ماكرون.  

في السياق، لم تكد الجمعية العامة تنهي جلستها، وتعلن نجاة الحكومة من السقوط بفارق بسيط من الأصوات، حتى اندفعت أعداد من الفرنسيات والفرنسيين إلى الشوارع احتجاجاً على إقرار قانون “إصلاح نظام التقاعد”، بطريقة اعتبروها غير ديمقراطية، وتهدّدُ الحياة السياسية في البلاد، بخاصة أن التعديل يتعلق بإضافة سنتين على سنوات العمل، ويخصُّ حياة أشخاص يعملون في مهن مختلفة، يتطلب بعضها جهداً عضلياً ونفسياً إضافياً، كما أنه يأتي فيما تعاني فرنسا أزمة اقتصادية، تشمل ارتفاع الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية.

اللافت في الشوارع، الدور الحيوي للشباب في التظاهرات، هؤلاء لم يترددوا على وسائل التواصل الاجتماعي، بالمطالبة المستعجلة بما أسموه “ثورة فرنسية ثانية”، ذاك أن الجيل الشاب في فرنسا اليوم، يدرك أنه أول جيل في تاريخ البلاد المعاصر، يعيش في ظروف اقتصادية أسوأ من جيل آبائه، تحديداً من ناحية القدرة الشرائية، ومتوسط الدخل، وتوافر فرص العمل. 

لذلك، فمن غير المستغرب أن تحجز المجموعات الشابة مكاناً بارزاً في حركة الاحتجاج والتظاهر، الممتدة في المدن الفرنسية منذ أسابيع، والتي تخللها اعتقال العشرات في باريس وغيرها من المدن الكبرى، كما تخللتها مواجهات مع الشرطة، وإلقاء مقذوفات نارية، وبناء متاريس، وإحراق حاويات القمامة التي تملأ العاصمة الفرنسية، بما يزيد عن 10 آلاف طن من القمامة المتراكمة، نتيجة إضراب عمّال النظافة المحتجين على مشروع قانون “إصلاح نظام التقاعد”.

تحوّلات سياسية نحو الصراع

مشهد الصراع الذي تعيشه فرنسا الآن، يمكن ربطه بتحوّلات عرفتها البلاد، خلال السنوات الفائتة، ويبدو من خلالها، أنها طوت صفحةً من تاريخها، تمثّلت بثنائية اليسار الاشتراكي واليمين الجمهوري في الحياة السياسية. إذ شكّلت الانتخابات الرئاسية في عام 2017، تجليّاً سياسياً مهماً لهذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية، فالحزب الاشتراكي الذي لطالما مثّل اليسار التقليدي، انهار إثر تلك الانتخابات، ولم يصل مرشحه بينوا هامون إلى الدورة الثانية. بينما قاوم “حزب الجمهوريين”، وعلى رغم حصول مرشحه فرانسوا فيون على نسبة عالية من الأصوات، إلا أنه لم يصل إلى الدورة الثانية. لتنفتح الطريق أمام الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي طالما رفع شعار أنه ليس من اليمين ولا من اليسار، في مواجهة مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين. هذا المشهد غير المسبوق، ستكرّسهُ انتخابات عام 2022 الرئاسية، والتي ستحمل الثنائية نفسها إلى جولتها الثانية، إلا أنها ستسفر عن انهيار متسارع لليمين التقليدي، وشبه اندثار لليسار الاشتراكي. في المقابل، سيعزز اليسار الراديكالي الذي يقوده جان لوك ميلانشون، مكانة كتلته، لكن اللافت في هذا المشهد العام، هو حالة الضياع التي تعيشها الحياة السياسية الفرنسية والتي لا يمكن تجاهلها، فلا أحد من أصحاب الكتل الانتخابية الثلاث الكبرى، أي الوسط واليمين المتطرف واليسار المتطرف، يستطيع أن يحصل على غالبية برلمانية، كي يحكم من خلالها البلد، الذي يبدو وكأنه عصي على الحكم، في ظل التركيبة الحالية.

في هذا الوقت، وبينما تتصاعد حركة التعبئة والإضرابات، التي شملت قطاعات النفط والطاقة، والمواصلات، وعمال النظافة، وفئات واسعة من قطاعي التعليم والصحة، من الواضح أن أحزاب المعارضة، ستلجأ إلى عرقلة مهمات ماكرون، لما تبقى له في الرئاسة، وربما لن يطول به الوقت، حتى يضطر لإقالة رئيسة وزرائه إليزابيت بورن، تحت ضغط الشارع والمعارضة، غير أنه من غير المتوقع تراجعه عن القانون الذي أقرّه، تحت قبّة البرلمان من دون تصويت.

وبينما يظهر نشاط الجيل الشاب والمجموعات اليسارية والطالبية في الشارع وحركة التظاهر، يجمع معظم المهتمين على أن هذا القانون والطريقة التي أقرّ بها، يمهّدان الطريق أكثر فأكثر، لليمين المتطرف و”حزب التجمع الوطني”، لتحصيل مكاسب سياسية وانتخابية، حيث ظهر خلال الفترة الماضية، بوصفه كتلة معارضة صلبة في وجه مقترحات القانون. كما حاولت لوبين الظهور دائماً، بوصفها تحترم المؤسسات الدستورية، بينما رمت باتهامات محاباة العولمة والأغنياء على الرئيس، وعدم احترام المؤسسات على خصومها في اليسار، الذي يجمعه تحالف نيابي قابل للتفكك في أي لحظة. يحصل هذا بينما يتم الإعداد لقانون جديد للهجرة، لا يبدو أنه سيكون أقل إثارة للخلاف، فيما تلوّح انتخابات 2027 بيدها مقتربة، فيما شبح المواجهة يثير قلق الجميع.