fbpx

الأولى لك والثانية عليك… عن الصوم والوعي والحرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما صيامك إن كان همك البحث عمن خالفك؟ أياً كان سبب مخالفته إياك؟ عند المسلمين كما عند غير المسلمين، الصوم رياضة روحية ندخلها أحراراً، ومن جملة هذه الرياضة احترام حرية الآخرين، إن لم يكن من باب المعتقد فمن باب تحمّل الاختبار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في كتابه “مذكرات صائم”، وصف  الكاتب المصري الراحل أحمد بهجت (2011)، مشهداً يسير فيه مع صديق له قبل موعد الإفطار في رمضان. تظهر أمامهما فتاة جميلة في تنورةٍ قصيرة، لكن لا المسبحة في يد أيّ منهما، ولا كونهما صائمين منع شهوة النظر، بل واصلا تحريك مسبحتيهما آلياً، وأعينهما معلقة على الفتاة التي يتبعانها بلا تفكير قبل أن يفطنا إلى أنهما قد أضاعا صيام اليوم. أي خطأ، كما يعرف كل مسلم، قد يفسد صوم النهار فيضيع أجره، وإن بقي الصائم مُلزماً بالامتناع عن الطعام والشراب باقي النهار.

 يذكرنا بهجت بالتعبير الشائع “النظرة الأولى لك والثانية عليك”، فربما فاجأك خطرٌ داهمٌ، لكن ما إن وعيت ما ترى فقد عرفت ما عليك. على عكس ما نسمع كثيراً اليوم، وعلى النقيض من الذكورية الطافحة، لا يلوم الكاتب، الذي خط كتابه هذا عام 1968 ليُطبع بعد ذلك بسنوات، الفتاة ولا يعلق على ما ترتديه، بل يصفها (حرفياً) بالـ”ضحية”، ويلوم من يلتهمها بعينيه بينما يستغفر الله. المحك هنا سلوك الصائم لا ما يغريه، الغرضُ من الصوم أن تلجم أنت نفسك لا أن تحمّل غيرك ضعفك. لكن أليس هذا ركناً أساساً للدين، إسلاماً كان أم غير إسلام؟  

الصوم هو الإمساك أو الامتناع، ولكنه عُرّف اصطلاحاً بالانقطاع عن الطعام والشراب. الممارسة والمنطق لا يقتصران على الإسلام، الصيام حاضرٌ في أديانٍ أخرى، كما في كنائس مسيحية، أو عند أديانٍ غير إبراهيمية كالبوذية. في هذه التقاليد كلها، ظاهرُ الصوم، قمة جبل الجليد منه، الانقطاع عما هو حلال ومباح، والسيطرة على احتياجاتنا البدنية، لكن باطنه، والشق الأصعب منه، يتمثل بترويضُ النفس وصولاً الى وعيٍ أعلى بها. في كل هذه “الصيامات” تحويلٌ للنظر مما خارجك إلى داخلك، إيقاظ عنيف لدورك في حساب نفسك وتنبيه للمؤمن إلى أنه يقف منفرداً أمام خالقه، وأنه مسؤولٌ وحده عت أفكاره وأفعاله. هذه الفلسفةُ حاضرة في منظوماتٍ متباينةٍ من الاعتقاد. من تقاليد الرهبنة المسيحية الصوم عن الكلام، بما في ذلك أحياناً الانقطاع عن الناس كلياً، الصمت يعني، حُكماً، غرقاً في التأمل، ويفترض الانتقال من الانشغال عما حولك إلى الانشغال بنفسك. ومن تقاليد اليوغا الآتية من البوذية وديانات هندية أخرى، التأمل الذي يبدأ بالوعي بالتنفس، هذا الفعل الآلي الحيوي الذي لا نعيره اهتماماً إلا حين العجز عنه. في الحالة الأولى (المسيحية)، هجران للعالم حولك لتنشغل بعالمك أنت فقط، وفي الثانية إعلاء للوعي بجسدك وصولاً إلى تدبر كل ما تفعل أو يخطر ببالك، يتشابه الهدف في الحالتين إن لم يتطابق وإن تغيرت الطرق .

الصوم حالةٌ أعلى من الوعي بالذات، تذكيرٌ  بمسؤوليتك أنت وحدك  عن كل فكرة وكلمة وفعل. وهو ما يبدو أصعب بكثير من الجوع والعطش.

وللصوم في العقائد المختلفة أيامه وسوابقه التي سنته وأحداثه التي يذكر بها. مثلاً في اليهودية، 6 أيام للصوم كل عام (بحسب التقويم العبري) منها يومان صومهما من غروب الشمس إلى غروب شمس اليوم التالي (واحد منهما عيد الغفران أو “يوم كيبور”، وهو الوحيد المذكور صراحةً في العهد القديم، والآخر “تيشا بئآف” وارد في نصوصٍ كيوم صيام وحزن على تدمير الهيكل)، وأربعة أيام الصوم فيها من الفجر إلى غروب الشمس. 

في المسيحية الصوم الأهم هو الصوم الكبير الذي يمتد إلى 50 يوماً، وهو في جزء منه يستلهم صوم المسيح 40 يوماً في البرية ومقاومته الشيطان، وفي جزء آخر يستذكر أسبوع الآلام وصولاً إلى الصلب والقيامة. 

أما في الإسلام، فواحدةٌ من العشر الأواخر من ليالي رمضان (غير محددة بشكلٍ قطعي) هي ليلة القدر التي يفترض أنها شهدت نزول القرآن على الرسول. علماً أن الصوم الأكبر ربما في رواية الأديان الإبراهيمية هو ما نجده في العهد القديم من صيامِ النبي موسى مرتين متتاليتين، كل منهما 40 يوماً وليلة. الصوم الأول منهما كان قبل تلقّي الألواح، والثاني كان طلباً للغفران بعد صناعة العجل وعبادته كما تخبرنا الرواية المشهورة. 

في هذه التقاليد كلها وغيرها التي لم نأتِ على ذكرها، الصوم حالةٌ أعلى من الوعي بالذات، تذكيرٌ  بمسؤوليتك أنت وحدك  عن كل فكرة وكلمة وفعل. وهو ما يبدو أصعب بكثير من الجوع والعطش. أنت محاسبٌ إذاً على ما تفكر به قبل أن تنطق به أو تفعله، القاعدة هذه لا تقف عند رمضان أو أي وقتٍ تختاره للصيام، لكن الدرس هو التدريب والتذكير. ربما يبدو هدف السيطرة الكاملة على الذات هذا أقرب الى الاستحالة، لكن شهر الصوم ترويض متدرج للنفس.  بعد أسابيع من الصيام، كما في رمضان وغيره من الصيامات التي ذكرنا، ستجد نفسك أكثر وعياً بأفعالك، فما يصعب في أوله أسهل في آخره، وعند نهايته يترك أثره فيك. ولأن الوعي الأعلى هو الهدف هنا، فمن غير المنطقي أن يُجبرَ أحدٌ على صيامٍ أو يُهدد إن جاهر بفطر. الصوم إما إرادة حرة تطلب وتعي وتتحمل المشقة التي وصفنا أو تظاهرٌ خالٍ من المعنى. لست مؤهلاً لإصدار حكمٍ فقهي حول جدل الجهر بالإفطار الذي نسمعه في كل رمضان، لكنني أعرف أن صيامك شأنك وحدك، فما صيامك إن كان همك البحث عمن خالفك؟ أياً كان سبب مخالفته إياك؟ عند المسلمين كما عند غير المسلمين، الصوم رياضة روحية ندخلها أحراراً، ومن جملة هذه الرياضة احترام حرية الآخرين، إن لم يكن من باب المعتقد فمن باب تحمّل الاختبار.  

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.