fbpx

 الأوسكار: وصفة من “كلّ شيء” لنيل التمثال الذهبيّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحاول جائزة الأوسكار، التي تمنحها “أكاديمية الفنون وعلوم الصورة المتحركة” أن تخلع ثوبها القديم، لتحافظ على معاصرتها ونيل اعتراف بالأجيال الجديدة عبر إيجاد صلات مع الثقافة الآنيّة، وتتويج أفلامٍ يُشك في إمكان حصولها على الجائزة في الفترات السابقة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يشعل مهاجر آسيوي كرنفال الخراب عبر الرقص داخل إحدى الشقق السكنية، التي تقطنها عائلات مهاجرة في الولايات المتحدة، في ما يسمى عدوى التحطيم. هذا ما نراه في فيديو كليب Turn Down For What، للمغني ليل جون والدي جي سنيك، الذي يذكره معظم من عاصر فترة صعود الداب ستيب في بداية الألفية. اعتُبر العمل وقتها، أي عام 2013، مراهقاً وصبيانياً. هذه السنة نال مخرجا الفيديو كليب دانيال كوان ودانيال شينرت، جائزة الأوسكار عن فيلمهما “كل شيء، كل مكان، في وقت واحد”، والذي لا يبتعد كثيراً من هذه الصيغة. فما الذي تغير في الثقافة النخبوية خلال عشرة أعوام؟ وكيف فقدت جائزة الأوسكار قدرتها على تحديد “الأفضل”؟

تحاول جائزة الأوسكار، التي تمنحها “أكاديمية الفنون وعلوم الصورة المتحركة” أن تخلع ثوبها القديم، لتحافظ على معاصرتها ونيل اعتراف بالأجيال الجديدة عبر إيجاد صلات مع الثقافة الآنيّة، وتتويج أفلامٍ يُشك في إمكان حصولها على الجائزة في الفترات السابقة، مع ذلك، وعلى رغم دعوات التجديد هذه، هناك وصفة ثابتة للحصول على الجائزة، لا تتعلق بالنوع أو الأسلوب، بل بنكهة أوسكارية تتحرك بين ثلاثة عناصر أساسية للفن، وهي السوق والالتزام الأخلاقي والسياسة. 

اليوم مع تتويج فيلم الثنائي “دانيالز”، صرح بعض النقاد أن “الأوسكار”  تحاول إنقاذ السينما من الانقراض، إذ تدرك لجنة الأوسكار اليوم أن الثقافة القادرة على العيش هي التي تلتزم بمعايير السوق العالمية، التي تغيرت جمالياتها كثيراً، بحيث لا يمكن تحليلها أو نقدها بالطريقة ذاتها التي تم بها تحكيم فيلم “العراب” مثلاً، تحاول الأكاديميّة إذاً البحث عن الفن الجماهيري الجيد ضمن طوفان الريلز والثقافة الشعبية، بصورة أخرى البحث عن الفن الذي يرتدي عباءة الجيل زد.

ملخص قصة “كل شيء، كل مكان، في وقت واحد”،  الذي نال جائزة أفضل فيلم، كان غامضاً قبل صدوره، هي عبارة واحدة، “امرأة تحاول دفع ضرائبها”، وكأننا أمام مقدمة لقصة تشيخوفية. ومع نشر التريلر، بدأت تظهر ملخصات مرتبكة للفيلم. إذ بدأنا نرى كوميديا زوجية في سياق نظرية الأكوان المتعددة مع جرعة عالية من الأكشن، ومع ظهور الفيلم وجدنا أننا بالفعل أمام كل شيء في مكان كما العنوان.

يروي الفيلم عن امرأة آسيوية مهاجرة في الولايات المتحدة، لم تنجح في تحقيق شيء في حياتها، تعيش قصة زواج فاشل مع زوج لطيف يستطيع أن يرى السعادة بتفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، وتدير دكان غسالات على وشك الإفلاس. تختبر علاقة متأزمة مع ابنتها المثلية ووالدها الآتي من الصين راهناً، في أول خمس دقائق من الفيلم تشعر كأنك أمام دراما أميركية بسيطة، امرأة مشغولة بالعمل في ليلة عيد رأس السنة الصينية. تذهب إلى مصلحة الضرائب لتواجه الموظفة التقليدية (تم بناء الشخصية اعتماداً على رسم كاريكاتوري) لكن هناك، ينفجر كل شيء. وتقفز بطلة الفيلم إيفلين التي تؤدي دورها ميشيل يوه، في عالم من الأكوان المتوازية في رحلة لمعرفة ابنتها والتقرب منها.

سرد الفيلم أشبه بحركة دوران الغسالة، مجموعة من الاحتمالات التي تمثل مصير حياة إيفلين. هي طاهية في إحداها ونجمة سينمائية لأفلام الكونغ فو في الأخرى، وفي علاقة مثلية مع موظفة الضرائب بعالم تكون فيه الأصابع عبارة عن نقانق. وصخرة ضمن احتمال لم توجد فيه البشرية، ودمية باحتمال آخر. تنتقل عبر هذه العوالم باستخدام سماعة بلوتوث -الأمر لا يحتاج الى الكثير من الجهد لكتابة حبكة خيال علمي من هذا النوع- ومن ثم تحارب تشوبو التي تمثل ابنتها جوي في عالمها الأصلي. تحاول تشوبو تدمير العوالم بسبب عدميتها؛ ولمواجهة ذلك تنقذ إيفلين الوجود عبر  تفجير الاحتمالات الأخرى لحياتها (التي تبدو مغرية في البداية ويتضح لاحقاً أنها كارثية)، والإبقاء على الأصلية، بينما تحاول منع ابنتها من هدم الوجود.

تستخدم إيفلين الخبرات التي اكتسبتها من احتمالات حياتها للقتال في الأكوان المتوازية. هذه الخبرات تتجسد في إيفلين عبر القيام بفعل غريب غير محتمل إحصائياً مثل أن ترتدي الحذاء بشكل معاكس أو أن تضع جائزة على شكل سدادة في المؤخرة. بشكل يذكرنا بمنطق الانتشار ضمن صناعة محتوى “الريلز” في  عصرنا.

هناك تعاقب مجنون للأحداث وجميعها خالية من العواقب بشكل أشبه بأفلام الكرتون. ولكن لا يستمر “الوجود” في كل كون مواز إلا لفترات وجيزة لإنجاز الحدث، ليتم بعدها إلغاؤه بالتحول إلى عالم مواز آخر-المونتاج أشبه بتصفحك لتطبيق “إنستغرام”- ما ينقل الى مشاهد الفيلم بمجمله شعوراً بأنه يحضر النسخة الواقعية من مسلسل “ريك آند مورتي”، إذ يحاول الفيلم التطرق إلى القلق الوجودي والعنف الشديد والفكاهة كما مسلسل الكرتون. ولم يخف المخرجان هذا التناص بالقول: “إن مشاهدة ريك آند مورتي كانت محبطة لهم بالفعل، لأنهم كانوا خائفين أن يقدم المسلسل الأفكار الأصيلة قبل أن يكتبوها”.

يطرح الفيلم عدداً من الثيمات المرغوبة على مستوى أفلام الأوسكار. إذ يتطرق الى موضوعة صراع الأجيال والمواجهة مع الابن الضال والتي يجب أن تنتهي بخضوع الأم. يطرح أيضاً مشكلة الهوية الآسيوية – الأميركية، وبخاصة على مستوى اللغة. فأفراد العائلة يتكلمون بلغات صينية مختلفة، والابنة تتكلم صينية سيئة. 

يحضر حاجز اللغة كأزمة هوية أساسية. طبعاً إضافة إلى قضايا المثلية، ومواضيع النسوية، مع سؤال وجودي حول معنى الحياة والذي تتم الإجابة عنه بأكثر الطرق ابتذالاً. هذا السؤال تشكل في رحلة الأم لمعرفة ابنتها، والتي بدت كقوة عدمية تحاول أن تدمر العالم كمرآة لتدمير ذاتها. عدمية الابنة تم تجسيدها مادياً عبر خبز البيغل التي كتبت عليها الابنة كل شيء. 

يقدم الفيلم هذا الخبز كرمز للعدمية المعاصرة- قصد المخرجان استخدام خبز البيغل كي لا يضطرا إلى تبريره أكثر من كونه نكتة- والحل في نهاية الصراع بين الأم وابنتها العدمية يكون عبر تقبل الحياة وملاحظة تفاصيلها الجميلة. الفكرة الوجودية الأساسية في الفيلم مفادها “حتى ولو كنا عدميين، لماذا لا نكون لطفاء”.

يرمي المخرجان ثيمات مرغوبة في سوق الجوائز ضمن فوضى من المشاهد المنسوخة من أفلام أخرى بحبكة تبيح كل شيء وهي الأكوان المتعددة. مع مهرجان من مشاهد الأكشن تصل نسبتها إلى أكثر من 80 في المئة من مجمل العمل. وهي على شاكلة أفلام جاكي شان أو ما يسمى “كوميديا الكونغ فو”، أي القتال بأغراض لا بالأسلحة، كالصحون والكراسي وغيرها، وبالفعل فإن شخصية العمل الرئيسة لم تكن للممثلة ميشيل يوه، بل تم تقديمها لجاكي شان نفسه، إلا أنه رفض لالتزامه بمشاريع أخرى.

الفيلم بمجمله أقرب إلى كولاج مشاهد سينمائية من أفلام سابقة. فيطفو فيلم ماتريكس على الكثير من مشاهد الفيلم القتالية داخل المكاتب الإدارية. وهنالك استنساخ لمشاهد من فيلم “مزاج لأجل الحب”، ونرى تلميحات من فيلم “البرازيل” ولمسات من فيلم (أشعة الشمس الأبدية لبقعة العقل المظلم). إضافة الى بعض الاقتباسات من فيلم “دائماً مشمسة في كاليفورنيا” وفيلم الرسوم الإيراني “بيريسبوليس” وأفلام كوبريك.

طرح الفيلم في السوق الصينية بأكثر من 5 عناوين، أكثرها رواجاً كان “خيال جامح”. وحاول الشريكان دانيالز من خلاله تكريس جيل جديد للأفلام السينمائية بحسب قولهما. فإذا كان “ترانسبوتينغ” و”ماتريكس” قد شكلا صدمة سينمائية لجيل كامل، فهذا الفيلم يفعل المثل، إنه انتصار لجيل الآن على مستوى القصة وأيضاً الصناعة؛ فالفيلم نقلة نوعية في مجال أفلام الأكشن والخيال العلمي، ليس بسبب تقنيات لم تستخدم سابقاً، بل لأن الإبهار التقني كانت تكلفته رخيصة جداً للمرة الأولى. نحن نشاهد فيلماً أقرب إلى أفلام مارفل على مستوى الصورة والحركة، ولكن طريقة العمل انتقلت من مئات المنفذين والاستشاريين الذين يعملون على فيلم لمارفل، إلى تسعة أشخاص فقط قاموا بمجمل العمل. وبميزانية يقول المخرجان إنها تساوي ميزانية تموين الطعام لأحد أفلام مارفل. 

لم تتجاوز ميزانية الفيلم 25 مليون دولار، لكن ذلك لم يقلل من إيقاعات الحركة الملحمية في الصراعات ومشاهد القتال. المخرجان استنبطا جماليات أفلام القوى الخارقة بميزانيات رخيصة داخل صيغ درامية محببة أوسكارياً. فالصراع يحدث داخل مبنى إداري للضرائب، والبطل امرأة آسيوية تقول “فاك ياه” بدلاً من سبايدر مان. باختصار،  فرضية الفيلم هي، ماذا سيحدث لو وضعت أمي في “ماتريكس”؟.

يعكس الفيلم العالم الآن، هو انفجار هائل لكل الصور الممكنة. هكذا يبدو العصر الراهن. عصر لا يمكن الحديث عنه إلا بذكر كل شيء وبتجاوز كل شيء. إنه أشبه بكائن معقد وذكي، إنما يتبع دوافعه فقط. 

حصل الفيلم على أكبر عدد من جوائز أوسكار في تاريخ المسابقة بالمناصفة مع أمير الخواتم “عودة الملك” عام 2003. وتعتبر الممثلة ميشيل يوه أول آسيوية تنال أوسكار أفضل ممثلة كشخصية رئيسية. عرف الفيلم كيف يسوق نفسه في كواليس الأوسكار. وبالفعل، تم القيام بتعديلات كثيرة لهذا الغرض. كما حال تغيير اسم شخصية، من اسم يهودي إلى آخر فقط لأن أنف الممثلة كبير، تحسباً لأي قلق ممكن أن يحدث بدعوى تكريس الصور النمطية (لأن اليهود ذوو أنوف كبيرة). وفي تصدير قائمة أسماء صناع العمل، وضع مساعدو الإنتاج في المقدمة. وأراد دانيال شايرت أن ينهي الفيلم بملحوظة تقول إننا تسببنا بموت مئات الحيوانات في صنع هذا الفيلم لأننا تناولنا اللحوم على الفطور والغداء والعشاء”، لكنها حذفت. كل شيء في الفيلم كان حريصاً على معايير القبول الجديدة، وبالفعل كان وصفة معاصرة لتحطيم الأرقام القياسية، والإصغاء لإيقاع العصر.