fbpx

“من الخوف إلى الحرية”… مسيرة في السياسة والنسوية وعلم النفس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان دوري في الكتاب أعمق من دور كاتب يُملى عليه وأقل كثيرًا من دور المؤلف، وحاولت دائمًا أن أعرف في كل مرحلة من مراحل حياة صاحبة السيرة كيف تمكنت من الخروج من كهف المبجل والمفروض، من أجل أن تعيد خلق نفسها؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صدر “من الخوف إلى الحرية” عن “دار الكتب خان للنشر” في القاهرة ليروي سيرة المحللة النفسية والمثقفة المصرية النسوية عفاف محفوظ منذ مولدها في المنيا في صعيد مصر على مشارف الحرب العالمية الثانية حتى تقاعدها في العقد الثاني من هذا القرن في فلوريدا جنوب الولايات المتحدة. وعن كل هذه المراحل تحكي محفوظ بصراحة وعمق عن تطورات شخصيتها وعلاقتها بجسدها والسياسة والعمل العام، لذا يعد الكتاب شهادة على تغييرات سياسية وثقافية واجتماعية في مصر من خلال حياة شخصية عفاف محفوظ.

وتتّبع السيرة حياة محفوظ الغنية ومراحلها المتعددة منذ سنوات مدرسة الراهبات في مدينة المنيا في صعيد مصر في الأربعينات، ثم دراسة القانون في جامعة الإسكندرية في الخمسينات، وزواجها الأول الذي انتقلت بعده إلى باريس في الستينات، حيث نالت الدكتوراه في العلوم السياسية وبدأت مشوارها مع التحليل النفسي. 

يتطرق الكتاب إلى عمل محفوظ في التدريس في جامعة حلوان ثم مشاركتها في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في القاهرة في السبعينات وأوائل الثمانينات، قبل أن ترحل عن مصر ثانية وتنطلق في مجالات التحليل النفسي في واشنطن ونيويورك لنحو 30 عاماً.

ولخالد منصور، كاتب ومحرر السيرة، ستة كتب كان آخرها رواية “حقل ألغام” وكتاب “من طالبان إلى طالبان” عن مشاهداته في أفغانستان، وكتاب “في تشريح الهزيمة” عن حرب ١٩٦٧.

وننشر هنا خاتمة الكتاب التي وضعها المحرر.

بعد السيرة

تعود علاقتي بعفاف محفوظ لشهر أغسطس في عام 2003 عندما تحدثنا هاتفيًا حول مدى احتياجي لعلاج نفسي بعد نجاتي من هجوم إرهابي دموي في العراق أثناء عملي هناك مع منظمة الأمم المتحدة. وعندما انتقلت للعيش في نيويورك مرة أخرى في عام 2010 بدأت العلاقة المهنية بيننا، ثم صارت صداقة تعمقت مع الوقت، خاصة بعد أن توقفت جلسات التحليل التي أجريناها معًا على مدى ثلاث سنوات. وبعد أن تقاعدت عفاف في ولاية فلوريدا في جنوب شرق الولايات المتحدة في عام 2018 بدأنا نتحدث عن مصر: عن المنيا حيث ولدت على مشارف الحرب العالمية الثانية وعاشت طفولتها، وعن الإسكندرية حيث درست الحقوق في الخمسينيات وتعاطفها مع جماعة الإخوان المسلمين آنذاك، وعن زواجها الذي انتقلت بعده لباريس في الستينيات حيث نالت الدكتوراه وتغيرت علاقتها بجسدها وبعقلها وبالدين والتقاليد وبدأت في الاهتمام بالتحليل النفسي. ثم عن القاهرة حيث تركت زوجها الأول وعملت بالتدريس في جامعة حلوان، فواشنطن حيث عملت مستشارة ثقافية، وصولا إلى نيويورك حيث احترفت العلاج النفسي ونشطت في العمل الأهلي.

وبعد عام من بداية هذه الأحاديث المتقطعة بيننا اقترحت على عفاف أن نكتب سيرتها الذاتية، وعلى سبيل التشجيع أجريت معها حوارات عدة مستفيضة تحولت تدريجيًّا إلى جلسات عمل منتظمة على مدى عامين. كنت أكتب كل ما تقوله أثناء حواراتنا ثم أحرره وأعيد صياغته. كنت أكتب وأحرر وأحذف وأعيد الترتيب، ثم أعرض النتيجة عليها ونراجعها معًا، وهكذا. 

في أول حوار لنا من أجل هذا الكتاب، تخوّفت عفاف مما يفعله الزمن بالذاكرة. ورغم أنها تتذكر روائح وألوان وكلمات من سنوات عمرها الأولى، فهي تخشى من شحوب تفاصيل أخرى أو تبدلها مع الوقت لتحل محلها أشباح وخيالات وجمل غير مكتملة. كررت لي مرارًا أن الذاكرة خائنة. لم أعرف إذا ما كانت تقصد أنها باتت عاجزة عن تذكر كلمات حوار ما، استعادة صوت أو رائحة ما، وجه ما مرّ في حياتها أو تفاصيل حوار أو حجة وردت في كتاب، أم أنها تخشى أن يكون بعض ما تتحدث عنه أمورًا لم تحدث لها فعلًا، في الواقع، وإنما كانت صور وأفكار وكلمات وأحاسيس من صنع عقلها اللاواعي، أو بعض من هذا وذاك.

الذاكرة خائنة لأنها لا تقتصر على استعادة بعض ما حدث فعليًّا في العالم الخارجي أمام الواحد منّا وإسقاط بعضه الآخر، ولكن لأنها تتشكل أيضًا بفعل أحاسيس، ومشاعر، وأحلام، وتمنيات، وأوهام. كلما مر الوقت كلما تداخلت الأحاسيس مع الأزمنة والأمكنة فيصير المرء غير متيقن ما إذا كانت الواقعة التي يتذكرها بصورة ضبابية حدثت في الصباح أم في المساء، في القاهرة أو في الإسكندرية، وما إذا كانت قد جرت له فعلًا أم لشخص آخر، أم لم تحدث إطلاقًا، أو كانت مجرد حلم. كل هذا في جانب، وفي الجانب الآخر يقع المكبوت أو المنسي، والذي لن يمكن لنا أن نتحدث عنه، رغم أننا ندرك من تراث علم النفس الضخم أنه شكّل حياتنا ويستمر في التأثير عليها بأشكال عديدة.

وعندما نعجز عن إجابة ترضينا في حواراتنا العديدة على الهاتف وعن طريق تطبيقات الاتصال على الإنترنت، كانت عفاف تضحك وتقول “الله أعلم كما كان يقول الشيخ شلبي”، ولم يكن هذا عادة إقرار بقدرة إلهية مفترضة بقدر ما كان اعترافًا بالعجز البشري الكامن فينا، وتذكّر لأحد أساتذتها الأثيرين وإجابته المعتادة عندما يعجز عن الرد على تلاميذه في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية.

الذاكرة خائنة لأنها لا تقتصر على استعادة بعض ما حدث فعليًّا في العالم الخارجي أمام الواحد منّا وإسقاط بعضه الآخر، ولكن لأنها تتشكل أيضًا بفعل أحاسيس، ومشاعر، وأحلام، وتمنيات، وأوهام.

ما هي السيرة الذاتية؟ هل هي سرد يسعى أن يربط الحوادث والوقائع في حياة الشخص بحيث تنتظم في سياق ما يتوافق مع منطق ما؟ منطق وتدفق يرضي صاحبة السيرة ويبرر ما جرى ويضعه في تطور زمني وسببي متصل، يتخفف من شعور ما بالذنب ويعظم إحساسًا ما بالانتصار والتحقق، يفسر فعلًا ويبرزه، ويخفي آخر وينكره، ويضع الكل في سياق تاريخي مرتبط بأشخاص آخرين وحوادث أكبر جرت من حولنا؟ هل تقدم لنا الذاكرة بانتقائيتها المحتومة بيولوجيًّا ونفسيًّا محض شذرات مما انطبع في أماكن قصيّة وأخرى دنيّة تتدافع كلها على وعي الشخص الذي تقوم، هي ومحررها، بتنسيقها سويًا في وقت لاحق لتقدم للقارئ عملًا موسيقيًّا متناغمًا انطلاقًا من هذه الشظايا المتناثرة؟

ما هي السيرة الذاتية التي حاولنا أن نكتبها، نحن الاثنان اللذان تحدثا معًا لساعات طويلة على مدى عامين؟

بعض أحاديثنا، أنا وعفاف، كانت تداعيًا حرًّا عما يعنّ لنا بادئين من خيط ما، من فكرة ما، تستدعي فكرة أخرى، صورة أخرى، شخصًا، إحساسًا، نقيضًا، معادلًا، حدثًا متزامنًا. ولكن معظم حواراتنا كانت مرتبة ومنظمة زمنيًّا ومن حيث موضوعاتها، وتقيّد فيها التداعي الحر بالتسلسل الزمني الذي التزمناه في حواراتنا المتتالية.

وكنا ننتقل أحيانًا من وقائع ما جرى لعفاف إلى وصف لما كان يجري في العائلة والبيت وفي الوطن. ولكننا قررنا ألا تتحول هذه السيرة الذاتية لسرد عن تاريخ مصر أو البلدان التي عاشت فيها عفاف وما جرى فيها من تطورات سياسية واجتماعية، أو أن نطيل الحديث عن زعماء ومناضلين سياسيين التقت بهم. قررنا ألا تتحول سيرة ذاتية إلى عمل عن تاريخ الوقائع والشخصيات الكبرى في مصر منذ الأربعينيات أو عن فرنسا الستينيات أو الولايات المتحدة منذ منتصف الثمانينيات. وتلك هي البلدان الثلاثة التي عاشت فيها عفاف معظم حياتها.

هو كتاب عن عفاف محفوظ إذن: عنها بصفة رئيسية ثم إلى حد ما عن عالمها، ذلك الذي صنعها وهذا الذي صنعته.

كان دوري في الكتاب أعمق من دور كاتب يُملى عليه وأقل كثيرًا من دور المؤلف، وحاولت دائمًا أن أعرف في كل مرحلة من مراحل حياة صاحبة السيرة كيف تمكنت من الخروج من كهف المبجل والمفروض، من أجل أن تعيد خلق نفسها؟ كيف خرجت من سجن عفّة مدعاة إلى ما خلقته بنفسها وعن طريق تفاعلها مع العالم بعمق ووعي؟ وكيف كانت الرحلة من الخوف إلى الحرية.

أتعشم أن أكون قد نجحت، أن نكون قد نجحنا!