fbpx

باخموت في أوكرانيا… حرب استنزاف تفتك بآلاف الضحايا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

باتت روسيا وأوكرانيا عالقتين في حرب استنزاف في باخموت. وتبدو كل الأطراف عازمة على الاستمرار في حرب يتم التضحية فيها بأرواح آلاف الجنود الشبان، لأهداف غير واقعية. ولا توجد إرادة سياسية لوضع حدٍّ لهذه الحرب، ما يجعل من الصعب الوصول الى أي اتفاق لوقف إطلاق النار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ ستة أشهر، ومدينة باخموت محطّ الاهتمام في الحرب الأوكرانية. فقد أصبحت المدينة الصناعية الصغيرة، التي يبلغ تعداد سكانها 70 ألف نسمة قبل الحرب، “طاحونة لحم بشرية” تفتك بآلاف الرجال من الجانبين، الذين يشاركون في هذه الحرب. لهذا، باتت مدينة باخموت تجسّد الحرب الدائرة في أوكرانيا الآن، في كثير من النواحي. 

وقد كرر كثيرٌ من المحللين الغربيين قولهم إن باخموت لا تكتسب أيّ أهمية استراتيجية تستحق نشر هذه الموارد العسكرية كلها فيها. وغالباً ما يرون أنها أصبحت أيقونةً يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إبرازها باعتبارها علامة على النصر. لذلك، من الناحية العسكرية، لا تتناسب التضحيات الروسية مع أهمية تلك المدينة. تكمن مشكلة هذا التحليل في أن الجانب الأوكراني هو الآخر يستثمر أيضاً موارد كثيرة خلال دفاعه عن المدينة. ومن ثمّ، فإذا كنا نعتبر أن القرار الروسي بخوض حرب استنزاف في باخموت “حماقة”، فإن القرار الأوكراني ذاته بالاستمرار في هذه الحرب يوصف بأنه “خطأ”.

ينطوي التحليل السابق على سوء فهم لمرحلة الحرب الحالية: فخلافاً للاعتداء الروسي على أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، والهجوم الأوكراني المضاد في مدينتي خاركيف وخيرسون في الصيف الماضي، لم تعد الحرب تتمحور حول شن هجمات متنقلة وسريعة تهدف إلى تحقيق انتصارات خاطفة، بل باتت حرب استنزاف تسعى إلى تدمير أكبر قدر من قوات العدو وآلياته. ولهذا، فإنه خلال هذه المرحلة الجديدة من الحرب، لا يهم كثيراً ما  إذا كانت رحاها تدور في باخموت أو أيّ مكان آخر.

تغيُّر أهداف الحرب

ما العلاقة بين معركة باخموت والأهداف الشاملة للحرب؟

تغيرت أهداف الحرب مرات عدة. فقد كانت أهداف بوتين الأوليّة من الحرب -مثلما حددها في خطابه الذي ألقاه يوم 21 شباط عام 2022، قبل اجتياح أوكرانيا مباشرةً- تفكيك الدولة الأوكرانية وإخضاعها لروسيا. وقد تلخصت الفرضية التي طرحها بوتين، في أن أوكرانيا ليست مؤهلة لأن تكون دولة، ولهذا فهي لم تستحق التمتع بالسيادة والاستقلال. علاوة على ذلك، ينظر بوتين إلى التغييرات الديمقراطية التي تحدث في أوكرانيا باعتبارها عدائية، وأنها أيضاً مؤشر إلى الفوضى والضعف. ومن ثمّ، كان من المفترض أن يكون الغزو الروسي لأوكرانيا سريعاً وسهلاً. لكن في غضون بضعة أيام، أصبح جلياً للقيادة الروسية مدى خطأ هذا التصوّر.

وفي ربيع عام 2022، أُجريت بالفعل مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا حول إمكان وقف إطلاق النار. كانت الشروط حينها، احتفاظ كلا الجانبين بالأراضي التي في حوزتهما، ووقف العمليات العسكرية، وإتاحة المجال لمزيد من المفاوضات السياسية. ليغيّر بوتين أهدافه من الحرب: فبعدما أصبح من الصعب عليه احتلال أوكرانيا بأكملها، أراد احتلال شرق أوكرانيا وجنوبها. وقد عكست “استفتاءات” أيلول/ سبتمبر 2022، لضمّ مناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيا، هذا الهدف الروسي الجديد من الحرب. لكنه جاء بعد فوات الأوان: فحينها كانت أوكرانيا في حالة هجوم مضاد، ولم يعد هناك أيّ أمل في استئناف مفاوضات الربيع.

من ناحية أخرى، تحولت أهداف أوكرانيا من المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار إلى العودة إلى مواقفها في 24 شباط، ألا وهي المطالبة بتحرير كامل الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك إقليم دونباس (شرق أوكرانيا) وشبه جزيرة القرم (جنوب أوكرانيا) وهي مناطق ضمّتها روسيا في عام 2014. 

الانتصار في الحرب والتفاوض مع روسيا

لم يتعمّق الهجوم الذي شنته روسيا في الشتاء -والذي كان معلناً إلى حدٍّ كبيرٍ في المناطق الواقعة إلى الغرب من خط المواجهة الأوليّ. صحيح أن التنبؤ بالمستقبل دائماً ما ينطوي على مخاطر، لكن الهجوم الأوكراني المرتقب في الربيع لن يتعمق كثيراً إلى الشرق، على الأقل ليس بدرجة كافية لإحداث فرق في الحرب الحالية. مع ذلك، لا تزال أشهر من القتال المستمر تكلّف الجانبين عشرات الآلاف من الضحايا.

يدور جدال في أوروبا حالياً حول إمكان التفاوض مع بوتين. المشكلة المطروحة هنا، أنه لا يمكن الوثوق ببوتين، وأن أيّ اتفاق لوقف إطلاق النار لن يسفر سوى عن السماح لبوتين باستعادة قوته ثم الهجوم مجدداً. وستعرقل مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق بوتين أيّ إمكان للتفاوض معه.

يمكن أيضاً طرح حجة معاكسة مفادها أن الحرب قد “قوّت شوكة” بوتين، الذي يحتاج إلى هذه الحرب أكثر من أيّ شخص آخر لأنها ببساطة تبرر إخفاقاته، وتجعل حربه مشروعةً كونها “دفاعاً عن النفس” ضد الغرب العدواني الذي يرغب مجتمعاً في تفكيك روسيا.

مع ذلك، فقد خسر بوتين هذه الحرب بالفعل. فهو لم يفشل في عدوانه على أوكرانيا بسبب قراءته الأيديولوجية الخاطئة للواقع الأوكراني فحسب، بل أدى هذا الفشل أيضاً إلى تدمير أساسات إرثه: فقد وصل بوتين إلى السلطة في عام 2000 بعد 15 عاماً من الاضطرابات السياسية والانهيار الاقتصادي، وعقد حينها صفقة مع الأوليغارشية الروس، يتخلون بموجبها عن طموحاتهم السياسية مقابل التمتع بحياة زاخرة بملذات لا حدود لها مع طائرات خاصة وعقارات في لندن والكوت ديفوار. وعقد صفقة شبيهة مع الشعب الروسي: فبينما كان يصادر حرياتهم السياسية حديثة العهد، وعدهم في المقابل بتحقيق الاستقرار الاقتصادي واستعادة المجد الروسي المفقود. واختتم هذه الوعود بخطاب قومي كان جوهره أن روسيا كانت قوية بسبب جيشها القوي. 

فضحت الحرب الفاشلة في أوكرانيا خَوَاء البروباغندا التي روّج لها بوتين: فقد بات الجيش الروسي غير منظّم ومتخلفاً تكنولوجياً، إضافة إلى تدمير بوتين الاتفاق الاستهلاكي الذي عقده مع الأوليغارشية الروس، وإخفاقه في الإيفاء بوعود تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد. وسيبرهن أيّ اتفاق لوقف إطلاق النار هزيمة السياسة البوتينيّة، وليس تمكينه من الإعداد لعدوان جديد.