fbpx

عشرون عاماً على سقوط بغداد:
حرب لم أكن فيها! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنا منقسم على نفسي: ضد كل من يؤيد الحرب وأصل بالنقاش حد العراك: كيف يمكن لمثقف أن يقف مع حرب تدمر بلاده وتقتل أهله؟ وأنا ضد من يعارضونها لأنهم يريدون استمرار الديكتاتور شاؤوا أم أبوا… وفي الحالتين كنت أعارك وأجادل نفسي بالنقيضين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الحرب مشرعة. أحياناً أراها قدراً. أنا الذي ولد مع الحرب العالمية الثانية وعاش الحروب، ذاهباً إليها أو قادمة نحوه، عرفت بالغريزة أن الحرب قادمة. لا أسلم للقدر وحده، إنما أتابع مقدماتها كما ضربات الزمن الذي يسبق الفاجعة. أتابع الاستعدادات للحرب وأفزع من كثرة الأسلحة. بوارج في شكل جزر حديدية عائمة  والجنود يعبئون بحمية صواريخها الموجهة نحو العراق، حاملات طائرات راكدة في مياه الخليج، بينما تقلع الطائرات من على مدارجها إلى البلاد التي تختض بانتظار الخراب والموت. ما أهدأ المياه وما أقسى ما تحمله!

قوافل من جنود بمعداتهم الكاملة يصعدون الى الطائرات، يسأل المراسل أحدهم على ماذا تدربتم فيجيبه المظلي وهو يصعد سلم الطائرة:

-أن نقتل ونفجر.

الوسطاء والقدر

قبل أن تبدأ الحرب، حاول الوسطاء إقناع الديكتاتور بالتنازل لإنقاذ بلاده. أنا الموهوم بقدرات العقل على تجنب الكوارث عوّلت كثيراً على تنازله. سيحل المشكلة من طرفيها، يستقيل وليأتِ من يأتي. سيتجنب البديل أخطاء من سبقه ويفتح باباً للاحتمالات. آنذاك تفقد الحرب ذريعتها ولن تكون قدراً.

بينما تحشد الجيوش على حدود العراق وهي تصك أسنانها كنت في رحلة صحافية في أفريقيا. أردنا أن نلتقي رئيس جنوب أفريقيا الراحل نيلسون مانديلا. سكرتيرته وكاتبة سيرته (أمينة) أخبرتنا أنه سيطير غداً فجراً الى بغداد لمقابلة الرئيس العراقي وقتذاك صدام حسين. الأمين العام للأمم المتحدة وقتها كوفي عنان كّلفه القيام بوساطة أخيرة لإنقاذ البلد قبل أن يحترق. بقيت طول الليل أنمّق له أكثر الجمل تاثيراً لإقناع صدام بالتنازل: “ماذا تريد، المجد؟ ها أنا استقلت كرئيس لجنوب أفريقيا، ومع ذلك صرت أيقونة لشعبي وللعالم”. هكذا صنعت لمانديلا منطقاً من مخيلتي ورددت كلماتي بصوت مسموع. نمت وحلمت بصدام جالساً على طرف سريره بدشداشة بيضاء يسمع هذه الكلمات من وسيط… قبل مغادرتنا جنوب أفريقيا عاودت الاتصال بسكرتيرته لأسألها عن نتائج رحلته فأجابتني: لم يذهب! صديقه (عمرو موسى) الأمين العام السابق للجامعة العربية حذّره: سيتركك في المطار عندما يعرف طبيعة مهمتك! هذا رجل يعبد السلطة ويمسكها بأسنانه. لم يسمع صدام توسلات الوسطاء (كوفي عنان، رئيس الوزراء الروسي السابق يفكيني بريماكوف، الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، توسلات الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، رسالة رئيس الإمارات الراحل الشيخ زايد بن سلطان، والملاكم الأميركي محمد علي كلاي …)، إنما اختار الحرب برفضه الذهاب إلى المنفى. الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الذي منحه هذا الخيار يعرف أنه قدّم خياراً كاذباً، لأن  صدام لن يغادر وسيبقى مطارداً ومختفياً طول عمره ومتنقلاً من وكر إلى آخر. مع ذلك كنت اتابع الوساطات بلهفة وأخدع نفسي وأقول سيتراجعون…  لكن الأخبار تفندني.

اخبار إرادة…

الحرب بالنسبة إلى صدام البعثي كانت كما حددها أستاذه (ميشيل عفلق) اختبار إرادة، وللمتدرب في الجهاز الصدامي والمدمن على الحروب ستبدو المغامرة مجرد “كُونهْ صغيرة” كما وصفها هو بمنطق الشقاوة. مع الشلة المقربة من أولاده تخيل شكل الحرب ورسمها على قفا خريطة مقلوبة. في خطابه المتلفز الأخير في 20 آذار/ مارس 2003 خرج بشعر فاحم ليس فيه شعرة بيضاء واحدة على سبيل التمويه، ببدلته العسكرية يحمل رتبة فريق ركن وعلى صدره أوسمة الهزائم في كل حروبه، في هذا الخطاب يكشف خيبته، فقد بنى حساباته على حرب جوية وضربات من بعيد ولن يكون هناك تقدم على الأرض. وفي النهاية ستنتهي الأمور بمفاوضات تبقيه في السلطة، مقابل حزمة تنازلات جديدة. لكنه فوجئ كما يكشف الخطاب بتحول الحرب من ضربات إلى غزو. لذلك عوّل كثيراً على الزمن. لم يعد العدوان جوياً فحسب، إنما هناك تقدم على الأرض، وهذا كما اعتقد فرصة للمواجهة البرية، الغرب يريد الحرب قصيرة خاطفة، فاجعلوها طويلة وهنا كما اعتقد تكمن الهزيمة.

B52

أتابع الحرب من مقعد داخل بيتي في لندن وأفزع من قول المعلق العسكري “لم يشهد التاريخ العسكري تجمعاً للأسلحة بهذا الحجم ضد مكان واحد”.

تقلع طائرات B52 من مطار Northolt في لندن على مسافة 20 دقيقة من بيتي في Millet Road أسمع، أو يخيل إليّ صوت إقلاعها وتهز الأرض تحتي كأنها تتوعدني أنا بالذات بصوت القيامة المزلزل. ستستغرق 10 ساعات للوصول إلى بغداد. أحسب الوقت بدقة: متى ستصل إلى أهلي؟ أحسب الوقت بالأمكنة التي تمر فوقها وأفكر بهذا الطيار وهو يقطع رحلة الليل الطويلة كلها عابراً إيطاليا حيث الليل في أوائله في ساحة (بياتزا نافونا)، والشوارع التي نام فيها المشردون على الأرصفة مدثرين بأسمالهم بعد حقن المورفين. لا تغري الطيار هذه المدن كلها، فالمهم أن يفرغ حمولته هناك، ينظر في ساعته مستعجلاً، وهو يعبر البحر المتوسط البطيء الساكن، ستبدو سفن السياحة مثل نجيمات مربكة فوق البحر المظلم. بينه وبين الهدف ساعات قليلة. اقترب الهدف! مدن تتوهج منائرها وقد غصّ المصلون بصلاتهم. يعبر كل هذه المدن نحو مدينتنا المسكونة بالخوف وقد انحشرت الأمهات في أضيق الزوايا والتفت أذرعهن على الأطفال الشاحبين بينما يعبر الآباء الشارع بين القذيفة والقذيفة وقد انغرزت رؤوسهم  كالمسامير بين الكتفين، يعبر الطيار كل هذه البحار والمدن وسلاسل الجبال من أجل أن يفرغ 32000 كلغ من المتفجرات فوق مدينة مأهولة ثم يعود إلى زوجته وأولاده. حرب بلا أبطال ولا مواجهات، فالمعركة سيحسمها رجال من الجو يرون أهدافهم ولا يعرفون قتلاهم.

أتابع الأخبار وأنا أصك أسناني، فأخرج لألتقي أصدقائي في الحديقة وأجادلهم. في الحقيقة أذهب لأهاجم، من دون أن أصغي إلى حجة الآخر، أعجن الكلمات وأنفخ فيها النار لتكون مثل الجمرات، تتعبني الكلمات لأنها البديل عن أفعال العاجز. 

صديقي فوزي كريم راهن على هذه الحرب في إزاحة الدكتاتور الذي عجزنا، نحن معارضيه، عن زحزحة سلطته وأولاده على مستقبل أولادنا. أهاجم فوزي كتابة وكلاماً، وفي حقيقة الأمر أهاجم في ذاتي فكرة توشك أن تصدقه.

أنا منقسم على نفسي: ضد كل من يؤيد الحرب وأصل بالنقاش حد العراك: كيف يمكن لمثقف أن يقف مع حرب تدمر بلاده وتقتل أهله؟  وأنا ضد من يعارضونها لأنهم يريدون استمرار الديكتاتور شاؤوا أم أبوا… وفي الحالتين كنت أعارك وأجادل نفسي بالنقيضين …

وسط الحشد… خارجاً عنه

كل سبت أخرج مع آلاف المتظاهرين في شوارع لندن مندداً بالحرب. كنت واحداً من 10 ملايين شخص تظاهروا 800 مدينة عالمية. تركوا حياتهم العادية وخرجوا للشوارع في ١٥ شباط منددين بالحرب. لم يحرك هذا الحشد حزب أو أحزاب، إنما هو مزيج من كل شئ، على بعد أمتار أمامي رفع ثلاثة شبان علم المثليين الذي يضم كل ألوان قوس القزح. خلفي شاب باكستاني ضخم الجثة، مغطى بالسواد حتى عصابة رأسه، حليق الشاربين بلحية كثيفة تغطي صدره، يهتف بصوت عال “سيكون هناك ألف بن لادن”! أسمعه وأبتعد منه منتظراً صرخة ( الله أكبر)! على يميني عربي في خمسيناته يريد أن يتقدم المسيرة حاملاً صورة صدام التي تعود لأكثر من عشرين عاما مضت، لا أعرف الذي انتزعها منه “نحن ندافع عن شعب لا عن ديكتاتور”!… في مقدمة المسيرة حاخامات يهود وخلفهم يهودية عراقية حملت علم العراق تصرخ “لا تقتلوا أهلنا هناك”! مزيج من نقابيين وربات بيوت ومهندسين وكتاب وممثلين سينمائيين. الحشد يمنحني الأهمية والمسؤولية كوني من البلد الذي يتظاهر كل هؤلاء من أجله. أتفهم خوف هذا العالم الديموقراطي من هيمنة القطب الواحد وفرض الحلول بالقوة، وأشعر في الوقت ذاته بالغضب، لأن أحداً لا يندد بالنذل الذي قادنا من حرب إلى حرب وهو يراكم الأوسمة على صدره والنجوم على كتفه.

 حرب العاجز

أعود متعباً من الجدل وصراع الأفكار، وأنا في الحقيقة أصارع نفسي، أعود الى التلفزيون باحثاً عن الصور، برغم أنها تزيد عذابي وإحساسي بالعجز. في شبابي عشت وغطيت حروباً كثيرة: حرب الفلسطينيين مع الجيش الإسرائيلي في (غور الصافي) عام 1969، معارك المنظمات الفلسطينية مع الجيش الأردني أيلول/ سبتمبر 1971، الحرب الأهلية اللبنانية 1975- 1982، حرب الصحراء بين الجيش المغربي و البوليساريو 1980-1983، عامان ونصف العام 1983-1984 في جبال كردستان .. عرفت الحروب وعشتها بحواسي واعصابي وعقلي. وسط الحروب ينشغل الجسد بتمارين القتال والسلامة، ولن يترك للذهن مجالا للتردد والتأسّي. الحرب كانت حولي وتستدعي كل حواسي… علي أن أسمع صوت القذائف لأدرك مصدرها واتجاهها وأكيّف جسدي على هذه المعارف التي راكمتها الخبرة. لا شيء يحمينا في الحرب غير الجدران، وهذه الجدران عدوتنا لأن القصف يستهدفها، لذلك صارت لنا ملجأ وقبراً في الوقت نفسه. أغادر مخبئي بعد سقوط القذيفة لأرى الموقع وأشم رائحة البارود والحريق، ثم أقرر موقفي مما يحدث. موقف أدخل فيه بكل كياني. كنت أعيش الحروب بعضلات جسدي التي تحول خوفي الى أفعال.

أتابع الحرب من مقعد داخل بيتي في لندن وأفزع من قول المعلق العسكري “لم يشهد التاريخ العسكري تجمعاً للأسلحة بهذا الحجم ضد مكان واحد”.


هذه الحرب هي الأكثر وجعاً على قلبي، لأنني أشاهدها ولا أعيشها. الحرب الآن أمامي، لكن بيني وبينها هذه الشاشة الرمادية. التلفزيون يقربني من الحرب الى حافة الملامسة، بل أشم هذا الغبار الأحمر الذي يلف الجنود الأميركيين الزاحفين نحو بلادي. أعرف هذا الغبار وأكاد أختنق به. تتقدم الدبابات والمدرعات دون مقاومة تذكر. الغبار الكثيف وحده يعيق تقدم القوات في الصحراء القريبة من كربلاء. الجنود الأمريكان تائهين وسط الغبار، لا يرون عدواً ليقاتلوه، غير قادرين على القيام بالمهمات العملية التي كلفوا بها: أن يقاتلوا ويتقدموا نحو بغداد. مراسل “رويترز” لوك بايكر الذي رافق فرقة المشاة الأميركية 535، يصف كيف أن الجنود بكل معداتهم الضخمة بقوا عاجزين وسط عاصفة الرمال غير قادرين على التنفس والرؤيا ولا حتى أكل طعامهم. غابت عنهم الاتجاهات، يبحثون وسط الغبار عن عدو لا يرونه، غياب العدو يزيد قلقهم. ثمة مفاجأة غير متوقعة. ما هي؟

لا أدري؟

خلال وجودي في أبو ظبي استضافتنا، أنا والشاعر حميد قاسم قناتهم الرسمية. كانوا مذهولين بتقدم القوات الأميركية نحو بغداد. بعصبية المُباغَت يسألني المقدم الفلسطيني:

-أين هي قوات صدام؟ (يعددها حسب تقرير أمامه) قدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عدد القوات المسلحة العراقية بـ389.000، الجيش العراقي 350.000، البحرية العراقية 2000، القوات الجوية العراقية 20.000 والدفاع الجوي 17.000، فدائيي صدام شبه العسكريين 44.000، الحرس الجمهوري . 80000 واحتياطي 650.000. وتشير تقديرات أخرى إلى أن عدد الجيش والحرس الجمهوري يتراوح بين 280.000 و 350.000 و50.000 إلى 80.000 على التوالي، والقوات شبه العسكرية بين 20.000 و40.000. 13 فرقة مشاة و10 فرق ميكانيكية ومدرعات، إضافة إلى بعض وحدات القوات الخاصة… أين هي؟! يصرخ بي كأني أنا الذي خدعته.

الحزب ومؤازروه 11 مليوناً، اين هم؟

حقاً البعث كان التنظيم الوحيد القادر والذي يُعتمد عليه للقتال. لكنه لم يكن أكثر من اداة بيد نظام الفرد الواحد فوق الحزب الواحد. حين غابت القيادة وضاعت الأوامر وجد البعثي نفسه فرداً ضائعاً مثل أي واحد من الرعية. سأستعين بشاهد فقدت اسمه نشرها على “فيسبوك”، كنّا مجموعة من المتدينين المندفعين نجتمع كل ليلة عند مجموعة امنية وبعثية يُفترض أنها تراقب القلاقل وتحافظ على الأمن. عند بدء الحرب في 8 نيسان من ذلك العام، تنسحب خلايا الأمن الخاص الموزعة على أركان الأزقة، وينسحب معهم أفراد حزب البعث … يترك هذا الانسحاب حيرة عميقة في أعين الناس دون شفاههم. ما الذي يجري؟ هل صدر أمر بانسحابهم فعلاً أم أنهم تصرفوا بإرادتهم؟ هل سقط النظام البعثي فعلاً أم انهار موالوه نفسياً ولم يعد باستطاعتهم الانتظار يوماً آخر؟ 

العراقيون…

أجيبه بالسكوت. للمرة الثانية، أو الثالثة يطرحون هذا السؤال. لا يتعلم الناس هنا من التجارب، فالتجارب هنا تراكم أفقي مفكك، لا يضيف شيئاً على ما تحته وما قبله. يبقى السائلون على الأوهام ذاتها التي بددتها الهزائم، ويبقى ملوك الهزائم على عروشهم في السلطة أو في أوهام الناس، بل يصبح التوهم لذاته ضرورة أو تعويضاً عن الضعف والخسارة.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.