fbpx

رمضان و”صح النوم” ودراما الواقع الآن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إننا نعيش دراما يومية لن تتمكن أقلام الكتّاب ولا عدسات المصورين ولا إبداع المخرجين من اللحاق بمجرياتها . لقد سبقتهم الأحداث اليومية المتسارعة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في رمضان الطفولة، أذكر مسلسل “صح النوم”. لم يكن ببيئته المتخيّلة ينتمي إلى أي مفردة من مفردات حياتي اليومية. لا الفندق الذي تديره “فطّوم”، ولا “الكركون” الذي يترأسه بدري أبو كلبشة، ولا الأجواء الثقافية التي يوحي بها “حسني البورظان” بمقاله الذي لم يتمكن يوماً من تحريره بسبب مؤامرات “غوّار الطوشة”. 

مع ذلك، شكّل هذا العمل الدرامي ذاكرة متكاملة، وصارت الحارة “الاستوديو” جزءاً من وطن، والشخصيات جزءاً من عائلة في ذهني. 

وتتابعت في ما بعد، الأعمال التي تتناول همومنا اليومية بسخرية، وكان صدقها يمسّ مشاعرنا، لكنها لم تتجاوز يوماً حاجز الوصف الذكي إلى بوابة الحث على التفكير بمن يسبب لنا هذه الهموم. وبقينا نراقبها ونبحث بين المواقف عن إيحاءات تدلّنا على حلول أو أفكار جديدة تعطينا أملاً بتغيير ما. وكان واضحاً أن القائمين على هذه الأعمال لم يكونوا يمتلكون أكثر من هذه العين الناقدة بمرارة. فطرح وجهات نظر شخصية لم يكن يوماً مهمّة الدراما السورية ولا مهمّة أي فرد في سوريا. كنا دائماً شعباً موحّد العقلية، التطلعات، المصير، والتدجين.

واليوم، نجد أن الأمور لم تتطور كثيراً. يهرب المنتجون إلى مسلسلات صارت تسمّى بـ”البيئة الشامية”، ليقدموا لنا قصصاً ومغامرات لا تنتمي إلينا، ويحلّق فيها خيال مصممي الأزياء وفناني الماكياج من دون رادع، مقدمين نساءً بأزياء فانتازية ورجالاً بألبسة مزركشة، ويوزعون الأدوار على ممثلات بوجوه محشوة بالفيلر وشعر مصفف ومكثف، تحمل إحداهن مقشّة وتريدنا أن نقتنع أنها تكنس باحة الدار. ثم ينتصر في النهاية الخيّرون على الأشرار بعبر أصبحت لا تنطلي حتى على أطفال هذا الزمن. 

نحتاج إلى كاتب جريء يؤرّخ ما يحدث كما يحدث لكي لا ننسى.

لم تكن النساء يعرفن نفخ الشفاه في ما مضى. وأدوار الفقيرات والنازحات والمعذّبات في الأرض، تتطلب أيضاً شكلاً يعبر عنها، حتى يستطيع الجمهور تصديق الدور. 

ربما في المسلسلات التي تابعتها، أذكر “الزند ذئب العاصي” الذي يمثّل فيه البطل المغوار “تيم حسن” دور فلاح يحاول الانتقام من ظلم الآغا الذي قتل أباه واستولى على أرض جدوده . ما أشبه الأمس باليوم! ففيما يصف العمل زمن الإقطاع والظلم الذي وقع على الفلاحين في بداية القرن العشرين، تحت هيمنة السلطات العثمانية، فقد نقلنا مشهد البيوت المعتمة ليلاً إلى واقع بيوتنا التي صارت الإنارة فيها تحدث مصادفة. وكم تشبه أقبية المونة الفارغة في بيوت الفلاحين ثلاجاتنا الفارغة. وكم يشبه الفساد في صفوف إدارة السلطنة فساد إداراتنا. وهذه النفوس الطامعة والرشاوي كم تشبهنا. وأعراض سوء التغذية التي تنبض في ملامح الناس هي نفسها التي يصاب بها أطفالنا ويدفنون بعد أن تنعيهم صفحات التواصل الاجتماعي ويتباكى عليهم الناس. مع وجود مبالغة في الشخصية الأساسية وتصويرها كبطل لا يخاف ولا يهزه شيء. هذا البطل غير موجود طبعاً. 

إننا نعيش دراما يومية لن تتمكن أقلام الكتّاب ولا عدسات المصورين ولا إبداع المخرجين من اللحاق بمجرياتها . لقد سبقتهم الأحداث اليومية المتسارعة. وصارت الدراما الحقيقية هي ما يحدث في الشارع كل يوم: هي هذه التجمعات للحصول على صحن من الأرز يوزعه محسن كريم. هي الاقتتال على موقع قدم في حافلة المواصلات العامة. هي نظرات الأطفال الجوعى على أكياس التسوق عند مخارج المخابز ومحلات الحلويات في رمضاننا الكريم.

نحتاج إلى كاتب جريء يؤرّخ ما يحدث كما يحدث لكي لا ننسى. نحتاج الى مصوّر بارع يتنقل حاملاً كاميرته مسجّلاً نظرات البؤس في العيون. ويمكننا أن نبهر المهتمين بفن جديد، فن اسمه: ما زلنا على قيد الحياة رغم كل شيء!