وصلني في 6 آذار/ مارس 2023، اتصال من رقم غريب يخبرني أنّ بحوزته كتاباً باسمي من الكاتب العدل، وأنّ المرسل هو الوزير السابق مروان خير الدّين.
“جئنا بموجب الكتاب الحاضر، نُنذرك وللمرّة الأخيرة“… هذه أوّل عبارة قرأتها في الرسالة المختومة.
في الحقيقة، لم أتوقّع أن يصلني أقل من ذلك من المصرفي مروان خير الدين، الذي سبق أن ارتبط اسمه مباشرة بقضايا استهداف واعتداء على صحافيين وناشطين مثل محمد زبيب وربيع الأمين.
استلمت الإنذار بتحفّظ، ليتبين أنّ مضمونه يعترض على تحقيق عملت عليه عن خير الدين عبر موقع “درج”، نُشر قبل نحو عام ونصف العام، في سياق مشروع وثائق “باندورا”، وهو تحقيق استقصائي دولي يقوده “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” بمشاركة أكثر من 600 صحافي من 150 مؤسسة صحافيّة من 117 دولة، من بينهم موقع “درج”، يبحثون في وثائق مسرّبة للكشف عن صفقات وأصول سريّة في شركات أوف شور. تمّ نشر التحقيقات في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021.
قرّر خير الدين “التحرّك” قانونيّاً، مذكّراً في كتابه مرّات عدّة بأنّه “وزير أسبق”، وكأنه يحاول استخدام لقبه الرسمي لترهيبي ربما، أو لردع صحافية عن تناول شبهات ارتبطت باسمه. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أنّ خير الدين كان يسعى الى إضافة لقب آخر قبل اسمه وهو لقب “النائب”، إلّا أنّه لم يتمّكن من حصد هذا اللقب والحصانة التي تأتي معه، رغم رهانه الكبير على هذا المنصب في الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي رغم تضافر أقوى أحزاب السلطة لدعمه، لكنه فشل في دخول البرلمان.
لكن، لماذا هذه الرسالة التحذيرية التي وصلتنا من السيد خير الدين؟
التحقيق الذي أزعج السيد خير الدين، نشر في سياق مشروع ““وثائق باندورا”: مروان خيرالدّين أو قصّة “رئيس العصابة” وشركات “الأوف شور”!”
اعتبر خير الدين أنّ التحقيق تضمّن “جملة إفتراءات لا تُحصى ولا تعدّ، يتّضح من خلالها بأنّ الهدف الرئيسي منها ليس الإضاءة على وقائع صحيحة تهمّ الرأي العام… بل العكس، الهدف منها، كما يبدو هو “الاغتيال المعنوي” للموكّل Character Assassination، الأمر الذي لن نسمح به…“. وأضاف، “نُنذركم بضرورة الكفّ عن تضليل الرأي العام… خاصةً في هذا الظرف الاستثنائي الذي تمرّ فيه البلاد”.
بما أنّ السيد خير الدين يهتم كثيراً بما ينشر أمام الرأي العام، نود أن نلفت نظره إلى أنّه من أبرز الشخصيات التي ساهمت في تضليل الرأي العام حين كرر علناً دعمه لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولسياساته النقدية ـ علماً أنّ موقع “درج” كشف كيف استثمرت شركات أوفشور مملوكة لسلامة بأصول خارجية، بلغت قيمتها نحو 100 مليون دولار أميركي، وأنّ شركة مرتبطة بالحاكم استثمرت بشركة ابنه، ندي، وباعت لاحقاً أسهمها لبنك “عوده” الذي حقّق في الفترة نفسها تقريباً ربحاً بقيمة 1.6 مليار دولار من الهندسات المالية التي أقرّها سلامة عام 2016، بحسب لجنة الرقابة على المصارف في لبنان. وسلامة يحاكم اليوم في دول أوروبيّة عدّة بتهم تبييض الأموال والفساد.
السيد خير الدين كرر التأكيد في أواخر عام 2019، أي بعد الأزمة، أنّ “وضع الليرة سليم ولا خطر على ودائع اللبنانيين”، وشدّد على قوّة المصارف وصمودها. هي نفسها المصارف التي تحتجز أموال المودعين اللبنانيين لسنوات، وتحمّلهم تبعات الانهيار، وتكمل عملها من دون أي محاسبة أو تحمّل للمسؤولية.
فمن يضلّل الرأي العام يا سيّد خير الدين؟
نص انذار خيرالدين
scan05-04-2023-112338في الإنذار الذي وصلنا يرد ما يلي:
“إنّنا ومع كامل احترام الموكّل للحريّة الصحافيّة وحريّة التعبير المكفولة دستوراً وقانوناً، نستهجن وبإسم الحريّة الإعلامية التعدّي على كرامات وحقوق الأفراد كما فعل المقال المُشار إليه، عبر نعت الموكّل بأنّه زعيم “عصابة”، مُتناسية أنّ من تنعتينه بهذه العبارة المسيئة هو رئيس مجلس إدارة مصرف تقومين بتعريضه إلى المخاطر مع المصارف المُراسلة، بحيث أن تعابيرك غير المسؤولة هي التي تعرّض أموال المودعين في المصرف المذكور للهلاك…”، بحسب ما ذكر الكتاب.
وهنا نسأل السيد خير الدين، رئيس مجلس إدارة مصرف “الموارد”، ألم تحوّل 6.5 مليون دولار أميركي الى ندي، نجل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلى الخارج في الفترة نفسها التي منعت القيود المصرفية المواطنين العاديين من الوصول إلى مدخراتهم؟ ألم تساهم في تحويل أموال النافذين فيما تُرك مودعون كثر لمصيرهم؟
ألم تؤدِّ الهندسات الماليّة التي أقرّها المصرف المركزي عام 2016، والتي استفاد منها مصرفك وكانت سبباً أساسيّاً في الأزمة الاقتصادية، الى هلاك الودائع؟
ألم تشترِ يا سيد خير الدين منزلاً في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتحديداً في نيويورك من الممثّلة الأميركيّة الشهيرة جينيفر لورانس، في آب/اغسطس 2020، بقيمة 9.9 مليون دولار أميركي، وذلك في الفترة التي كان فيها القطاع المصرفي في لبنان ينهش مدخرات المودعين؟ ألم يؤدّ ذلك إلى هلاك ودائع الناس الذين ائتمنوا مصرفك على مدخرات حياتهم؟
يهمّنا هنا أن نشدّد على تمسّكنا بما تضمّنه تحقيقنا المذكور، الذي يعتمد على وثائق مسرّبة تكشف عن صفقات وأصول سريّة لخير الدين في شركات أوف شور، وعلى تحويلات أقدم عليها في الفترة نفسها التي كان المودعون في مصرفه ممنوعين من ذلك.
أما تعبير “رئيس العصابة” الذي أثار حفيظة الوزير السابق، فهو تعبير للصحافي محمد زبيب الذي تعرض للاعتداء بالضرب على يد شخص أثبتت التحقيقات أنه أحد مرافقي السيد خير الدين.
خير الدّين، هو رئيس مجلس إدارة “بنك الموارد” الذي أسّسه والده سليم خير الدّين عام 1993، ويشغل أيضاً منصب المدير العام في المصرف الذي تزيد قاعدة أصوله (asset base) عن مليوني دولار أميركي، مع 17 فرعاً ونحو 500 موظّف.
خير الدّين، البالغ من العمر 53 سنة، هو أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي اللبناني وعضو في المجلس السياسي للحزب منذ تأسيسه عام 2001. تربط خير الدين علاقة عائليّة برئيس الحزب الديمقراطي اللبناني، طلال ارسلان، فهو شقيق زوجة إرسلان. وعُيّن في 2011 كوزير دولة في حكومة نجيب ميقاتي، التي استمرّت حتى عام 2014.
كما رافق خير الدّين إرسلان كمستشار له لدى استلامه حقائب السياحة، والمغتربين، والشباب والرياضة. وبصفته “مصرفيّاً مخضرماً”، كان عضواً في مجلس إدارة جمعيّة المصارف في لبنان، وعضو مجلس إدارة بورصة بيروت من العام 1994 إلى العام 1999.

كشفت وثائق باندورا أنّ المصرفيّ اللبناني البارز، مروان خير الدين، هو مدير شركتي أوف شور في جزر العذراء البريطانيّة (British Virgin Islands) وهي:
1- دريفت وود ليمتد (Driftwood Limited)، استلم مروان خير الدّين إدارتها عقب استقالة مديرها السابق يحيى مولود ونقل أسهمه إلى خير الدّين في 16 نيسان/ أبريل 2019، بعدما كان مولود مديرها منذ 6 تمّوز/ يوليو 2018.
اللافت، أنّ خير الدّين حصل من خلال هذه الشركة على يخت بقيمة مليوني دولار في نيسان/ أبريل 2019. ورغم أنّ ذلك يعدّ قانونيّاً، لتخفيف عبء الضرائب، وفق خبير قانوني، إلّا أنّ توقيت هذه الصفقة، قبل أشهر من الانهيار الاقتصادي في لبنان ومنع المودعين من سحب أموالهم، يوضح كيف أنقذ خير الدّين أمواله بينما سمح، لا بل ساهم، بمصادرة أموال مودعي مصرفه وسائر المودعين.
2- أوكوود انترناشيونال هولدينجز ليمتد (Oakwood International Holdings Limited)، مع هدى الخليل ووسيم خير الدين. وسيم خير الدّين هو شقيق مروان وشريكه الدائم. أمّا هدى الخليل فهي والدتهما، أي أرملة سليم خير الدّين وشقيقة النائب أنور الخليل.
استلم مروان خير الدّين الإدارة في 27 حزيران/ يونيو 2011، بعد استقالة المديرة السابقة جيتندرا مانيكلال كول. ورد اسم كول في تسريبات باناما عام 2016، بوصفها عضوة في شركة أوف شور مع شخصيّة تدعى “أكبر آصف”، وهو صهر إقبال ميرشي، وفقاً لـIndian Express.
علماً أنّ ميرشي الذي توفي منذ نحو 8 سنوات، كان مطلوباً من شرطة مومباي بتهم مرتبطة بتاجر المخدّرات ورئيس العصابة الهندي الشهير داوود إبراهيم، الذي كان على لائحة “أكثر 10 هاربين مطلوبين في العالم” عام 2011 لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي.

وتُظهر تسريبات “باندورا” أنّه في اليوم الذي استقالت فيه المديرة السابقة واستلم مروان خير الدّين الإدارة، انتقلت أسهم شركة أوكوود من شركة “موستيك إنفستمنت ليمتد” Mustique Investment Limited إلى شركة K Three Inc الموجودة في بنما. علماً أنّ شركة “موستيك إنفستمنت” كانت قد حصلت على أسهمها من أكبر آصف وكافيتا تشارلز سينغ. وهنا يجدر السؤال: ألم يسأل خير الدّين عن خلفيّة وتاريخ الشركة التي اشترى أسهمها واستلم إدارتها؟
لاستلام إدارة شركة أوكوود، قدّمت شركة K Three أوراقها الرسميّة وشهادة عن وضعها القانوني السليم (Certificate of good standing)، وقد تبيّن أنّ الشركة تملكها عائلة خير الدين (الأم والشقيقان مروان ووسام) منذ أيلول/ سبتمبر 2010. ومن المرجّح أنّ الـ “ك” ترمز الى خير الدّين، والرقم 3 الى مروان ووسيم ووالدتهما هدى.
وعلى رغم أنّ تأسيس شركات أوف شور هو عمل قانوني، إلا أنّه كثيراً ما يكون مخرجاً إمّا للتهرّب الضريبي أو لأعمال “مشبوهة”، إذ إنّ الـ BVI تعتمد معايير عالية للسريّة، علماً أنّ إحدى الشركتين اللتين يديرهما خير الدين كانت مرتبطة تاريخيّاً بشخصيّات مشبوهة، تحديداً بصهر رجل كان متورّطاً بأعمال رئيس عصابة وتاجر مخدّرات دوليّ معروف. هذا فضلاً عن تأسيس خير الدّين شركات عدّة في بريطانيا بين 2019 و2020.
وعندها، تواصل معنا شركاء في الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ICIJ ومشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد OCCRP عن قصّة خير الدين، ونظراً الى أهمية الوثائق حوله، قرّرت المؤسستان الصحافيتان نشر الوثائق حول خير الدين في قصصهم الأساسيّة في المشروع.
في ذلك الوقت، أرسلنا أسئلة لخير الدين في إطار حقّ الردّ، إلا أنّ الأخير قرّر عدم التجاوب.