fbpx

إسرائيل:سؤال الديمقراطيّة والاحتجاجات التي تستثني الفلسطينيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تعترف شريحة واسعة في اسرائيل، بمن فيهم اليسار الراديكالي والمعترضون على الاحتلال الإسرائيلي ومناهضو سياسات الجيش في الضفة الغربية وقطاع غزة، بأن السياسة الإسرائيلية وديمقراطيتها، مجرد ادعاء عندما يتعلق الأمر بالاحتلال والسيطرة على الفلسطينيين، وتعميق سياسة الفصل العنصري.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المفارقة في السياق الإسرائيلي الراهن، أن أقطاب المعارضة من الوسط واليمين الصهيوني الديني والعلماني الليبرالي واليسار الصهيوني، واليسار الراديكالي، هم من ناشطي الكتلة المناهضة للاحتلال (كما يطلقون على أنفسهم في إسرائيل)، ودعاة الديمقراطية والمساواة بين اليهود والفلسطينيين، وهم أنفسهم من شكلوا ما يسمّى “حكومة التغيير”. الأهم، أنهم يقودون الاحتجاجات منذ نحو ثلاثة أشهر ضد حكومة بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم من الفاشيين والعنصريين من اليمين الجديد واليهود المتدينين المتطرفين “الحريديم”.

يدّعي بعض قادة الاحتجاج أن الانقسام بين المعسكرين والفارق الحقيقي بينهما، هو  وجود معسكر ديمقراطي يؤمن بالحرية والحقوق المدنية ويدعم المساواة، يقابله  معسكر يتمسك بقناعة تفوّقه على الآخرين.

يُطالب المتظاهرون بقوانين أساسية تصون الحقوق المدنية، وتحمي كرامة الإنسان وحريته وتمنع التمييز، وتضمن المساواة والحق بحرية التعبير عن الرأي والتظاهر والتجمع السلمي، الخطوة التي لم تتمكن إسرائيل من تحقيقها حتى اليوم،  بسبب التزامها التاريخي بنظرية “التفوق اليهودي” وخوفها من الحريديم المتطرفين.

بعد سقوط حكومة نتنياهو في انتخابات العام 2021، وتشكيل حكومة التغيير التي استمرت لمدة عام، اعتقد هؤلاء إلى جانب ناشطين من اليسار، ومن يناهضون الاحتلال في الضفة الغربية، ويتضامنون مع الفلسطينيين ويرصدون جرائم المستوطنين والجيش الإسرائيلي وانتهاكاتهم في الضفة الغربية، أنهم حققوا إنجازاً.

يلخَّص هذا “الإنجاز” بصعود حكومة التغيير للحكم، التي تم الترحيب بها بشكل كبير، رافقه شعور بالارتياح، إذ مُنحت فرصة للعمل، بوصفها أفضل من حكومات نتنياهو السابقة.

هذه الحكومة التي تشكلت من ائتلاف هجين، اجتمع فيها الخصوم جنباً إلى جنب، إذ حوت اليسار (حزبا العمل وميرتس)، مع صقور اليمين (نفتالي بينت وليبرمان) وأصحاب فكرة أرض إسرائيل الكاملة (جدعون ساعر وغيره)،  وتم الاعتراف بهذا الاصطفاف بوصفه نصراً.

تلك الحكومة سجلت تحت مظلتها نسباً عالية من الجرائم ضد الفلسطينيين، من هدم المنازل في القدس والضفة الغربية، والقتل اليومي ومصادرة الأراضي والبناء الاستيطاني، وكانت الأكثر دموية بالنسبة الى الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ نحو عقدين، إذ عززت الاستيطان وعمّقته، وتمسكت بقوانين الفصل العنصري في الضفة الغربية وترسيخها.

جاءت حكومة نتنياهو الجديدة على أنقاض حكومة التغيير، وهي أكثر أيديولوجية وذات غالبية صلبة ومتماسكة بـ 64 عضواً في الكنيست، وتتشكل من ائتلاف يميني قومي ديني، من أقصى اليمين العنصري، ما جعل الأخير أكثر غطرسة، ففرض نفسه بقوة لم يعتقد هو ولا القوى غير اليمينية في إسرائيل، أنها موجودة.  

التحضير للانقلاب على النظام القضائي ليس جديداً، ولم يظهر الى العلن الآن، إذ حاولت القوى المشكلة للائتلاف الحاكم الحالي الاقتراب من السيطرة في الانتخابات الأولى لعام 2019 بثقة بأنهم الغالبية. 

هذه الثقة مبنيّة على منطق ديمغرافيّ، فالحريديون المتطرفون والقوميون المتدينون والشرقيون التقليديون، ظنّوا أن عددهم كاف لتأمين 61 مقعداً في الكنيست، لكن على مدار أربع دورات انتخابية، لم تتحقق هذه الغالبية، فبدأ تشكيل تحالفات مع أحزاب اليسار الوسطي،  بل إن أحد الأحزاب الممثلة للفلسطينيين انضم إلى الائتلاف، ونقصد الحركة الإسلامية الشمالية. 

يذكر الكاتب ميرون رابوبورت في  مقال له، أن هذا الواقع يخفي رغبة في الانتقام من الائتلاف الحاكم وضمان حكم اليمين والسماح له بتحقيق أجنداته، من مأسسة الفصل العنصري في الضفة الغربية المحتلة، مروراً بطرد الفلسطينيين وفقاً لصاحب خطة الحسم بتسلئيل سموترتش، إلى جانب ضمّ الضفة وإقامة دولة الشريعة وتهويد النقب والجليل،  وطرد الأحزاب الفلسطينية من الكنيست، وسحق مراكز القوة العلمانية الليبرالية في المجتمع اليهودي. 

لا يمكن تحقيق ما سبق إلا من خلال تطهير المحكمة العليا، بعبارة أخرى، قرار الائتلاف اليميني وضع كلمة “يهودية” رسمياً فوق كلمة ديمقراطية رسالة ذو معنى،  أي، يجب أن تكون إسرائيل دولة يهودية،  وإن كانت ديمقراطيّة  فلا بأس بذلك، لكن الأمر ليس ضرورياً حقاً.

أين الفلسطينيون مما يحصل؟

يتساءل اليسار الراديكالي، أين كان الفلسطينيون خلال التظاهرات الجماهيرية، وما هو دور اللغة والممارسات القومية والعسكرية للاحتجاج؟ هذه الأسئلة طرحتها الكاتبة والناشطة اليسارية أورلي نوي، والتي قالت في مقال لها: “قد تكون الاحتجاجات ناجحة على المستوى التكتيكي، ولكن على المستوى الاستراتيجي،  عمقت الهوة بين الفلسطينيين واليهود، ولن ننجح في صياغة ديمقراطية حقيقية وجوهرية، من دون أن تشمل بالضرورة جميع المواطنين…”.

اختلفت أهداف المشاركين في الاحتجاجات ضد الحكومة وخطتها لإصلاح القضاء، أو كما يسمى الانقلاب القضائي، وشعروا أنهم مهددون من حكومة متطرفة تسعى الى فرض أجندتها الدينية والسياسية على مجتمع يفترض أنه يعيش حتى الآن في نظام ليبرالي علماني ديمقراطي. لكن فعلياً، ليس بإمكان الديمقراطية أن تتعايش، بحكم تعريفها، مع نظام الاحتلال والفصل العنصري والفوقية وفرض السيادة اليهودية.

 مسّت التهديدات التي يشكلها مشروع الانقلاب القضائي المشاركين في الاحتجاجات على رغم الاختلافات الكثيرة بينهم، وما وحّدهم يتجاوز الاتفاق على أن جوهر دولة إسرائيل منح حقوقاً خاصة لليهود، فأعضاء هذا الائتلاف، لديهم السلطة لتحديد من يريد دولة تعتبر يهودية.

 وصل التهديد إلى المدافعين عن القيم الليبرالية، والنساء المستقلات، والمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية ومجتمع الميم، وكل هؤلاء الذين كان يُنظر إليهم على أنهم يشككون في قدرتهم على تحقيق مشروع التفوق اليهودي.

هذا الشعور بالخطر الفوري وحالة الطوارئ بين قطاعات كبيرة من الجمهور العلماني الليبرالي، لم يؤثر بأي شكل على سياسات الاحتلال في الضفة الغربية وخطط وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.

أثارت السياسات، أي الانقلاب القضائي، مخاوف الفلسطينيين، والتيار الأمني ​​المهيمن من قادة المؤسسة الأمنية والجيش الإسرائيلي والطيارين في سلاح الجو الإسرائيلي، الذين عبروا عن قلقهم من خطة الإصلاح القضائي الذي قد يمس بهم في حال سُحبت صلاحيات المحكمة العليا، التي يعتبرونها الحصن في الدفاع عنهم في التحقيقات الدولية بشبهة ارتكاب جرائم حرب ، وتطمئن خشيتهم من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.

من هنا، تولّد شعور لدى الكثير من اليهود بأن خطر الدكتاتورية يهددهم، فكان التمسك بشعار الديمقراطية هو الحلّ، لكن مصطلح الديمقراطيّة هو الأكثر غموضاً في الحالة الإسرائيلية، مع ذلك من وجهة نظر المعارضين للإصلاح القضائي، هو الحل أمام ما يعتبرونه انقلاباً، لأنه يمنح الدولة، أي الائتلاف الحاكم، مزيداً من السلطة على حساب النخبة السياسية الحالية التي حكمت إسرائيل لفترة طويلة.

يبدو أن الشعور بالتهديد والخوف ما زال قوياً في التظاهرات، تفضحه أيضاً المواقف القوية التي عبرت عنها رئيسة المحكمة العليا إستر حيوت، والمستشارة القانونية غالي ميارا، وكذلك الاحتجاجات التقنية وتحذيرات الاقتصاديين، إضافة إلى احتجاج جنود الاحتياط، بخاصة الطيارين. يتضح الأمر أيضاً مع ردود الأفعال على إقالة وزير الدفاع يوآف جالانت، إذ يُنظر إليه على أنه مخلص للنخبة العسكرية التي عارضت الإصلاح بشدة، واتُّهم بحماية الآلاف من الطيارين وغيرهم الذين أعلنوا أنهم لن يخدموا في ظل الدكتاتورية.

من الصعب التكهن والقول إن نتنياهو سيتراجع، وإن خطة الإصلاح القضائي انهارت، لكن المعارضة والحركة الاحتجاجية حققت إنجازاً مهماً بالنسبة إليها، بخاصة في مواجهة حكومة قوية ومتماسكة وأيديولوجية.

تبقى احتمالات العودة إلى المواقف الأصلية قائمة، فالطيارون الذين يخدمون في الاحتياط توقفوا عن التدريب لفترة قصيرة، ولم يتمردوا، بل عبروا عن احتجاجهم فقط، وبالمناسبة خدمتهم طوعية، وبعضهم لم يتوقف عن التدريب، وبعد تأجيل خطة الإصلاح، سيعودون إلى قصف غزة أو في أي مكان آخر تأمرهم الحكومة به، وقد يكون بعضهم شارك في قصف دمشق في الأيام الماضيّة.

يمتد الأمر إلى أصحاب الامتيازات الاقتصادية، الذين سيعودون إلى مناصبهم في النظام الليبرالي الجديد، كما ستستمر المحكمة العليا بسياستها، وعدم تمثيل الفلسطينيين والشرقيين والأثيوبيين وغيرهم. والأهم، لن يحوّل جنود الاحتياط المشاركون في الاحتجاجات احتجاجهم الى أداة سياسية شرعية ضد الاحتلال.

لم تعترف شريحة واسعة في اسرائيل، بمن فيهم اليسار الراديكالي والمعترضون على الاحتلال الإسرائيلي ومناهضو سياسات الجيش في الضفة الغربية وقطاع غزة، بأن السياسة الإسرائيلية وديمقراطيتها، مجرد ادعاء عندما يتعلق الأمر بالاحتلال والسيطرة على الفلسطينيين، وتعميق سياسة الفصل العنصري. 

يمكن القول إن هناك شبه استحالة في وضع دستور لدولة ديمقراطية في اسرائيل وادعاء تثبيت المساواة في القوانين الأساسية، فيما تكرّس حقوق الامتياز لليهود فقط، مقابل الاحتلال والفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية.