fbpx

لسنا جميعاً أُمهات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما زالت مجتمعات كثيرة، بخاصة العربيّة منها، ترى أن الأمومة “غريزة”، والمرأة بعد الزواج، ليست سوى أم ومعها أطفال، ولكن الطبيبة النفسية إستير بو أنطون، أعادت النظر في مفهوم “غريزة الأمومة”، عبر مجموعة اختبارات ودراسات علمية، توصلت بعدها إلى فرضيّة مفادها أن بعض الأمّهات لا يمتلكن هذه “الغريزة” …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الخامسة فجراً، تستيقظ على صوت رضيعها الذي لم يكمل شهره التاسع، بعد أقل من ساعة من وضعه بالسرير ودخوله في النوم، فتنهض بعدما كادت تغفو، تلقمه صدرها لإرضاعه كي ينام مجدداً. يتكرر الأمر حتى الثامنة صباحاً.

يرنّ منبّه الهاتف الساعة الثامنة بالضبط، تنهض مجدداً لتحضير الإفطار لزوجها قبل خروجه الى العمل، متمنية أن تحظى بنوم هادئ لساعتين إضافيتين، كي تبدأ بأعمال المنزل وطهي الطعام. لم ترغب رباب سمير في الإنجاب بعد الزواج مباشرة، كانت تحتاج فرصة للاستمتاع بحياتها، ولكن بعدما وجدت نفسها “مجبرة على الإنجاب”، تقول :”لم تكن أرغب في الإنجاب من الأساس”.

تزوجت رباب منذ عامين ونصف العام، وبدأت أسرة زوجها تسألها منذ الأسبوع الثاني للزواج “مفيش حاجة في السكة؟”، وتكرر السؤال حتى أصبح إلحاحاً، تقول: “مكنتش حاسمة القصة مع جوزي أوي، بس كان في كلام إنه نستني شوية علشان نلحق نقعد مع بعض وقت أطول، وأنا كنت دايماً بحس إني مش جاهزة لده دلوقتي”، ورغم تلك المشاعر التي واجهتها إلا أن المحيطين بها لم يتوقفوا عن السؤال، حتى تغير موقف زوجها ليصبح هو الآخر شريكاً لهم، يكرر السؤال ذاته.

هناك سيدات يرغبن في تأخير الحمل لظروف العمل أو الظروف المادية ورغبة الاستقرار، ولكن ما حدث مع رباب لم يكن رغبة في تأخير الحمل، بل رغبة في عدم الإنجاب، وهو ما تشاركها به كثيرات من السيدات، اللاتي لا يرغبن في الإنجاب، ولكنهن يتحولن الى أمهات بالإكراه بسبب ظروف محيطة.

إشكالية “غريزة الأمومة”

ما زالت مجتمعات كثيرة، بخاصة العربيّة منها، ترى أن الأمومة “غريزة”، والمرأة بعد الزواج، ليست سوى أم ومعها أطفال، ولكن الطبيبة النفسية إستير بو أنطون، أعادت النظر في مفهوم “غريزة الأمومة”، عبر  مجموعة اختبارات ودراسات علمية، توصلت بعدها إلى فرضيّة مفادها أن بعض الأمّهات لا يمتلكن هذه “الغريزة” ولديهن مشاعر مختلفة تجاه فكرة الإنجاب، فالشعور بالأمومة هو نتيجة لعملية نفسية وهرمونيّة معقدة تحيط بها عوامل اجتماعية وثقافية وتربوية عدة، بالتالي لا يمكن الجزم بأن هذا الشعور غريزي.

عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية، سارة هردي، درست خلال 30 عاماً السلوك الأنثوي للبشر وغيرهم من الثدييات، وألّفت كتاب “الطبيعة الأم: غريزة الأمومة وكيف تشكل الأنواع البشرية”، تفترض فيه أنه لا يوجد ما يسمى “غريزة الأمومة”، إذ تعتمد على عدد من المتغيرات البيئية والاجتماعية، أي أنّ الأمومة سلوك تتعلّمه الأنثى بمرور الزمن، وليست غريزة فطرية تتميّز بها النساء كما كان يُعتقد سابقاً.

تقول رباب التي وجدت نفسها أماً: “قبل الزواج مكنتش عندي مشاعر واضحة ناحية الأطفال، يعني ممكن أحب ألعب مع ولاد أختي بس شوية ولما يعملوا دوشه بتعب، لما اتجوزت لقيت كل اللي حواليا بيسألوني على الخطوة الجاية وإني لازم أكون أم، مش بس أهل جوزي، وأهلي كمان، وكان في لوم غريب لفكرة بس إني محتاجة أأجل القرار”.

على رغم موافقة زوج رباب بدايةً على تأخير الإنجاب، إلا أنه عاد وطلب منها العدول عن هذا القرار “حتى جوزي بعد مكان شبه مقتنع، بعد كلام مامته وكتير من أهله وأهلي قالي لازم نخلف، وأنا مكنتش فاهمة أي حاجة، وبدأت أحس إن المشكلة فيا، ما هو كل الناس اللي حواليا بتخلف وأنا اللي عايزة استنى شوية”.

شعرت رباب بالذنب ووصفته بجلد للذات، ما جعلها تقبل بالإنجاب، لتجد نفسها بعد الولادة غير قادرة على الأمومة، “بعد الولادة محستش أي مشاعر ناحية ابني، لا حب ولا كره، اللي هو أنا صاحية طول اليوم ومش بنام ومطلوب مني تنظيف بيت وطبيخ، ورعايته هو، حسيت إنه أنا مكنتش عاوزة أأجل لا أنا مكنتش عايزة أخلف”.

ما اختبرته رباب، تمر به كثيرات من السيدات، لكن هذا الشعور، أي الرغبة في عدم الإنجاب، غير مقبول اجتماعياً ولا ضمن الأزواج، إذ تقول: “لما حاولت أقول لجوزي إحساسي قالي إنه أنا بعاني من اكتئاب حمل وولادة، بس حتى لما طلبت نصيحة طبيب نفسي واداني علاج أنا عندي نفس الإحساس، صوت دايماً جوايا بيقول أنا مش عاوزة أبقى أم”.

لا بد من الإنصات الى الخوف

استشاري الطب النفسي الدكتور رامي علي، قال إن هناك تغيرات تصيب السيدات عقب الحمل والولادة، منها  تغيرات طارئة تصيب ما يقارب الـ 70 في المئة من السيدات، تظهر في اﻷيام الأولى بعد الولادة، وتتجلى بصورة  تغيرات مزاجية بسبب الهرمونات، فهناك ما يسمى باكتئاب ما بعد الولادة، والذي يبدأ بتغيرات مزاجية خفيفة، ومن الممكن أن يصل الى درجات أكثر ويتطلب تدخلاً علاجياً.

يؤكد  علي أن كثراً من الرجال في المجتمعات العربية لا يهمهم هذا الأمر، إذ يوجَّه اللوم دائماً الى السيدات، بوصفهن غير قادرات على التحمل، أو يُتهمن بادعاء المرض، على رغم أن ما يختبرنه يحتاج الى التدخل الطبي، وعند التأخر في علاجه يمكن أن تصاحبه محاولات الأم إيذاء الطفل أو التخلّص منه.

تشترك مع رباب في ما مرت به، رانيا الباز (36 عاماً)، التي تزوجت منذ 6 سنوات، واتفقت هي وزوجها على عدم الإنجاب، لتقابلها محاولات الأهل بالعدول عن الموضوع، لكن رانيا وزوجها كانا قادرين على التصدي للضغوطات، إلى حين وجدت نفسها حاملاً من دون رغبتها، فبدأ الخوف يلتهمها، مع رغبة في الهرب.

تقول رانيا  لـ”درج”: “أنا عارفة إني مش عايزة أبقى أم، وقريت عن ده وعرفت إن ده قرار خاص بيا، بس اللي حصل إني فجأة حملت وللأسف مفيش إجهاض لأنه في النهاية أي حاجة تخص جسد المرأة مينفعش تاخد فيها قرار لوحدها”، الأمر كانت بمثابة كابوس اقتحم حياة رانيا، واستمر الخوف طوال الأشهر الأربعة الأولى من الحمل، إلى حين أجهضت رانيا من دون تدخل منها :”فجأة لقيت دم بينزل مني، والدكتور قالي إنه مات في بطني وعملت عملية تنظيف للرحم”.

لا تنكر رانيا حُزنها على موت جنينها داخل بطنها، تقول: “عيطت وزعلت بس ارتحت، لأني عارفة نفسي، عارفة إني منفعش أبقى أم حياتي وشغلي مش حياة وشغل أم، مش بكره الأطفال، بس مش عايز أربيهم، كل اللي عاوزاه أعيش مع جوزي مبسوطين ومستقرين”.

حديث رانيا ورباب، يتفق مع الظهور العلنيّ لـ”اللا إنجابيين”، فمنهم من يرغب في الزواج والعيش مع شريك من دون إنجاب، ما يعزز رغبات كثيرات من النساء في أن يكن صاحبات السيادة على أجسادهن، ويمتلكن وحدهن الحق في التعامل معها واتخاذ القرارات الخاصة بهن، ومنها الإنجاب.

يشير الطبيب النفسي رامي علي، إلى أن قرار الإنجاب لا بد أن يكون نابعاً من المرأة نفسها، لا من المحيطين بها، لأن هذا الضغط وإجبارها على الحمل من دون رغبتها، قد يترجمان لاحقاً بمعاملة سيئة للأطفال، تبدأ من الضرب ومن الممكن أن تصل الى حالات أكثر قسوة.

تتفق مع ما سبق الاختصاصية النفسية، سارة جمعة، التي تتعامل مع سيدات كثيرات قبل الولادة وبعدها، فتروي لـ”درج”: “للأسف اللي بيجي بعد الولادة أكتر من اللي بيجي قبلها، يمكن لو الست قدرت تتكلم مع حد مختص قبل قرار الحمل تقدر تفهم نفسها اكتر وتعرف هي قادرة تبقى أم ولا لأ، لكن بسبب الزن الكثير من الحماه والزوج الست بتحمل وبعد الحمل تعاني ووقتها بتبدأ تلجأ لمختص وفي كمان اللي مش بتروح وبتفضل في نفس الدايرة دي مع أكثر من طفل”.

تتابع قائلةً: “لازم نعترف إن مش كل الستات تقدر تخلف وتشيل مسؤولية طفل، في سيدات عصبيات أو سيدات غير قادرات على التضحية، مش هتتحمل متنامش لما طفلها يصحى، وهيبقى الطفل حمل وعبء عليها، وممكن تكرهه أو تأذيه”.

الرعب من الأمومة

إيمان مرسال، إحدى الكاتبات اللاتي تحدثن عن الأمومة، في كتابها “كيف تلتئم؟ عن الأمومة وأشباحها”، ومن بين أشباحها الخوف والقلق وقلة الثقة والاكتئاب، فضلاً عن الشعور بالذنب الذي تصفه بأنه الشعور الذي يوحد الأمهات كافة على اختلافاتهن. 

تكتب مرسال: “بمجرد تأكدي من الحمل الذي أردته بكامل إرادتي، لم أشعر بالفرح الذي توقعته، سيطر علي طوفان من المخاوف والرعب من أن جسدي غير صالح للقيام بهذه المهمة، فناهيك عن شعورها بالغثيان وآلام الظهر وازدياد مرات التبول، حاصرتها مخاوف عدة بشأن سلامة طفلها بداية من الإجهاض إلى الولادة المبكرة، ومروراً بتسمم الحمل إلى تشوهات الجنين، واحتمالات إنجاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة أو مشوه أو مصاب بعيوب خلقية”.

 تستعرض مرسال في الكتاب أيضاً، نماذج لسيدات رأين المولود كتهديد لوجودهن وحياتهن، مثل الشاعرة آنا سوير، التي أفصحت عن تلك المخاوف في قصيدتها “أمومة”.

لا بد أن نذكر أن رباب تواجه سؤالاً جديداً من أسرة زوجها وأسرتها، مفاده: “هتخاوي ابنك امتى”، أما رانيا فما زالت تتهرب هي وزوجها، كما تعودا، من أسئلة المحيطين عن سبب تأخّر حملها.