fbpx

20 عاماً على لحظة سقوط الصنم… مرحباً يا بغداد!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليس بالقمع وحده بنى طاغيتنا الأشهر سلطته، بل أيضاً بالصور التي انتشرت في كل الأماكن وفي كل الأشياء… باختصار أراد أن يغرز صورته في لا وعي المواطن كما المسمار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من منفاي في لندن، كنت أشاهد الحدث الذي غيّر حياتي وتاريخ بلدي. نهضت من الكرسي وصرخت. صرخ معي أصدقائي. تشنّجت كل عضلة في جسدي، فيما أحدّق بالرجل عاري الصدر، وهو يضرب بمطرقته الضخمة قاعدة التمثال كي يسقط الطاغية من عرش الكونكريت. الجمهور حوله يشدّ الحبال، بعضهم تسلّق التمثال ليضرب الرأس. لحظة رمزية بامتياز. أفلت الرجل، وبقيت سلطته الرمزية المجسدة بهذا التمثال. فلنضرب هنا!

ليس بالقمع وحده بنى طاغيتنا الأشهر سلطته، بل أيضاً بالصور التي انتشرت في كل الأماكن وفي كل الأشياء: الشوارع والساحات العامة، مداخل المدن والمؤسسات، على أغلفة الكتب والدفاتر المدرسية، على ساعات اليد، صحون الطعام، أقلام الكتابة، العملات المعدنية والورقية… باختصار أراد أن يغرز صورته في لا وعي المواطن كما المسمار. 

في المنفى تابعته من خلال الصورة، في الصحف والتلفزيون. لا أكتفي بالتفرج، إنما أحاول أن أدخل ما وراء الصورة مدركاً خداعها وما تخفيه، وبالتحديد حين يكون موضوعها رجلاً مثله امتهن الكاميرا ممثلاً ومخرجاً، وعشقها حتى آخر لحظة من حياته. كانت الكاميرا بالنسبة إليه أداة تزيح الواقعة الحقيقية بواقعة مفترضة ومُمَثَلَة. 

حين دخلت البلد يوم 26 نيسان/ أبريل 2003 بعد 25 عاماً في المنفى كان صدام أول من استقبلني بعد نقطة الرويشد على الحدود مع الأردن. في الفجر الباكر رأيته بعقاله وكوفيته على جدارية كبيرة من الكونكريت، مبتسماً يحيي الآتين إلى مضيفه. في داخلي حدثت رجفة كأنني استعدت مرة واحدة كوابيسي في المنفى عن دخول البلد تحت ستار من الظلمة وفي غفلة عنه وعن شرطته. بضع رصاصات ساخطةً ثقبت وجهه وشفتيه، مع ذلك ظل يبتسم. فكرت بمن أطلق الرصاص على الصورة. كأنه صوّب على تاريخ من خوفه الشخصي. 

بوجوده الرمزي المنتشر في كل مكان وفوق الأشياء، حقق صدام توافقاً نموذجياً بين سلطته الأدواتية وسلطته الرمزية. تنتشر الصور وتتوزع طردياً مع أجهزة الأمن. كلما زادت المخاطر، يختفي الرجل الشعبوي ويصبح حبيس قصره. القصر يتحول إلى نصب رمزي. لا يراه الناس حين يغادر، بل يرون موكبه الخاطف كلمحة خيال، وربما يرون خياله، أو خيال شبيهه من وراء زجاج السيارة المضبب. وجود الرجل الحقيقي يصبح افتراضياً، تجسده في الواقع هذه الجداريات الضخمة والتماثيل الضخمة في مداخل الشوارع وفي الساحات.

خلال الحرب مع إيران لم يأمر القائد- الرمز، وهذا واحد من ألقابه، بتشييد تمثال له (تواضعاً) لأنه هو نفسه كرّس مقولة “الشهداء أكرم منّا جميعاً”. لكن النهاية المأساوية للحرب عام 1991 كشفت هشاشة السلطة وهشاشة الورق. فالانتفاضة التي عمت 14 مدينة عراقية بدأت شرارتها بقيام الجنود المنسحبين بإطلاق صليات ساخطة على جدارية تمثله في البصرة. المنتفضون الغاضبون التقطوا الإشارة فباشروا على الفور بتمزيق ملايين الصور والجداريات التي تمثل سلطته في المدن الأخرى. 

لقد سرق هذا الرجل، ورقاً كان، اسمنتاً أم حديداً، نصف حياتي وأجمل آمالي… لكنه سقط الآن.

الخطوة الأولى التي اتخذتها السلطة بعد فشل الانتفاضة وترميم جهازها الأمني هي تشكيل “لجنة عليا لترميم جداريات القائد”. نكاية بمواطنيه وبالزمن الحاضر استبدل صدام الورق بالحديد والكونكريت. الصلابة والثبات في وجه الزمن. ارتبطت معظم التماثيل بالتاريخ. التاريخ كما يقول برنارد لويس “أعيد تذكره، انتقاؤه، ثم إعادة توظيفه لتلبية متطلبات الحاضر”. خلال حرب السنوات الـ8 بين إيران والعراق (1980-1988)، عاد الخيال الانتقائي إلى الوراء ليستعاد الملك الأكدي (نرام سين) كتفاً إلى كتف مع صدام حسين في عربة حربية تجرها خيول بيضاء والرمح في اليد لمحاربة العيلاميين: من نرام سين إلى صدام حسين، التاريخ هو حرب مستمرة مع الجار الشرقي. الاستمرارية التاريخية تغيرت بعد حرب الخليج الثانية. ففي تكريت وعلى الجانب الثاني من النهر، شيّد صدام في عزّ الحصار سلسلة من القصور الرئاسية لأغراض أمنية ورمزية، يتنقل بينها من دون سابق إنذار للتمويه على العدو وطيرانه. على تلة وعند انعطافة النهر، شيد قصره الرمزي ببوابة على شكل قوس النصر، فوقه تمثال لصدام يرتدي خوذة بشكل قبة المسجد الأقصى في القدس تشبهاً بصلاح الدين الأيوبي. الاثنان ولدا في تكريت، وبحسب تقويم صدام، في اليوم ذاته أي 27 نيسان، بفارق 800 عام. كلاهما، عبر التاريخ، في جسد واحد على حصان جامح والسيف في يده يشير إلى القدس…

 تكاثرت تماثيله في حملة التملق التي سادت الأجهزة الإدارية والحزبية. الخوف يتحول إلى إعجاب ثم إلى حب. والتعبير هو الصنمية التي سادت كتماثيل وجداريات. 

التمثال الأكبر شيّد في ساحة الفردوس في بغداد قبل السقوط بعام، في فترة اعتقد صدام بأنها نهاية الحروب (الحواسم)، واحتفى بعيد ميلاده الخامس والستين. لذلك نزع البدلة العسكرية ليظهر بملابس مدنية. طول التمثال بلغ 12 متراً، ما يجعله أعلى من مواطنيه ليطل عليهم من مكان مرتفع جداً.

للصحافة وهي تنقل الحدث حياً، كان تحطيم التمثال في 8 نيسان لحظة رمزية بامتياز. أكثر من 200 صحافي ومصور في الساحة ينقلون النهاية الرمزية لحرب دامت 20 يوماً. وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد، وصف هذه اللحظة بأنها “لا تقل أهمية عن سقوط جدار برلين”. للحروب دائماً نهايات رمزية. صعود الجنود السوفيات لانتزاع الصليب المعقوف من مبنى الرايخستاغ في برلين، نصب العلم الأميركي في سواحل النورماندي، سقوط جدار برلين كنهاية للحرب الباردة…

اللحظة العراقية تتعلق بشخص ما زال حياً يتنقل من وكر إلى وكر، ومن أوكاره يبعث رسائل تهديد لـ”العدو وأعوانه في الداخل”. الشخص نفسه غائب، لذلك توجه غضب الشارع نحو الرمز الذي يمتّ إليه، وهو التمثال. في اللحظةً التي بدأت فيها الطرقات الأولى على قدمي التمثال طرحت الأسئلة التي تتكرر كل مرة. من الذي يحتل هذا الفضاء الضخم؟ لماذا يتحتم علينا أن نتذكره، ولأي غاية؟ الرجل الذي كسر الخوف الشامل مصلّح الدراجات (كاظم حسن الجبوري) توقف لحظة عن الطرق. بقفا يده مسح العرق عن جبهته، وأجاب الصحافيين حوله وهو يسحب أنفاسه بصعوبة، “هذا الرجل- مشيراً إلى النصب- قتل 14 فرداً من عائلتي”. 

في ذاك المكان الدائري ذاته، كان أيضاً نصب “الجندي المجهول” يمثل بمنتهى التجريد جندياً يحمي بجسده الشعلة الأبدية. في الستينات كنا نستريح بعد تجوال طويل على درجاته. نلتقط الحمص المسلوق بأطراف أصابعنا وقد أدرنا ظهورنا للشعلة والجندي الذي يتجول ذهاباً وإياباً وهو يحرس النصب. نأكل على مهل من دون خوف، إنما بشعور من الألفة. 

التمثال الذي حل محل الجندي المجهول يهيمن رمزياً على الفضاء الاجتماعي في ساحة عامة مزدحمة. يمر الناس راكبين أو راجلين، وحتى لو لم يلتفتوا إليه يفرض التمثال نفسه عليهم كتعبير عن قوة وعن الأهمية الذاتية لصاحب النصب في وعي الأجيال التالية. معظم المارين يعرفون بالتجربة والفراسة أن الحكم على من يسيء الى التمثال يساوي الحكم على من يطلق النار على الرجل نفسه: الإعدام. 

مع ذلك يستمر كاظم بطرق الكونكريت مدعوماً بحماسة مؤازريه. لكن التمثال بقي يجسد الرجل الأصلي واقفاً وسط الساحة في قمّة زهوه يحيي جمهوراً مفترضاً يزحف من ساحة التحرير ليمرّ تحت المنصة. بقية القصة يرويها لجريدة “نيويوركر”، قائد الدبابة ماك كوي Mc Coy . كان يغسل جواربه عندما علم بأن هناك حشداً من الناس الذين يحاولون إسقاط أكبر تماثيل صدام في ساحة الفردوس فذهب بدبابته ليعينهم. تعاد الدورة التاريخية: يعجز الشعب العاري اليدين، فتتدخل قوة عسكرية، وهي في الوقت ذاته أجنبية، مستخدمة الدبابة بدلاً من المطرقة لجر الرجل من كبريائه إلى الأرض. هذه اللحظة الرمزية استندت إلى فرضية أصبحت واقعاً في تاريخ العراق الحديث. الشعب العاري خاض انتفاضات متتالية أغرقت بالدم، مع ذلك عجز عن اسقاط حاكميه. الجيش بدباباته ومسلحيه يحقق ذلك نيابة عن الشعب، عبر الانقلابات. الشعب الموجود في الشارع يجرّ تماثيل الحكام رمزياً إلى الأرض أو يمزّق صورهم على الجدران. يتكرر الأمر الآن برمزية مشابهة. 

بعيداً من المكان صرخنا مرة واحدة، نحن المتجمعين حول التلفزيون، حين مال الصنم قليلاً. انكسرت الساق النابتة في المنصة، مال الجسد نحو أرض… لقد سرق هذا الرجل، ورقاً كان، اسمنتاً أم حديداً، نصف حياتي وأجمل آمالي… لكنه سقط الآن.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.