fbpx

العفة القهرية في إيران: المواطن شرطيّ والسلطة تحرض على النهي عن المنكر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عودة المناقشات المجتمعية والبرلمانية والسياسية حول الحجاب، وإلحاح القوى الأصولية والمحافظة بشدة على فرضه ، جعلت النظام يروج لخطاب مزدوج وانتهازي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بالتزامن مع تحركات النظام الإيراني المحمومة لمواجهة التمرد على الحجاب القسري، بعد فترة مراوغة للتهدئة إثر تنامي الاحتجاجات التي أعقبت مقتل الفتاة الكردية الإيرانية، مهسا أميني، على يد دورية “شرطة الأخلاق”، تكررت حوادث الاعتداء على الفتيات، وشن حملات قمعية عنيفة على المحال والأماكن التي لا تفرض القيود الدينية المتشددة على النساء.

حوادث الاعتداء المتنامية نفذها مواطنون لا سلطة لهم أو صلاحيات، آخرها التهجم على فتاة ووالدتها داخل أحد الأسواق، بشكل وحشي، لعدم التزامهما بالحجاب الإلزامي. يُمكن أن يُعزى ذلك إلى الدعاية الدينية العدائية التي يروج لها رجال الدين، والشحن المجتمعي ضد الفتيات والنساء، والتحريض على القمع، ليتحول المواطن إلى شرطي محتمل لفرض العفة القهرية.

عودة المناقشات المجتمعية والبرلمانية والسياسية حول الحجاب، وإلحاح القوى الأصولية والمحافظة بشدة على فرضه ، جعلت النظام يروج لخطاب مزدوج وانتهازي. 

يُنظَرُ للحجاب مرةً باعتباره مسألة قانونية يتعين الالتزام به، لتحقيق الضوابط داخل أي “مجتمع شرعي”، على حد تعبير الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في خلط متعمد بين “الشرعية”، بمعناها القانوني والدستوري، و”الشريعة” بمعناها الديني،  في تجاهل للتفاوت الحقوقي بينهما. ومرات أخرى باعتباره فرضاً (التزاماً) دينياً، وتتولى النخبة الدينية ترويج هذا الخطاب الراديكالي بينما تتخفف من أيّ براغماتية سياسية.

يمرر الأصوليون في البرلمان البنية التشريعية التي تساعد على تمكينهم سياسياً، أما مُمثلي “الولي الفقيه” في الأقاليم والمدن الإيرانية، فيعملون على (تبييء) المفاهيم والقيم المتشددة عبر حواضنهم المجتمعية، من خلال السياسات الدينية التي يشرع في تنفيذها رئيس مجلس التخطيط لأئمة الجمعة، محمد جواد حاج علي أكبري. 

أرسل علي أكبري في التجمع الافتراضي لأئمة الجمعة، مؤخراً، بـ”رسالة سرية توضيحية ومفصلة وانتقادية” للرئيس الإيراني، طالب فيها أئمة الجمعة ضبط الحجاب،  وشنّ هجوماً على “العدو” الذي يهدف إلى تحويل الحجاب من قضية  ثقافية إلى استقطاب مجتمعي، ثم تحد سياسي، لتفكيك وانهيار ما وصفه بـ”الجبهة الثورية”.

الواقعة الأخيرة لن تكون خاتمة المطاف في ظل نبذ الإيرانيات قانون الحجاب الإلزامي، بل إنّ الأحداث تمهد لسيناريو أسوأ، مرجحاً أن تكون “المواجهة قد بدأت للتو”.

المواطن ناهياً عن المُنكر

هناك تكتلات صلبة بين القوى المحافظة في إيران، تصطف في مواجهة الخارجات عن طاعة “الولي الفقيه”، خصوصاً أن الحراك النسوي تمكن من تبديد رأسمال النظام الرمزي، مطالباً بقطيعة مع سياساته الوصائية، وخارجاً من دائرة الخضوع سعياً لإنهاء المراقبة السلطوية. 

إخفاق السلطة الإيرانية في تحقيق نتائج عملية باستخدام السياسات القمعية التقليدية، ترافق مع المقاربة الجديدة التي تسعى لحشد قوى مجتمعية للاصطدام بالمعارضين لسياسات الملالي. اتضح ذلك في الدعم الخفي الذي يوفر الحماية لهؤلاء (المطاوعة الجدد)،  هذا ما قاله بيان وزارة الداخلية بعد الحادث الأخير والذي أكد “دعم (الوزارة) جميع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر”. 

وتابع بيان الداخلية أنّ “الجهاز القضائي والضباط (الشرطة) والأجهزة المعنية الأخرى ستتصدى لمنتهكي الحرمات القلائل، لن تسمح بالاعتداء على الهوية المقدسة للمرأة الإيرانية المسلمة”، إذ وثقت مقاطع فيديو حالات عنف استهدف فيها هؤلاء الـ”مواطنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر” النساء غير المحجبات. 

انتقد رئيس تحرير صحيفة “كيهان” الإيرانية القريبة من مكتب المرشد الإيراني، حسين شريعتمداري، بيان وزارة الداخلية، واعتبره “متأخراً” و”غامضاً”. لمّح أيضاً إلى تواطؤ أو نفاق، لم يفصح عن ملابساته وأبعاده، من قبل وزارة الداخلية تجاه هذه القضية، واصفاً موقف الوزارة بأنّه “ذو وجهين”.  

وقال شريعتمداري: “فيما تمر عدة أشهر على الظاهرة الوقحة لخلع الحجاب، السؤال المطروح هو إن كانت لهذا التأخير (صدور بيان الداخلية) أسباب مقبولة”. 

اعتبر بيان الداخلية أنّ “مسألة الحجاب تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى أحد محاور الحرب المعرفية للعدو ضد الشعب”، لافتاً إلى أنّ حملات مناهضة الحجاب منها “الأربعاء الأبيض” أو “بنات شارع انقلاب” أو “لا للحجاب الإجباري” “فشلت ولم تتمكن أبداً من النيل من إرادة وعزيمة النساء والبنات الإيرانيات في الحفاظ على هويتهن الإسلامية”.

وفي ما يبدو أنّ الآليات الرقابية والبنود القانونية المتشددة في إيران لشرعنة العنف ضد الفتيات المتمردات على الحجاب، بواسطة البرلمان والحكومة، لا تبدو كافية أمام تنامي الاحتجاجات منذ أيلول/ سبتمبر 2022، فضلاً عن تفشي ظاهرة خروج الفتيات بدون الحجاب، عملياً، الأمر الذي باغت الحكومة خلال أيام الأعياد الأخيرة، تحديداً النوروز. بالتالي، يسعى النظام إلى تعبئة مجتمعية لخلق أرض رخوة حول الاحتجاجات وإضعاف استمرارها.

الاعتداء الوحشي الذي طاول فتاة ووالدتها في مدينة “مشهد”، والذي قام به رجل دخل في تلاسن عنيف معهما، انتهى برشق رأسيهما بعبوة لبن، ثم صدرت مذكرة اعتقال بحق الأطراف الثلاثة، لا يعد الأول من نوعه، إلا أنّه يتزامن مع تحريض مباشر ومتواصل من قبل مؤسسات وأجهزة الدولة. خصوصاً القضاء الإيراني، الذي شدد على ضرورة محاكمة النساء اللواتي يقفن ضد الالتزام بغطاء الرأس وملاحقتهن من “دون رحمة”.

بداية المواجهة

كتب الصحافي الإيراني داود حشمتي، أنّ الواقعة الأخيرة لن تكون خاتمة المطاف في ظل نبذ الإيرانيات قانون الحجاب الإلزامي، بل إنّ الأحداث تمهد لسيناريو أسوأ، مرجحاً أن تكون “المواجهة قد بدأت للتو”.

هدد رئيس السلطة القضائية، غلام حسين محسني أجئي، ملاحقة غير المحجبات “من دون رحمة أو رأفة بهن”، واعتبر هذا السلوك بمثابة “عداء لقيمنا” في “الجمهورية الإسلامية”، وتابع: “في حال اعتقال المُخالِفات، ستبت السلطة القضائية في الموضوع، وستلاحق كل من له دور في هذه القضايا من مسبب إلى متعاون وشريك”. وأضاف أنّ “خلع الحجاب يتعارض مع العفة العامة ومبادئ الشرع والقانون”، “العدو يدعم خلع الحجاب” في إيران.  

يكاد لا يختلف رأي الرئيس الإيراني عما ذكره رئيس السلطة القضائية، إذ أكد رئيسي أنّ الحجاب “ضرورة دينية وأمر رباني وقرآني”، مشيراً إلى أنّه “إلزام قانوني وإتباع القانون أمر متفق عليه من قبل الجميع”، مؤكداً أنّ “الجميع يجب أن يلتزموا بالحجاب والعفة”. وتابع: “بناتنا ونساؤنا، مرة أخرى، من خلال الالتزام بالحجاب سيظهرن التزامهن بالقانون والضرورات الدينية”.

شدد نائب رئيس الهيئة الثقافية بالبرلمان الإيراني المحافظ بيجن نوباوه، على ضرورة التعاطي مع قضية الحجاب بـ”حزم” و”نهج شامل” و”حاسم”، مع الأخذ في الحسبان أنّ هناك نحو 32 جهة مسؤولة عن قضية “العفة والحجاب” وجميعهم فشلوا في تحقيق نتائج إيجابية.

 قال النائب البرلماني إنّ “الشخص الذي يرتكب هذا الخطأ ضروري يعلم أنّ النظام بأكمله يراقبه، وسيعاقبه”، لافتاً إلى أنّه في حال “لم يجرِ التصدي الشامل والحازم لخلع الحجاب واتباع سلوك انفعالي في ذلك، فسيتجاوز منتهكو الحرمات هذا الحد، وحينئذ سنشهد المزيد من التعري وانتهاك الحرمات”. 

اتهم المرشد الإيراني  “الأعداء”، على حد وصفه، بأنه يقفون وراء تفشي ظاهرة عدم الحجاب، وقال إنّ “العدو يعمل وفق مخطط وعلينا أن نواجه ذلك بشكل محسوب ومبرمج.. خلع الحجاب حرام شرعياً وسياسياً”. 

وتابع: “كثيرات من اللواتي يخلعن الحجاب لو علمن ما هي السياسة التي تقف وراء هذا الفعل لما فعلنه”، معتبراً أن الاحتجاجات المندلعة بعد مقتل مهسا أميني “مؤامرات من قبل الأعداء”، متهماً إياهم بـ”استغلال قضية المرأة لإثارة الفوضى والبلوى. البعض في الداخل انخدعوا، إذ أطاعوا العدو الخارجي وخائنين مقيمين في الخارج ورفعوا شعار حرية المرأة”. 

الإنذار باللسان مسؤولية الجميع

في المحصلة، انعطافة النظام الجديدة والمتشددة تجاه فرض الحجاب، تتحرى وسائط إكراه عديدة، قانونية، أو تعبوية من خلال إدارة العنف بتحريك أفراد المجتمع باعتبارهم “ذئاباً منفردة”، وخلايا تعمل لحساب النظام الذي يعمل بعقلية التنظيمات اليمينية المتطرفة. 

يضاف إلى جهود النظام الإيراني ضغوط أخرى يمارسها على الشعب منها، نبذ الحقوق المواطنية، الأمر الذي حدث في إعلان حظر تقديم الخدمات لغير المحجبات، كما انتشرت أيضاً في المدارس والجامعات والمستشفيات ووسائل النقل منشورات تحمل المضمون ذاته. ووفق الشركة المشغلة لقطارات المترو في طهران، تم تدشين خطة تحذيرية تحت عنوان: “الإنذار باللسان مسؤولية الجميع”، فضلاً عن تشكيل مقرات “للعفة والحجاب” بالمترو.

اشترط بيان صادر عن وزارة التعليم والتربية الإيرانية، مطلع الشهر، تقديم الخدمات التعليمية فقط للطالبات اللواتي يلتزمن بالحجاب. وسترفض الوزارة “تقديم الخدمات التعليمية لعدد محدود من الطالبات اللواتي لا يلتزمن بقوانين ومقررات الزي في المدارس”. ومع بدء العام الإيراني الجديد، توجه رئيس الجامعة الحرة الإسلامية الإيرانية، محمد مهدي طهرانجي، في بيان رسمي، بطلب لمواجهة ما اعتبره “السلوكيات المنتهكة للحرمات، منها خلع الحجاب” داخل الجامعة، وقال إن “ذلك يشكل مطلب أغلبية الطلاب”.