fbpx

عن موت نظرية “موت المُؤلّف” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

علاقة المؤلّف مع نصّه، بخاصّة في بداية صدورهِ ووصوله على شكل كتاب إلى القرّاء والنّقاد، هي أشبه بعلاقة الأب والأمّ مع طفليهما الذي ما يزال بحاجة إلى رعاية واهتمام ودعم حتّى يصلب عوده (النّص).

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هناك ما يشبهُ الخُرافة، شائعة، مفادها أنّ “النّاقدَ أكثرُ علماً ومعرفةً ودراية وإلماماً من المبدع”. لا يخلو الأمر من وجود صنف كهذا من النقّاد المتفوّقين على الأدباء بعلومهم، وربّما بأخلاقهم أيضاً. لكن، هذه ليست قاعدة، حتّى نبحث لها عن استثناءات هنا وهناك! تلك الخرافة، لا تُقال بحرفيّتها هكذا، بل تنوب بعض السّلوكيّات والتّعاملات بين النقّاد والأدباء بالإفصاح عنها. ولكثرة تداولها في الأوساط الصّحافيّة والثقافيّة، وإقرار الكثير من المبدعين بها، سواء صمتاً أو جهراً، أصبح ذلك الوهم أو تلك الخُرافة، في مقام المُسلّمات والبديهيّات، أو الحُكم القطعي الثّبوت والدّلالة، لا يقبل الشّبهة والشكّ والطّعن! والمستفيد من ترسيخ ذلك الوهم وتكريسه، في المقام الأوّل، هو النُّقّاد، لأنّه يُذهِبُ عنهم الخلط، اللّغط، الشّطط، الخطأ، على أنّهم جمهور العلماء، الفقهاء، النّجباء، المتبحّرين، المكشوف عنهم حجُب النّصوص والنّفوس، بوصفهم جهابذة الـتأوىل وأقطابه وفحوله. ذلك الوهم، عزّزهُ شغف بعض الأدباء وهوسهم المرضي بضرورة تقديم النُّقاد لهم، وأنّ الأديب وأدبهُ لن تقوم لهما قائمة، إلاّ بدعم ومساندة وتعضيد رهط من النّقاد لهما. لكن، في ظنّي وتقديري؛ مصادقة ومصاحبة النّقاد، على الصّعيد المعرفي والإنساني؛ نعمة. أمّا محاباتهم وممالأتهم، الانتشاء لمدائحهم، والسّكوت عن قبائحهم؛ نقمة. وهل لبعض النّقاد قبائح؟ طبعاً. لسبب بسيطٍ مفاده، أنّ لبعض الأدباء، قبائح وفضائح أيضاً، أحياناً، يحاول النّقّاد التستّر عليها، والتماس الأعذار لها.   

أعلمُ أنّ هذا الكلام، ليس مريحاً، ولا مرحّبٌ به، لأنّه لن يعجب ذلك “التّحالف الخفي” بين جمهرات من “فسطاطي” الأدباء والنقّاد، على حدّ سواء. لكنّه يبقى رأي، يُؤخذ به، ويُردُّ عليه، باعتباره في مقام احتمال الخطأ والصّواب. 

علاقة المؤلّف تبقى مع الكتابة، لجهة الملكيّة، بينما النصّ، فيصبح برسم المشاع، و”مُلك يمين” ويسار القارئ، يفعل به ما يشاء!

إذا اختلف أديب/ة مع تعامل النُّقّاد والنَّاقدات في قراءاتهم لنصّه/ا، أيًّا تكن طبيعة تلك القراءة ونتائجها، تعسّفيّة، مهينة، ظالمة، مجحفة، وصائيّة…، غالباً ما يبرز النّاقد سندهُ وبرهانهُ في وجه الأديب المُختلف أو المعترض، وهو نظرية “موت المُؤلّف”، داعماً قراءتهُ، وداحضاً اختلاف واعتراض صاحب الكتاب (رواية، ديون شعر، مجموعة قصصيّة)، وأن رولان بارت قال كذا، وميخائيل باختين، قال كذا، وجاك ديريدا قال كذا…، فمَن أنت حتّى تعترض على كلّ هؤلاء الفطاحلة الجهابذة، أيّها الكاتب/ة!؟ وعليه، لا مناص أمام الأديب أو الأديبة إلاّ التزام الصّمت، وأن “يعمل نفسه ميّتاً” ويتفرّج على جولات التّعذيب الذي يتعرّض لها ابنه ــ نصّه ــ كتابه، على أنّ النصّ بعد صدورهِ في كتاب، فقد المؤلّف سلطته عليه، وصار ملك القارئ! هكذا، وطبقاً لتلك النّظريّات، يمنح النّاقدُ والقارئ نفسيهما، التّفويض المعرفي، الثّقافي، “الشّرعي” لأن يقولا عن النصّ ما يشاءان، ومهما تمادت تأويلاتهما واجتهاداتهما في الشّطط والغلوّ، مدحاً أو ردحاً وذمّاً، تشكيكاً وتنكيلاً، ويرفع النّاقد عن المؤلّف حقّ الاختلاف والاعتراض والردّ. وما على المؤلِّف إلاّ التزام الخرس، وارتداء معطف الدّيمقراطيّة، وإلاّ سيُتّهم بالنّرجسيّة، الدّكتاتوريّة، الغطرسة والتسلّط، وربّما بالحماقة والغباء، والكفر بالنّقد وعلومهِ ومعارفهِ ونظريّاته!  

الحقُّ أنّ النّاقدَ، على هذه الحال، أشبه ما يكون برجل الدّين الذي يبقى يفتي لمن يشاء، وكيفما يشاء، تبريراً أو تحريماً، بأنّ يحاجج شخصاً معترضاً عليه، والقول: القرآن قال كذا، والحديث الشّرف قال كذا، (أو الإنجيل، التّوراة قالا كذا)… فهل لك أن تعترض على القرآن والسّنّة، والنّصوص المقدّسة؟! طبعاً، بسماع ذلك، يُصابُ المعترض بالشّلل، وينعقدُ لسانه، نتيجة الرُّهاب، والخوف من تبعات المضي في اعتراضه على القراءات والتّاؤيلات المشتبه بها، التي تناولت نصوصهُ! 

ليس هذا وحسب، بل إذا تمت مناقشة ناقد في إحدى مؤلّفاته، وانتقاده، أو الاختلاف معه، أو الاعتراض عليه، نجدهُ لا يسقط نظرية “موت المؤلّف” على نفسه، بل نراهُ مستنفراً كل خزينهِ وتراكماته وعلومه ومعارفه، لردّ النّقد (الشبهة، التّهمة، الاعتراض…) عن نصّه البحثي النّقدي! وعليه، طِبقاً لاستخدامات نقّادنا الأفاضل والأعزّاء لمفهوم أو نظريّة “موت المؤلّف”، غالباً ما يُقصد به الأديب؛ الرّوائي، الشّاعر، القاصّ…، ويتمّ تجاهل الناقد، بوصفه مؤلِّفاً! علماً أنَّ أيَّ جهد بشري، سواء على صعيد النّصوص الأدبيّة أو النقديّة، لا مناص من أن يشوبها الخطأ بنسبة ما. وبالتّالي، دائماً هناك منطقة وسطى، تتصف بالاعتدال والتّوازن، تنزع فتيل التطرّف لدى المؤلّف واستماتته في الدّفاع عن مؤلَّفِه، ولدى النّاقد ــ القارئ، الذي يضع نفسه في مقام الصّواب والأحقيّة المطلقة في الرّأي والتّأويل، اعتماداً على نظرية “موت المؤلّف”. ذلك أنّ حضور النّاقد ــ القارئ، ليس متوقّفاً ومقتصراً على “موت المؤلّف”! 

فرضيّة أو نظريّة “موت المؤلّف” التي طرحها رولان بارت (1915-1980) منذ ما يزيد عن نصف قرن، بصرف النّظر عمّا سبقها من محاولات إماتة الإلهة عند نيتشه (1844-1900)، وما سبق ذلك من المحاولات التّنويريّة في اشتباك الفلاسفة مع سلطة المقدّس في نصوصه، وإزاحة القُدسيّة عنها، بهدف وضعها تحت عدسة المناقشة والنّقد، والأخذ والردّ، بالصّرف النّظر عن الخوض في هذه التفاصيل، أعتقد أنّه صار يتعيّن علينا، مؤلّفين وقرّاء، إعادةُ النّظر في نظريّة “موت المؤلّف”، وبل ترحيلها إلى متحف الأفكار والفرضيّات والنّظريّات التي طواها الزّمن. هذه ليست دعوة إلى القهقرى والعودة إلى ما قبل 1968 و”موت المؤلّف”، بل الإشارة إلى موت هذه النظريّة، بحكم التطوّر وثورة الاتصالات، وانعكاس ذلك على مستويات الّتفاعل والتّواصل بين المؤلّف والقارئ، كـ”مؤلّف” شريك ومساهم، في إعادة إنتاج النصّ. هذه التّحوّلات النّوعيّة التي شهدتها حياتنا في العقود الثّلاثة الأخيرة، ربّما تعزّز الوهم لدى البعض بأرجحيّة صواب نظريّة “موت المؤلّف”. لكن، مجمل العمليّات التواصليّة ــ التفاعليّة بين المؤلّف والقارئ، وبينهما النصّ، تشي، وربّما تؤكّد بطلان نظرية “موت المؤلّف”، للأسباب التالية: 

أوّلاً: نسبة مساهمة القارئ في إعادة إنتاج النصّ، بطريق التأويل، مهما علت وارتفعت، لن تزيح المؤلّف أو تزحزح سلطته على نصّه، تلك السلّطة المرنة المتعلّقة بالمعنى الرّحبِ المنفتح على الدّلالات، المستوعب لها، من دون غلوّ وشطط. وبالتّالي، القراءة ونتائجها، في جانبٍ منها، ربّما تكون متممة للنصّ، وفي جانب آخر، ربّما تكون مرممة له، عبر الإشارة إلى الهفوات التّقنية واللغويّة، إلاّ أنّ القراءة لن تنصّب سلطة القارئ على النصّ، عبر إماتة سلطة مؤلّفه. فتلك قراءة مغلوطة، ربّما تدفع بصاحبها نحو الشّطط أو التّحريف أو التجنّي، وإلحاق الأذى بالنصّ، سواء بقصد أو من دونه. 

ثانياً: إذا سلّمنا وآمنّا وأقررنا جدلاً بنظريّة “موت المؤلّف” وأولويّة سلطة القارئ على النصّ، بعد موت سلطة مؤلّفه، فلماذا تتمّ دعوة المؤلّف إلى المعارض، المهرجانات، النّدوات، المقابلات والحوارات…، للحديث حول مؤلّفهِ ــ نصّه؟! وعليه، كلّ تلك المظاهر الاحتفائيّة، التّواصليّة، التّفاعليّة، مع المؤلّف في حضور نصّه ــ كتابه، وفي حضور جمهور قرّائه ونقّاده، ألا تؤكّد تهافت نظرية “موت المؤلّف” وهشاشتها؟ 

ثالثًا: ردود الأفعال الإيجابيّة لقطاعات واسعة من المؤلّفين والمؤلّفات، إذا حظيت نصوصهم ــ كتبهم بالمدائح والإطراء والثّناء والإعجاب…، وردود أفعالهم السلبيّة، إذا ما أشارت القراءات إلى مكامن الضّعف، الخلل، الزّلل، والعيوب والعلل، حتّى لو كانت تلك النّتائج لصالح المؤلّف ونصّه، كذلك ردود أفعالهم الحادّة، إذا ما رأى المؤلّف ظُلماً وتطاولاً على نصّه، ومحاولة تتفيهه؛ عبر الحديث عن الفشل والتّهافت والضّعف، من دون تقديم برهان وسند مُعتبر من النصّ نفسه. مجمل ردود الأفعال المتباينة، تبعاً للحالة، التي يبديها المؤلّف حيال القارئ، (والنّاقد)، تؤكّد العلاقة العاطفيّة الحيّة القويّة الوشيجة بين المؤلّف ونصّه، التي فشلت نظرية “موت المؤلّف” في إزاحتها، وإماتتها. بالعكس من ذلك تماماً، هذه العلاقة الحريصة على النصّ واللّصيقة به، الدّاخلة في كينونة النصّ، تؤكّد موت نظرية “موت المؤلّف”. 

في تقديري، علاقة المؤلّف مع نصّه، بخاصّة في بداية صدورهِ ووصوله على شكل كتاب إلى القرّاء والنّقاد، هي أشبه بعلاقة الأب والأمّ مع طفليهما الذي ما يزال بحاجة إلى رعاية واهتمام ودعم حتّى يصلب عوده (النّص)، عبر الحضور وارتفاع مستوى التّفاعل، واكتساب المزيد من العزم والقوّة، بحيث يقوى على الدّفاع عن نفسه، في معزل عن مؤلّفه، إذا ما تعرّض لظلم وإجحاف متعمّد. ودعم المؤلّف لنصّه ـ كتابهِ، لن يكن إلى ما لا نهاية. لأنّه سيتّجه إلى “إنجاب” نصّ آخر، بحاجة إلى تركيزه واهتمامه.  

نعم، المؤلّف الحقيقي، يجمع في شخصيّته دور الأب والأم؛ في حرصه على نصّه وحمايته من الأذى، سواء الإيجابي منه والسّلبي. من دون السّهو عن أنّ علاقة المؤلّف مع كتابه ــ نصّه، لا تنقطع حتّى بعد الموت الفيزيولوجي للمؤلّف، فكيف يُراد لها أن تنقطع على حياتهِ؟! ربّما يقول أحدهم: علاقة المؤلّف تبقى مع الكتابة، لجهة الملكيّة، بينما النصّ، فيصبح برسم المشاع، و”مُلك يمين” ويسار القارئ، يفعل به ما يشاء! وهذا رأي مبالغٌ فيه. 

الحقُّ أنّ الكتاب، من دون النصّ، لا يعود كتاباً. مقصدي، إصرار بعض النّقاد على نظرية “موت المؤلّف” يشي وكأنّ النّقد؛ كلُّه أو جلُّه، مبني على هذه النظريّة وحسب، ولا توجد نظريات أخرى! هذه النظريّة، في مطلق الأحوال، تبقى اجتهاداً، وليس كلاماً مُنزلاً، منزّهاً ومعصوماً عن الخطأ. 

حاصلُ ظنّي وتقديري؛ أنّ ماهية ووظيفة الكاتب الرّوائي، الشّاعر، القاصّ، وحتّى النّاقد أيضاً، لا تقتصر على طرح رأيه وكلمته في كتابه، ثمّ التزام الصّمت المُطبق، والاكتفاء بمتابعة ردود أفعال القرَّاء، من دون أن يحرّك ساكنًا، عملاً بنظرية “موت المؤلّف”. فإذا كان المؤلّف ليس على حقّ في كلّ شيء، فإنّ نظريّة “موت المؤلّف” لا تمنح القارئ والنّاقد التّفويض والرّخصة الأبديّة لأن يكونا دوماً على حقّ، سواء في مديحهم المفرط والمتهافت للنصّ، أو في “انتقاداتهم” وطعونهم المبتذلة، المفتقدة للأسانيد والحجج المقنعة الموثّقة من النصّ. 

إقرأوا أيضاً: