fbpx

كليوباترا “السمراء” تثير الجدل… كيف يستفز الأفروسنتريك  المصريين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

غلبت على ردود الفعل المصرية على مستوى خطاب الإعلام الرسمي أو عبر التعليقات على السوشيال ميديا، شوفينية عنصرية جريحة لم يرقها وسمها بـ”السمرة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يثر أي من أعمال “نتفليكس” جدلاً في مصر كالذي أثاره وثائقي “الملكة كليوباترا” الذي يظهر الأخيرة سيدة “سمراء البشرة”، في تجلٍّ جديد لما يعرف بـ”حركة الأفروسنتريك” التي تحاول الاستحواذ (appropriate) على الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) ونزعها من سياقها المختلط، لجعلها حضارة أفريقيّة بحتة.

يناقض الوثائقي الثوابت التاريخية حول شخصية كليوباترا، ذات الأصول اليونانية التي انتقلت إلى مصر القديمة لتحكمها، وهو ما اعتبره البعض تزييفاً للتاريخ ورغبةً في نشر صورة مغايرة عن طبيعة الحضارة الفرعونية للتقليل من شأنها،  أي بصورة أخرى، الترويج لفكرة أن ذوي البشرة السمراء هم أصل الحضارات، وكانوا جزءاً منها جميعاً قبل تشتّتهم، وهو ما حصل في أعمال تتناول حضارات أخرى.

يشير وثائقي “نتفليكس” – على لسان أحد المحللين الذين ظهروا في الفيلم – إلى أن “كليوباترا، على عكس الشائع، كانت ذات بشرة سمراء”. لم يستسلم المغرّدون المصريون، الذين تشغلهم حركة الأفارقة الأميركيين “الأفروسنتريك” التي تتبنّى توجهاً مفاده أن الحضارة المصرية سمراء البشرة، وهو ما أدى إلى إلغاء عدد من الحفلات والمهرجانات التي كان مقرراً أن تقام في معابد ومناطق فرعونية، بعدما تبيّن أنها لأشخاص يروّجون لتلك الأفكار.

المصري الجديد حفيد المصري القديم؟

يعود الخلاف حول الحضارة المصرية، وإلى من تؤول، (هل تعود إلى المصريين القدماء أم إلى حضارات وشعوب أخرى؟)، إلى عشرات سنين مضت، لفصل المصري الحديث عن المصري القديم، وجعل مصر الفرعونية وعلومها وتراثها المرجع الأساسي للثقافة الغربية، بعد تفاعلها مع الحضارة اليونانية، لكن تلك الحملة أخذت اتجاهات أخرى بعدما تحررت الدول الأفريقية من المستعمرين لتجد تاريخها وتراثها منهوبين ويعرضان في المتاحف الأوروبية، وكأنّ الدول الأفريقية (غرب أفريقيا ووسطها تحديداً) بلا تاريخ ولا آثار.

منذ ذلك اليوم، نشأت رغبة أفريقية عميقة في العثور على أصل لتاريخ حضارة تنضوي تحت رايتها أو تمثل أساساً لها، وتصدّى باحثون ومنظّرون ومفكرون لتقديم نظريات وأبحاث حول المركزية الأفريقية للحضارة المصرية القديمة، وكانت تلك بداية لما يُسمّى بـ”المركزية الأفريقية” أو “الأفروسنتريزم“.

لاقت تلك الفكرة رواجاً لدى الأفارقة الأميركيين، الذين حال تاريخ من الاضطهاد والعبودية التي تعرضوا لها، دون ترسيخ تراث فكري أو تاريخي، أسوة بالأميركيين القادمين من أوروبا، الذين حملوا ما يرونه تراثاً عميقا يعرف بـ”المركزية الأوروبية“. إذاً، جاءت المركزية الأفريقية وانتعشت رداً على المركزية الأوروبية وسط جماعات بشرية تبحث عن سياق تاريخي يستعيد هوية تعرضت للاضطهاد بعدما نهبها المستعمرون على مدار سنوات الاحتلال.

تتضح تجليات هذه المقاربة في تاريخ أميركا مع ظهور ما يسمى “رأس المال الأسود”، أي صعود الأفارقة – الأميركيين في الولايات المتحدة وامتلاكهم المال الكافي لإنتاج “ثقافتهم”، لا بوصفهم أفارقة- أميركيين فقط، بل أفارقة  أيضاً، يبحثون عن أصل يحاولون رسم صورة له، وهذا ما اتضح مثلاً في فيلم الأبطال الخارقين “الفهد الأسود-Black Panther”، إذ تم رسم مُتخيل شديد البهرجة لبلد أفريقي بعيد من الأعين، لم “يلوّثه” العالم، هذا البلد نتاج مخيلة أميركيّة صرفة، لا يعكس بالضرورة سكان أفريقيا و مشاكلهم إلا بالأزياء والموسيقى والرقص. 

امتد شأن هذا المتخيل إلى فيلم  “الأسود ملكاً -Black is king” إنتاج مغنية البوب بيونسيه، التي أيضاً قدمت متخيلها الخاص عن “أفريقيا”، الذي اتُّهم بأنه تبنٍّ للصور النمطيّة عن أفريقيا ولا يمس متخيل قاطنيها عن أنفسهم.

المصريون خارج المعادلة

طوال تلك الفترة، وفي خضم ذلك الصراع الجامح، لم يكن المصريون طرفاً. كانت الدراسات في الجامعات الأميركية والأوروبية تدور حول التاريخ الجيني للفراعنة لكتابة التاريخ المصري من المنظور الإفريقي، بينما لم تتقدم مصر “بحثياً وأكاديمياً” خطوة في اتجاه ربط المصري الحديث بالمصري القديم، من خلال عاداته وتقاليده وجيناته وموروثه الثقافي، لعدم إدراكها ذلك التحدّي. كما تراجعت السردية المصرية عن مصر وتاريخها وجذورها لحساب سرديات أخرى كانت دول أخرى تنشرها وتعتني بها، منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن، لتصبح “كليوباترا السمراء” تتويجاً لجهود طويلة.

كليوباترا “السمراء” ليست إلا امتداداً لافتتان هوليوود بالحضارة الفرعونيّة، سلسلة أفلام المومياء مثلاً أكبر دليل على ذلك، هذه الصورة التي بدأت تتغير حديثاً مع مسلسل “فارس القمر” إخراج محمد دياب، أي بصورة أخرى، الانفتاح الهوياتي، أتاح نوعاً من التمثيل المنصف، لكن في سياق الأبطال الخارقين، أي بصورة أخرى،  ضمن حكايات متخيّلة كليّاً تراهن على الافتتان لا الحدث التاريخي.

وهم كليوباترا “البيضاء” وعنصرية درجات اللون

لم يكن شائعاً بين عموم المصريين الاهتمام بذلك الإرث أو النظريات العلمية وراءه، فكلّ ما يعرفونه عن أنفسهم أنهم أحفاد ملوك، حتى إن تدهورت بهم الحال، فلا يزالون يتباهون ببريق الأجداد، وفي أذهانهم أنّ “البشرة السمراء هي لون العبيد”. تتلاقى هذه التصوّرات مع التعليقات العنصرية التي طاردت أديل جيمس، التي أدت دور كليوباترا، على “تويتر”، مثل “كليوباترا لم تكن من العبيد”.

غلبت على ردود الفعل المصرية على مستوى خطاب الإعلام الرسمي أو عبر التعليقات على السوشيال ميديا، شوفينية عنصرية جريحة لم يرقها وسمها بـ”السمرة”.

بحسب هؤلاء، الغضب لم يكن لتزييف التاريخ، بقدر ما كان بسبب “الحطّ” من قيمة المصريين إلى حد إظهارهم وإظهار ملكتهم امرأة سمراء، فربما لو كانت ناصعة البياض، وجميلة جمالاً أوروبياً أو لاتينياً لا يشبه المصريين، لما غضبوا.

راكمت هذه  العنصرية طباعاً متعالية على مدار سنوات، كما أنّ محدودية الوعي بالتاريخ الفرعوني منع شريحة واسعة من المصريين من أن يعرفوا أنّ كثيراً من الفراعنة كانوا من أصحاب البشرة السمراء، حتى إن دراسات أشارت إلى أن 8 في المئة من جينوم المصريين الحاليين والسابقين يتشاركونه مع شعوب وسط أفريقيا، لكن دراسة الحمض النووي للمومياوات الفرعونية القديمة، كشفت أن المصريين كانوا أكثر قرباً إلى شعوب الشرق الأدنى من الشعوب في جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، وتحديداً منطقة الشام.

تلك الدراسات وما يحيط بها من تساؤلات، لا تنفي أنّ أعداداً غفيرة من المصريين كانت سمراء البشرة، لكنها لم تتمتّع بالملامح الأفريقية كالأنف الأقنى والشفاه الغليظة والعيون البارزة.

انفجرت الأزمة بسبب شعور عام بين مصريين بأنهم عرقٌ أعلى، بفضل بشرتهم الفاتحة، وهذا سر الكراهية المكتومة – دوماً – بين حاملي شعار مصر “دولةً وشعباً” وأفريقيا، السر الذي جرّ وراءه أزمات لا تُحلّ كسد النهضة. 

كانت القاهرة متعالية سياسياً على الدول الأفريقية، حتى أنّ الرئيس الأسبق، حسني مبارك، عاقب إثيوبيا بعدم زيارتها منذ واقعة محاولة اغتياله في التسعينات. واختمر الغضب الأفريقي، خلال لحظات ضعف تلك الدول، حتى صار بعضها أقوى بمرور الوقت، تحوّل الغضب من مصر إلى عقيدة. وكما يتعرّض الأفارقة للعنصرية على أساس اللون في مصر، يلاقي المصريون العنصرية ذاتها حين يزورون عواصم أفريقية.

تدهوُر قوة مصر “ثقافياً وفنياً” خلال السنوات الأخيرة، أدّى إلى تعالي نغمة “المركزية الأفريقية” لعدم وجود سردية مصرية تمجّد تاريخها وتراثها وجذورها، حتى إن بعض مفكري “الأفروسنتريك” وباحثيها كانوا يحصلون على تراخيص للتنقيب عن الآثار في مصر.

ويغيب عن المصريين الفارق الكبير بين الفراعنة “الملوك” والمصريين القدماء، فمن بين من حكموا مصر الأسرة 25 وهي سمراء البشرة، التي تُعرف باسم “الأسرة النوبية“، وكانت من شمال السودان، أي أنها أسرة أفريقية حكمت مصر الفرعونية، ودمجت بين العادات المصرية القديمة وعادات مملكة كوش التي نشأوا فيها. وخلال حكم تلك الأسرة الذي امتد 59 عاماً، ذابت الفروق بين المصريين والكوشيين، واختلطت أنسابهم وحضاراتهم إلى حدٍّ كبير. وتلك الفترة من تاريخ مصر، تعتبر من الأسس التي يعتمد عليها أنصار الأفروسنتريك للترويج لأحقيتهم التاريخية في الحضارة الفرعونية. ولم يكن المصريون يوماً شعباً “أبيض” إنما تتراوح بشرته ما بين القمحية والسمراء، لكن الرغبة في اكتساب ميزة شكلية هي ما تجعل كثيرين بينهم يندفعون إلى التبرؤ من كونهم من ذوي البشرة السمراء. 

الأصل التاريخي لـ”الأفروسنتريك”

ضعف التدوين التاريخيّ للشعب الأفريقي، وهيمنة الدراسات الاستعماريّة لفترة طويلة، تركا الأفارقة والأفارقة الأميركيين من دون تاريخ موثق ومدوّن، ومع صعود الأفارقة الأميركيين، بدأت محاولات “امتلاك ” التاريخ، وهنا المفارقة، إذ ترك النزوع الشعبي المصري إلى نفيِ أي صلة بالحضارات الأفريقية القديمة، المصريين فريسة لدُعاة “الأفروسنتريك”، الذين يتهمون المصريين الحاليين بأنهم شعب محتل، سطا على أرض أفريقية، مع دعوات للعودة إلى موطنهم الحقيقي. وهي مبادئ المركزية الأفريقية التي دعا إليها السياسي والمؤرخ السنغالي أنتا ديوب. 

يرى ديوب مثلاً، أنّ الجزائريين والتونسيين شعوب دخيلة احتلت ذلك الجزء من القارة من أصحاب البشرة السمراء، ويستند إلى أنّ المصريين وباقي الشعوب العربية – الإفريقية، ينتمون إلى القومية العربية، وبالتالي فمكانهم الأصلي هو شبه الجزيرة العربية.

بعيداً من التعالي والعنصرية، يخشى مصريون أن تنتقل تلك الأفكار، التي دخلت طور النشر والرواج، من حيز النظريات إلى مطالبة لوبيات أفريقية باسترداد حقها التاريخي في تلك الأرض وذلك الإرث التاريخي، بخاصة أنّ الفكرة تلقى رواجاً وتمويلاً في الولايات المتحدة الأميركية، ومن علامات ذلك الرواج وثائقي “كليوباترا”، لكن هل كانت تلك الملكة سمراء حقاً كما يصوّرها عمل “نتفليكس”؟

تشير بعض المراجع إلى أن كليوباترا السابعة كانت ذات شعر أحمر ناعم، وبغم أنها ترجع إلى أصول بطلمية مقدونية، إلا أن أمها كانت ذات أصول مصرية من مدينة “منف” المصرية القديمة، كما يؤكد الباحث في الجينات وأصول الشعوب، محمد عبد الهادي.

وُلدت كليوباترا في الإسكندرية على ساحل البحر المتوسط لبطليموس الثاني (الذي تظهره التماثيل قوقازياً ناصع البياض)، وشيّدت معابد للآلهة اليونانية، كما شيّدت معابد للآلهة المصرية، وتعلمت اللغة المصرية القديمة، أي أن إظهارها سمراء البشرة وذات شعر أجعد، لا يندرج تحت بند حرية الفن والإبداع، بخاصة أن الفيلم وثائقي، أي أنه يلتزم بروايات وسرديات تاريخية موثّقة، ويجب أن يأتي بجميع الآراء والأطراف التي تستند إلى حقائق ووثائق، وألا يكتفي برواية طرف واحد، وهو الخطأ التاريخي الذي وقعت به “نتفليكس”.

جناية “نتفليكس”… تزييف التاريخ ليس الاتهام الوحيد

بخلاف عنصرية مصرية تقليدية برزت في الردود، هناك إشكالية أخرى تساهم في الهجوم على وثائقي “الملكة كليوباترا”، وهي أنه من إنتاج “نتفليكس”، التي تتهمها شرائح مختلفة في مصر وسواها بالترويج لأفكار دخيلة وغير مقبولة، على رأسها تفكيك العقلية المحافظة والدعوة إلى المثلية والحقوق الجنسية والتمرّد على الدين. حتى إن البعض يذهب إلى اعتبار المنصة ذراعاً مخابراتية أميركية، مهمتها إفساد الأخلاق في الشرق الأوسط لتحقيق مخططات أميركية.

وهي معركة مُغرية وجذابة في مصر في الوقت الراهن، لتفريغ مخزون الغضب من الأوضاع السياسية والاقتصادية، ولكن هذه المرة دفاعاً عن التاريخ المصري “الفرعوني” الذي يتعرّض للسطو، بحسب وجهة النظر السائدة.

يرى خبير الآثار، عبد الرحيم ريحان، أن الفيلم يحمل إساءة للحضارة المصرية، بحسبه فإن وثائقي “كليوباترا” يروج لفكر “الأفروسنتريك” بحد ذاته، عبر إظهار الملكة سمراء البشرة، ويؤكد أن “ذلك الأمر لو كان حقيقياً من الناحية التاريخية فهو مقبول، لكنه تزييف للتاريخ له غرض، أبعد من كونه تزييفاً للون بشرة كليوباترا”.