fbpx

الذكورة الرمضانية… في البحث عن نقاط ارتكاز جديدة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خلال العقد الأخير، بدا أن الحضور النسائي في البطولات الدرامية يعكس اهتماماً متزايداً من جهات رسمية وإنتاجية مصرية بملف أوضاع النساء. ويرجع هذا الاهتمام جزئياً للشعور بالتهديد الذي مثله صعود الإخوان المسلمين للحكم وبروز الحركات السلفية ضمن المشهد العام منذ 2011.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

رتبت التطورات في مجالات الإعلام والشبكات الفضائية ثم منصات المشاهدة الرقمية للمسلسلات الدرامية أدواراً أكبر من مجادلة واقعها المحلي وتقديم الأنماط الاجتماعية لجمهور بلد بعينه. تحول القالب تدريجياً إلى سلعة ثقافية قابلة للتصدير، تعطي صورة عن البلد إلى الخارج، وتعيد إنتاج الثقافة المحلية وصراعاتها بأساليب تجعلها أكثر جاذبية وإثارة لمشاهد عالمي.

 تسعى المسلسلات إلى تصدير البلد نفسه وفق معيارية عولمية تستعمل السمات الثقافية الخاصة ولكنها تعيد اختراعها في عالم عابر للقوميات. وكأنها تصنع من الذات طرفاً آخر، أكثر قابلية للتداول والاستهلاك خارج الحدود، ولكنه يحمل علامة ثقافية “أصلية” تبرر جاذبيته الهوياتية لعين المشاهد.

التركيّ والصيني والكوري… ثم المصريّ: عولمة المحليّ

ينطبق ما سبق على ما قدمته الدراما التركية من إعادة اختراع لهوية عائلية “حرملكية” تدور في كواليسها قصص غرامية ملتهبة، تحفل بحوادث إجرامية بين تكتلات عصابية، ومؤامرات هوانم وبكوات، وخيانات زوجية، وتفجع عاطفي متأجج بين بطل يحمل سمات رجولة مضحية وجسورة وبطلة أقرب إلى “سنو وايت” أو سندريلا.

كذلك تحوّلت المسلسلات الصينية في عصر ما بعد ماوتسي تونغ إلى استعادة وظائف الذكورة النشطة استعداداً للطور الرأسمالي الذي تتأهب له البلاد. استدعى التغيير الاستراتيجي أن تقدم الصين نفسها للعالم بعيداً من صورة الوحش الاستبدادي الذي يسلب الرجال ذكورتهم في المعتقلات ومعسكرات العمل والسُخرة. 

منذ تسعينات القرن العشرين، صعدت موجة أغاني “البوب” والمسلسلات الصينية التي تقدم أنماطاً رجالية أكثر خشونة، تتماهى مع رموز حضارة صينية تليدة، وتقدم بثقة على غواية النساء خصوصا من الجنسيات الأجنبية. وأصبح هذا المنحى الرغبوي لصورة الذكر، بمنزلة إزاحة للتطلعات الاقتصادية الصينية للمجال الجنسي.. فانتازيا صينية عابرة للقومية.

ما يلقي بظلاله ويمتد تأثيره الثقافي بقوة في عقدنا الحالي سيكون دون شك المسلسلات الكورية الجنوبية، التي احتلت صدارة ترندات المشاهدة العالمية، بالتوازي مع الصعود الثقافي الكوري في مجالات الموسيقى والموضة والطعام ومستحضرات التجميل والسينما.

 تشتبك المسلسلات الكورية المعاصرة مع التعقيدات المحلية لبلد يعاني برغم صعوده الاقتصادي المذهل من أزمات اجتماعية هائلة، مرجعها ثقافة أبوية وتقليدية متخلفة، تعززها هياكل رسمية وسياسية، وتتبناها جهات الإعلام والقضاء والبوليس. وهو ما يجعل الحالة الكورية الثقافية، المتطلعة إلى مقاربة عولمية لهويتها، وصناعة الآخر الكوري الجذاب، مضطرة للتفاوض مع التقليد عندما تصدّر منتجها الثقافي ومسلسلاتها. ويجعلها كذلك مثال مقارب لحالة الإنتاج الدرامي العربي مع دخوله لسباق المنافسة الرقمية مؤخرا.

يقبع مفهوم العار في قلب الثقافة الكورية مقابل مفهوم الذنب في الثقافات الدينية الإبراهيمية. والاختلاف بين المفهومين يكمن في فرصة التوبة والصفح والغفران المكفولة للمذنب في حالة ارتكاب الخطأ، والتي تكاد تختفي في حالة العار الذي يبقى شعوراً شخصياً، يسقطه المجتمع ولكنه لا يفتح باباً مؤسسياً أو دينياً لغفرانه  أو تصريفه، ليظل يتلبس صاحبه وصاحبته كالنار التي تنشب بثيابهم حتى تدفعهم للجنون أو الاكتئاب أو الانتحار.

تأتي كوريا الجنوبية على رأس دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD من حيث معدلات الانتحار؛ والتي تطاول البالغين والشباب والشابات ومشاهير عالم الفن والإعلام بصفة منتظمة. يلعب الشعور بالعار، بسبب فقدان وظيفة أو العجز الاقتصادي أو التعرض لفضيحة أو احتمالية الحبس بعد اكتشاف جريمة، دوراً رئيسياً في رفع معدلات الانتحار.

أصبح مفهوم الفضيحة المتجذر اجتماعياً، والذي يهدد الشابات والنساء بصفة خاصة، أداة داخل عالم الجريمة الإلكترونية وشبكات التلصص. اكتسبت هذه الانتهاكات مساحة هائلة في كوريا الجنوبية، حيث استحوذت التكنولوجيا بسرعة على الحياة اليومية، وأصبحت حوادث التصوير غير القانوني ومشاركة الصور الجنسية الصريحة أو تزويرها منتشرة بشكل متزايد، ما جعلها من أعلى البلاد عالمياً من حيث معدلات العنف الجنسي، تقتل بها امرأة كل 1.8 يوما بحسب دراسة ظهرت في 2015. كما تتسامح أجهزتها البوليسية والقضائية إلى حد كبير مع الاعتداءات الجنسية، وتكتفي بتحذيرات واهية، وتعتمد لوم ضحية الانتهاك والاغتصاب والشهود عليه بديلا عن توقيع عقوبات رادعة على المجرمين.

في هذا السياق الذي نلمح تشابهاته مع حوادث قتل النساء وجرائم العنف الجنسي في مصر وغيرها من المجتمعات العربية، وعجز الأجهزة الأمنية والتشريعية عن محاصرته في شكله الإلكتروني والمادي، اتجهت الأغنية والدراما الكورية الشابة، على عكس سابقتها الصينية، للتركيز على أنماط رجالية أكثر نعومة ورومانسية، وأكثر وهناً وحساسية، بالرغم من عملها ضمن عصابات منظمة أو في فرق الأجهزة الأمنية أحياناً. تستدعيهم الدراما إلى جانب البطلات في ثيمات مأساوية يتوه فيها طفل عن عائلته ويمضي حياته في البحث عن أصوله، أو تفقد أم حياتها في حادث أليم ثم تعود في صورة شبح لتبقى بجوار ابنتها، أو يصاب البطل بسرطان ينذر بنهاية حياته.

في هذه المسلسلات التي شقت طريقها للانتشار العالمي الواسع، يظهر الرجل/ الشاب المنتحب الباكي، رقيق المشاعر الذي يفتقد للعائلة ويحيط الأخت والأبناء بالرعاية، ويخوض علاقات الحب بصورة محافظة عذرية، تنتمي لعالم ميلودرامي فوق واقعي من حيث المبالغة التعبيرية وانهمار الدموع، والدفاع عن الحب حتى الرمق الأخير.

هذه الصيغة الكورية اجتمعت عليها أوسع شرائح المستهلكين، ونحتت نوعا درامياً تنافسياً ومكتسحاً، يغازل نزوع المجتمعات المحافظة في تأكيد تناقضاتها مع قيم المسلسلات الغربية، ويشكل خطا دفاعيا عن الثقافات الأبوية، ولكنه يمدها كذلك بروافد معاصرة للعاطفية الفوارة والحنين للأصول والتعبير عن الذاتية مع احترام ملامح صوابيتها الخاصة.

تبدو تلك الصورة التي تفاوض أزمات اجتماعية كبيرة وتسعى لتوسيع مساحات تقبل الخطأ والغفران في مواجهة ثقافة العار الشرسة، نموذج مثالي لحاملي دعوات الاعتراف بالهشاشة الذكورية في مقابل صورة “الذكورة السامة” المتصدرة في مسلسلات الجريمة والعنف الأميركية، حسب قاموس “ثقافة اليقظة الصوابية” woke culture. حتى أن ثيمة بكاء الرجال في المسلسلات الكورية تُمتدح وتحتل نقاشات متعددة على شبكات التواصل الأميركية. 

البكاء هو أحد الملامح التي انتقلت إلى شخصية “جعفر العمدة” اقتباسا أو سعيا لاجتذاب جمهور المسلسلات الكورية المتوسع في مصر والعالم العربي، خصوصاً أن السمات الأدائية العامة داخل العمل، على غرار نظيرتها الكورية، اعتمدت المبالغات التعبيرية والميلودرامية الزاعقة والتبسيط الساذج، والإضعاف المتعمد للمبرر الدرامي وبناء الحدث والحبكة، في مقابل المراهنة على العلامات الهوياتية داخل الحارة الشعبية والتدفقات العاطفية وأثرها اللحظي.   

 تسعى المسلسلات إلى تصدير البلد نفسه وفق معيارية عولمية تستعمل السمات الثقافية الخاصة ولكنها تعيد اختراعها في عالم عابر للقوميات.

  إعادة النظر في “المرأة”                                           

خلال العقد الأخير، بدا أن الحضور النسائي في البطولات الدرامية يعكس اهتماماً متزايداً من جهات رسمية وإنتاجية مصرية بملف أوضاع النساء. ويرجع هذا الاهتمام جزئياً للشعور بالتهديد الذي مثله صعود الإخوان المسلمين للحكم وبروز الحركات السلفية ضمن المشهد العام منذ 2011، والذي دفع بالتخوفات النسائية لتصبح أحد الخطوط الفاصلة التي تعبر عما يمثله حكم الإسلاميين عند مقارنته بالسلطويات العربية التقليدية. نتيجة لذلك احتل الصوت النسائي مقدمة تحركات الرفض والانتفاض في مصر ضد الإخوان المسلمين في 2013.

 تجاوز هذا الحراك التنظيمات النسائية النخبوية إلى نساء الطبقات المتوسطة بتنوعاتهن، ليرتب على السلطة الرسمية الجديدة التزامات تضعهن في الاعتبار؛ سواء في سبيل التسويق لامتيازها النسبي عن أعدائها، أو استيعاباً لضغط تجمعات نسوية علا صوتها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو سعياً للدفع بتكتل اجتماعي كبير لواجهة استراتيجيتها الإصلاحية (كما يظهر في خطابات الرئيس المصري بصفة منتظمة). يضيف هذا التوجه للرصيد الرمزي للسلطة بصفتها ضامن وحيد لمدنية الدولة، وهو الشعار الذي هيمن على خطاب القوى السياسية في ذروة الاستقطاب ما بعد 2011.

على التوازي، كانت السياسات الجديدة للمملكة العربية السعودية من تحول عن اقتصاد النفط دافعا لتقويض الترسانة التشريعية الدينية التي حجبت المرأة السعودية عن المشاركة والحضور العام لعقود طويلة. يتفق هذا الاتجاه مع مسعى البلد لتقديم صورة عولمية عن اقتصاده ومواطنيه وموقعه الثقافي المبتغى، تبتعد بمسافة من صورة البطريركية الإسلامية الجافة ونظرتها للمرأة.

 يمتد أثر هذا التحول إلى خارج المملكة نفسها، إذ ترتب عليه تحول السعودية إلى فاعل مركزي في سوق الإنتاج الفني، يدعم بدوره توجها لإبراز البطولات النسائية وإكسابها ملمحا عصريا من خلال الأعمال الدرامية التي تقدم عبر المنصة العربية الأبرز “شاهد”. 

هذا السباق الدرامي الذي تشارك فيه المنصات الرقمية بنصيب واسع، اعتمد تجديد صورة البطلات عبر قصص تعتمد ثيمات متعددة مثل الجريمة والتشويق والرومانسية الخفيفة ودراما المراهقين والعلاقات العاطفية المعقدة. وهي صورة تتجاوب مع طبيعة المنافسة التي تفرضها منصة عالمية مؤثرة مثل “نتفليكس”، استضافت بالفعل أعمالا عربية ذات بطولة نسائية، كما تحرص على وضع معايير الصوابية السياسية وإدماج الأقليات والهويات المختلفة على رأس خططها الإنتاجية. ويلاحظ أن معظم تلك القصص الدرامية تراعي الخطوط العريضة للخطابات النسوية عن التمكين والقدرة على الإنجاز والمنافسة والتعافي من التجارب المؤلمة، والخروج عن الإطار الجامد للتقاليد الموروثة.

سبقت تلك التطورات سنوات ألح فيها الإنتاج الدرامي المصري على تصدير أعمال ذات طبيعة خشنة أو حربية يتصدرها أبطال مفتولو العضلات، ينخرطون في صراعات عنيفة ضد جرائم جنائية أو إرهابية غالباً لطبيعة عملهم داخل أجهزة رسمية.

 وعلى هامش الخط الرئيسي أصرت تلك الأعمال على تكريس خطابات عن الذكر الراعي، الذي يجمع إلى وعيه الوطني حسب الرسالة الموجهة وعيا بقيم الرجولة “الحقيقية” في مواجهة من يفتقرون إليها. تظهر القيم المشار إليها في مشاهد أبرزت الأبطال في تعاملهم مع الزوجات والأمهات بتقدير مبالغ فيه، تغيب عنه التلقائية أو الصراعية من أي نوع، ومشاهد أخرى يلقنون فيها متحرشي الشوارع دروسا بدنية قاسية، وغيرها من مشاهد العظات والوصايا الدينية والفلكلورية.

 الرتابة الخطابية المعلبة والجفاف العاطفي الذي وسم تلك الخطوط الدرامية، بالإضافة لانسحاب الاهتمام تدريجياً عن الأعمال ذات الرسائل المحسوبة على البروباجندا الرسمية قبل أي شيء، دفع الجهات الإنتاجية المصرية للبحث عن تنوعات أغنى للمعالجات الدرامية، والانفتاح على المنافسة الرقمية عبر تطبيق “ووتش ات” بصيغ أكثر تفاعلاً مع احتياجات الجمهور.

وبرغم أن دموع الرجال المنهمرة في “جعفر العمدة” لا تتسق كثيرا في المخيلة المصرية مع شخصية بطل الحارة الذي يتمتع بهيمنة غير محدودة، وقدرة على البلطجة وتجاوز القانون، وكذلك على الفصل في النزاعات وحيازة الزوجات الأربعة، إلا أنها لم تكن السمة الوحيدة التي يحاول بها صناع المسلسل تلوين تلك الطبعة الهوياتية بسمات معاصرة، تمرر الرسائل الأخلاقية التي حملها سكريبت محمد سامي بحسب تصريحه.

أطياف الحاج متولي

بطل الحارة المصرية، البلطجي الحكيم، عظيم الثروة متعدد الزوجات، تمحورت مأساته حول ضياع ابنه الرضيع ورحلة البحث عنه التي استغرقت نحو عشرين عاما، وهو ما جعل الجانب الوهِن من شخصيته مبررا ومتعادلا مع الجانب العنفي، على النمط الكوري. وعلى عكس ما ركز عليه صناع مسلسل “عائلة الحاج متولي” 2001 من إبراز الحزق والذكاء في شخصية البطل، والذي جعل من رحلة صعوده وجمع ثروته مبرراً لاستحقاقه زينة الحياة الدنيا ونكاح ما طاب من النساء، كانت زوجات جعفر العمدة أسيرات حرملك متقشف وتعيس، محرومات من الحمل والإنجاب داخل معسكر تكفير عن ذنب ضياع “يوسف” غائب، تتشارك فيه العائلة تعاطفا مع مأساة الأب اليعقوبي. 

لا نلمح لدى جعفر نفسه أي علامات على تفوق مرتبط بقصة صعوده الاجتماعي، ولا منافسة مع أعداء أكفاء. نحن أمام سلسلة متواصلة من افتعال الشجارات وإنهائها سريعاً بقرار من المَعَلم الأوحد عبر “خناقة” بدنية صريحة، تغيب عنها الأسلحة البيضاء أو النارية، وفق ما يبدو أنه استجابة لمعايير رقابية تضع حدوداً لمشاهد العنف، بعيداً من تصوير الطبيعة الحقيقية للشجارات المماثلة في واقعنا الحالي.

بين خطوط المأساة لا يحرم عمدة السيدة زينب تلك النساء من أوقات سعيدة غابت عنها بهارات بصرية تعبر عن متعة شهريارية المخيلة، على عكس مسلسلي “عائلة الحاج متولي” أو “الزوجة الرابعة”، اللذان حاولا تمرير مشاهد أكثر تركيزاً على تنافس الزوجات على رضا الزوج ومكائد الضرائر وسعي البطل خلف رغباته. انعكست على مشاهد “جعفر العمدة” مع زوجاته عقلية أكثر محافظة، تعبر عن نفسها في احتضان أبوي ومداعبات تهكمية أقرب لعالم السينما النظيفة، وابتذال الحكم المسجوعة التي يجيد محمد رمضان بحسه الكوميدي السخرية من صرامتها وكسر مهابتها في المشهد نفسه.

لا يرتكز “جعفر العمدة” درامياً على لعبة تعدد الزوجات واللهاث خلف شهوة ذكورية لا محدودة. ولا تبدو السيطرة على حرملك النساء والإفلات من كيدهن شغلاً شاغلاً للبطل، فهي معطى مفروغ منه تمتثل له تلك النساء طوعياً، وينخرطن كجماعة عائلية متماهية في تقدير هول المأساة التي يعانيها جعفر بالأساس، ويكرس وقته ومغامراته لمداواتها. القبيلة بنسائها ورجالها هي أقرب النماذج المستدعاة في رحلة الحاكم الأوحد للبحث عن ابنه الضائع، وعن الامتداد الذكوري الذي يزود عن الأبوية التقليدية في معركتها الراهنة.

جعفر العمدة مشغول بهاجس انقطاع نسله، الذي تمثَّل في ابن وحيد يحرم الأب نفسه من إنجاب بديل له. حتى أن المعادل العائلي المُناقض هو أخ عقيم ومن ثم ضعيف الشخصية فقير الحكمة. وكأن ما يفيض به جعفر من عزم وحكمة وفحولة لا يرجع إلا لتمسكه بأمل الهروب من مصير أخيه سيد، الذي وقع تحت سيطرة زوجته المتلاعبة وداد لأنها استغلت نقطة ضعفه الرئيسية في عدم الإنجاب. في المثلث العائلي بين جعفر وأخيه وابنه يتجلى “قلق الخصاء” الرجالي، والذي يعتمد استرجاع الإبن المفقود حلاً درامياً وحيداً يستعيد به الأب رجولته الكاملة، كما أعادها حورس لأوزوريس، أو يوسف ليعقوب.

الصوابية الجعفرية مفتولة العضلات ولكنها كذلك حريصة على التراضي الجنسي، ترفض إخضاع الزوجة الرابعة بالعنف بعد رفضها الانفراد بالعمدة على سريره. وتفصل تماماً بين معاملة الرجال بالزجر والضرب والتنكيل والمعايرة الجنسية لرجال “منسونة”، وبين معاملة النساء برفق سرعان ما يتبخر عند أول خطأ ترتكبه إحداهن، غالباً عن سذاجة مفرطة. 

هذه التمييزات التي يحددها جعفر تخص تعريف الرجولة حصراً، وتستعير من خطابات النسوية الصاعدة قيماً تبحث عن مقابلها في التعاليم الدينية (الرفق بالقوارير، والعدل بين الزوجات في جدول منتظم، والالتزام بحقوقهن الشرعية في حالة الطلاق). يعيد المسلسل تعيين الحدود بين ما يُحتفى به من قيم أبوية دينية وما تمكن استعارته من القيم الحديثة  من دون إخلال بالتراتبية الحاكمة.

هذه الملامح الدرامية، تجمع مشاهد الضرب والرومانسية والكوميديا، من خلال صيغة تبحث مجدداً في ما يمكن أن يقدمه بطل الحارة المعاصر لصورة الذكر في المجتمعات القلقة من انقطاع نسلها المنسوب للأب والأبوية، على يد نساء غير قادرات على الإنجاب، مثل الزوجة دلال التي دبرت المؤامرة الكاملة لخطف الإبن، ثم إجهاض الزوجة الرابعة عايدة. وكما تمكنت دلال من إحكام جرائمها على مدى عشرين عام، كانت وداد هي النموذج الثاني للمرأة القوية، التي لا يشغلها الإنجاب كطريق للتعريف عن نفسها كأنثى، ولكن يشغلها الطموح، الذي يحيلها مع دلال لنموذجين ينتميان لعالم الشر والخطيئة، والذي تنحدر إليه النساء المنفلتات من رعاية الذكر النموذجي، والتمرد على جنته الفاضلة كما تمردت حواء/ ليليث حسب الأسطورة. 

يفاوض المسلسل واقعه المعاصر كما سعت الدراما التركية والصينية والكورية، وتنضم الدراما العربية إلى صفوف الدفاع عن صورة المجتمعات المحافظة عبر الدراما. إذ تسعى إلى اختراع آخرها الثقافي عبر البحث عن الذكر المعاصر بين قطبي تناقضاتها؛ الحديثة والتقليدية. 

من ناحية الذكر الحديث، أو ذكر التجمع الخامس كما يلقبه جعفر العمدة تهكما، تقدم طبعات مثل رجال مسلسل “الهرشة السابعة” أو فيلم “أصحاب ولا أعز”  الذين يتوافقون مع الدليل الاسترشادي لنتفليكس، ويتقربون للنساء بإظهار القدرة على الإنصات والانفتاح وتحمل المسؤولية عوضاً عن الإنكار، والتعبير عن المشاعر بلغة حميمية، توفر للرجال المأزومين مع نشاط النسوية الصاعدة خطابا بديلا، ومرجعية لذكورة متصالحة مع شروط عصرها.

أما من ناحية الذكر المحافظ والتقليدي، تأتي معالجة جعفر العمدة بكاتالوغ شامل يراعي مخاوف رجال استمرؤوا وضع الهيمنة الكاملة دون انتباه لنذر تفككها. يقدم المسلسل كذلك دليله الاسترشادي عبر البطل القلق والمحارب لاستعادة “قضيبه” الرمزي في مواجهة رموز الشر النسائية، وبالتأكيد على العدل بين النساء المنصاعات، وإغراقهن بالجنس والثروة طالما احتفظن بالتراتبية الأصلية، وتوقير الأم التي اكتملت وظيفتها الأنثوية، وحملت لقب “الملكة” بين النساء المحرومات من الإنجاب.

في الحالتين، تسعى الدراما كما يُذكِّر كلود ليفي شتراوس إلى إيجاد حلول شكلية في الحيز الجمالي، لتناقضات اجتماعية حقيقية يصعب أو يستحيل تجاوزها، كما يدل مشهد التيه الأخلاقي والمرجعي والشقاق العنيف، بين النسوية الصاعدة والأبوية القلقة.