“ليس لدي أي فكر سياسي أبداً، لأني رجل نوتيّ لا أعرف من السياسة أصلاً ولا فرعاً، لا سيما وأنا في أول إدراكي وبلوغي، ولم أهتم إطلاقاً في حياتي كلها إلّا بأمر والدي وخطيبتي”. هكذا قال إدمون أو الكونت، بطل رواية “الكونت دي مونت كريستو” في حديثه إلى “دي فيلفور”، أثناء اتهامه وسجنه ظلماً في يوم خطوبته نفسه.
كان نابليون بونابرت في عام 1815، منفياً في جزيرة “القديسة هيلانة”، بعدما كان يحكم “العالم” تقربياً، أما في فرنسا فكانت عائلة البوربون التي تكره بونابرت، تعيد العرش إلى لويس الثامن عشر، الذي خلعت الثورة عائلته. حينها، كان هناك من يحاول التخطيط لعودة نابليون والانتصار على العائلة المسيطرة من خلالها. في هذا السياق، تُظهر حكاية “الكونت دي مونت كريستو” لألكسندر دوماس، كمجاز عن واقع سياسي وثقافي سيستمر منذ صدور الرواية حتى الآن، إذ تُرجمت عشرات المرات إلى لغات مختلفة واقُتبست ضمن أعمال سينمائية وتلفزيونية متعددة، كان آخرها اقتباس المسلسل المصري “رشيد”.
لا بد من الإشارة إلى أن “الشركة المتحدة”التابعة تماماً للدولة، تتحكم بالإنتاج المصري الدرامي في الفترة الأخيرة، وبشكل شبه كامل، وهي التي تحدّد ما يمكن قوله وما يجب منعه. إلا أن هناك أعمالاً قليلة خرجت من رحمة تلك السيطرة، منها مسلسل “رشيد” الذي تمكّن المنتج عبد الله أبو الفتوح عبره من إعادة إنتاج رائعة ألكسندر دوماس، في محاولة لا يمكن القول إنها الأولى التي يقتبس فيه عمل مصري رواية عالميّة، محاولة يمكن تفسيرها كمغامرة لقراءة “السياسيّ” في ظل الهيمنة على الإنتاج الثقافي الذي تشهده مصر.
براءة معطّلة للفهم
يقتبس رشيد قصته من الرواية العالمية ليحكي من خلالها قصة تتحرك بين البراءة والانتقام، ففيما الوقت يستعد رشيد البطل (محمد ممدوح) للزواج مرة أخرى بعد وفاة زوجته الأولى، من الفتاة الوحيدة أسماء (ريهام عبد الغفور)، يجد نفسه مسجوناً بسبب جريمة لم يرتكبها، فيسعى جاهداً إلى إثبات براءته والعثور على ابنه، والانتقام من كل من ألحق به من الأذى غير المبرر، وربما في ذلك ما يمكن الوقوف أمامه، لطرح سؤال: من يتحمل مسؤولية براءته تلك في زمن قاس كالذي نختبره؟.
تقدّم القصة التي كانت ثقيلة الوطأة على مخرجة تقوم بعملها الأول (مي ممدوح)، في هيكل كامل من البراءة التي يعيشها البطل، الطيب، غير المغامر، المحب، الذي تُسقطه براءته في طريق وعرة من الخيانات التي تسجنه بسبب تساهله مع أصدقائه، والحب غير المشروط الذي أهدره على فتاة لا يعرف أي شيء عن ماضيها.
يبدأ المسلسل فعليّاً بعد مرور نصفه الأول، مباشرة بعد التأكد من تمضية رشيد عصارة حياته في السجن المؤبد، بعد اتهامه بقتل الرجل الثري الذي يدير أعماله. يقسّم رشيد سيرته بين عالمين، أحدهما بريء أكثر مما يبدو، والآخر أكثر غموضاً وظلامية وواقعية. يتحول المسلسل بعدها إلى دراما بوليسية انتقامية يسعى بطلها الى البحث عمن تسبب في تحوّل حياته السابقة بعد هروبه من السجن. يجلس رشيد داخل السجن وخارجه تائهاً في أسباب ومصائر حرفت مسار حياته بهذا الشكل الغريب من دون ذنب أو خطأ شخصي منه، ربما تماماً كشاب خسر كل حياته في الثورة من دون أن يدري أي خطأ اقترف.
الغيرة ذاتها التي يستشعرها صديق رشيد تشابه التي كان يستشعرها صديق الكونت عندما أحب خطيبته، التي كانت ولا تزال صالحة للتعبير عن الخطف السياسي الذي قامت به عائلة البوربون لاستبعاد نابليون، وربما هو ذاته الذي يصلح في انسلاخ الواقع السياسي الذي يعيشه جيل شاب كامل في البلاد العربية مستبعد من دون سياق سوى الغيرة والأحقاد والاستحقاق غير المبرر الذي استشعره الأخصام أو الأصدقاء الموهومون.
يظل سؤال البراءة تابعاً لكل تحركات رشيد الذي يمثّل كل براءات الشباب العربي، حدّ اللحظة التي يبدأ فيها بقتل براءته، أو تحديداً لحظة الشك في كل إنسان يعرفه، مهما كانت درجة قربه، حينها يصبح الحل أكثر اقتراباً، والشك الأبدي الحل الأمثل للنجاة وحل اللغز، ربما كان هذا الحل أكثر جذرية لو أدركه الشباب العربي، وشكك في القيادات التي أظهرت تعاطفها الخبيث معه.
إقرأوا أيضاً:
الانتقام كمجاز للغضب المكبوت
مجموعةٌ متتالية من الانتقامات أنتجت دراما المسلسل الذي حركته الغيرة من البداية، رواية صريحة عن الانتقام الأكثر وضوحاً وتماسكاً وعمقاً درامياً، مثّله الكونت دي مونت كريستو في “رشيد”، ولا يمكن الحديث عنه منفرداً، قبل إيصال الصورة كاملة ضمن الموسم الرمضاني الذي كان جزءاً منه.
هناك عالم درامي علينا أن نمر عليه سريعاً لندرك محورية فكرة الانتقام غير المباشرة في الأعمال الأخرى، التي تحرك دراما هذا الموسم، وما يمكن أن يعنيه ذلك سياسياً. فالأعمال التي وُصفت باعتبارها نسائية (تحت الوصايا/ وعود سخية/ ستهم/ عملة نادرة) وما يقابلها من ذكورية (جعفر العمدة/ بابا المجال/ الأجهر/ ضرب نار) أو حتى ما تم إنتاجه بالقوة مثل “رسالة الإمام”، وقعت تحت تصنيفات جندرية وإنتاجيّة رسّخت ضبابية الرؤيا، وعطلت مفهوم الانتقام من سلطة لم يحصل عليها الجميع.
هذه المسلسلات جميعها تحتكم، بلا استثناء واحد، للانتقام، بكل صوره، فما من مسلسل ذُكر لا يحمل في رحلته سعياً كاملاً الى الانتقام، كمؤسس ومحرك للتحليل البنيوي وما بعد البنيوي حتى، صناعة حكاية ما، أياً كان سياقها، فيها رحلة انتقام، أبعد من الجندر والطبقة، وهنا يمكن الافتراض أن مفتاح الحوار حول كل تلك الأعمال يبدأ من فهم السُلطة أكثر من أي شيء آخر.
هناك رحلة بنيوية كاملة تمثلها أعمال هذا الموسم وكواليسه المرعبة، التي لا يمكن حكاية بعضها خوفاً، هي قصص تدّعي مراعاة ثقافة الجمهور، وأنه بإمكاننا أن ننطلق من خلالها لقراءة ما يحدث في مصر، لكنها قراءة متحكّم بها، كونها تقدم متخيّلاً سياسياً ثقافياً تضبطه السلطة في حضورها المباشر (الكتيبة 101) أو الغائب (تحت الوصاية) ضمن العمل المتخيل، الذي تهرب فيه بعض الحكايات، وتحاول خلق حالات بديلة للحياة الراكدة المهزومة عن طريق الانتقام المجازي المبطن في قصص مختلفة.
“الانتقام” في مسلسل “رشيد” واضح، جيدٌ في المحاولة، متواضع في التنفيذ، إذ ليس بإمكانه أن يبني عالماً درامياً ظلامياً لتشابكات وصراعات الحياة المستقرة، التي أصبحت أكثر ارتباكاً من كل شي حولها، لكننا على الأقل أمام حكاية تعبّر عن الظلم والسرقة والنفوذ، والسلطة التي لا يمكن الحصول عليها من دون تلاعب، وهنا السؤال: هل يتحمّل المجرم هذا الظلم، أم الدولة التي تسهل الانتقام بالخوف والمصالح ووهم الاستقرار؟ طُرح هذا التساؤل بوضوح، والخوف من الإجابة عنه قد يعني استبعاد عرض المسلسل.
“رشيد” في النهاية، محاولة لتحريك المياه الراكدة للتساؤل حول جدوى إنتاج أعمال قد يدرك المشاهد من خلالها ظلامية الحياة التي يعيشها في اللحظة التاريخية الحالية، وما يمكن للبراءة الحياتية/ الثورية أن تورّط صاحبها. انتقام كبديل لسذاجة سنوات من البراءة القبيحة، يمكن لعمل مثل “رشيد” أن يجعل المشاهد على أمل بالتغيير مرة أخرى بعد التخلص من البراءة غير المرغوبة، البراءة كإدانة سياسية وواقعية.
قبل أن تنتهي الرواية الأصلية بقليل، يوجّه البطل حديثه إلى موريل للدرس السياسي الحياتي الأكبر: ليست في الدنيا سعادة مطلقة أو شقاء مطلق، وإنما هناك مقاربة بين حالة وأخرى، ومن ذاق الألم والعذاب كان أقدر الناس على أن يحسّ بالسعادة القصوى، وينبغي أن نعرف الموت كي نقدر على الحياة… وإياك أن تنسى أن حكمة البشرية جمعاء تتلخص في كلمتين: انتظر وتذرّع بالأمل.
إقرأوا أيضاً: