fbpx

بعد معاقبة القزدغلي بسبب ندوة عن اليهود… عودة جدل “التطبيع” في تونس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تبدو العلاقة بين تونس وإسرائيل ضبابية ولا تخلو من المواربة وعدم الوضوح، فعلى رغم التعاون الاقتصادي والرسمي بين البلدين، إلا أن مشاركة القزدغلي تصنَّف لدى البعض في إطار التطبيع وتستوجب تعريضه للمساءلة والمحاسبة والرجم!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما إن تمّ الكشف عن دعوة إلى ندوة علميّة في فرنسا حول تاريخ اليهود في تونس، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بمشاركة باحثين من تونس وجامعيين إسرائيليين، حتى عاد الجدل والنقاش ليطفوا على السطح مجدداً حول مسألة التطبيع الثقافي والأكاديمي، وبدأت حملة ضدّ المشاركين، وصلت إلى حدّ سحب جامعة منوبة صفة أستاذ مميّز من العميد السابق لكلية منوبة للآداب في تونس الحبيب القزدغلي، أحد الأساتذة الذين كان يفترض أن يشاركوا في الندوة.  

اعتبرت جامعة منوبة أن القزدغلي أقحمها في سجال التطبيع، وأشارت في بيان لها، الى أن هناك “سعياً ماكراً إلى التّطبيع” وراء تسجيل باحثين تونسيين بصفة الانتساب إليها بالملتقى العالمي لجمعيّة تاريخ اليهود بالبلاد التّونسيّة، الذي ينعقد بباريس، ووردت في برنامجه أسماء باحثين من ثلاث جامعات إسرائيليّة. فيما شارك القزدغلي بصفته الشخصيّة والبحثية، لا كممثلٍّ عن الجامعة، إلا أن ذلك لم يمنعها من سحب الصفة التي نالها منذ سنوات، والتي تحصّل عليها بسبب رصيده الأكاديمي، لا بسبب مواقفه السياسية أو قراراته، فرتبة أستاذ متميز ليست رتبة تشريفية مثل الدكتوراه الفخرية، التي تُمنح وفق اعتبارات سياسية غالباً، بل هي رتبة أكاديمية لا تُمنح إلا وفق مقاييس أكاديمية بحتة. 

بغض النظر عن وجاهة القرار من عدمه، إلا أنه يفتح الباب أمام سحب صفات علمية من الأساتذة بسبب خيارات سياسية أو إيديولوجية، ما يؤدي إلى الرقابة وإخضاع البحث العلمي لمعايير سياسية لا أكاديمية. 

يقول القزدغلي، المؤرخ والعميد السابق لكليّة منوبة، لـ”درج”، إن ما حدث لا علاقة له بالتطبيع، بل بالحرية الفردية والأكاديمية، فالقانون التونسي لا يمنع الباحث من التطرّق الى أي موضوع أو المشاركة في ندوات بحثية او أعمال علمية مع أي جنسية من الجنسيات. ويضيف: “الحرية ليست مجرد شعار بل هي التزام أيضاً، ولا يوجد قانون يمنع المواطنين من السفر إلى دولة ما في إطار عمل، أو حضور مؤتمر دولي، وقد تم اختياري بناءً على ورقة بحثية قدّمتها واشتغلت عليها بمنهجية علمية، وليس بسبب شخصي”.

ويلفت القزدغلي إلى أنّ هذه الندوة أقيمت بمبادرة من جمعية “تاريخ اليهود في تونس”، وهي جمعية علمية فرنسية أسّسها في باريس عدد من اليهود التونسيين قبل 25 عاماً (1997)، وسبق لها أن نظمت خلال العقود الماضية عدداً من الملتقيات الدولية في جامعة السوربون وغيرها من الأماكن، حول تاريخ التونسيين اليهود، وما نتج منها من أوراق منشور وموجود في المكتبات.

يتابع القزدغلي: “لا أفهم لماذا سبّب السفر  إلى باريس هذا الجدل كله، بخاصة أنني أحضر هذه الندوة منذ عام 1999،  والأمر لا يتعلق بوجود حملة ضد شخصي. أنا جزء من فكرة يحملها مؤرخون  وباحثون كثر في تونس لا يعتبرون أن للمعرفة حدوداً، المسألة لا تتعلق بالتعاون بين مؤسسة تونسية وأخرى إسرائيلية، وهذا شأن أرفضه شخصياً، بل تتعلق بحضور باحثين من جنسيات مختلفة في باريس، والحاضرون من جامعات إسرائيلية هم أشخاص يمثّلون أنفسهم، ولا يمثلون مؤسساتهم الجامعية أو بلدانهم”.

بعد الإعلان عن الندوة، تم تنظيم وقفة احتجاجية أمام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس، تنددّ بالمشاركة. وتقول سمر التليلي، وهي ناشطة نسوية ومدافعة عن القضية الفلسطينية، إن لا معنى للتبريرات التي تشير الى أنّ التعاون الأكاديمي أو المنافسة الرياضية ليست تطبيعاً، وتضيف: “لست أنا أو غيري من يحدّد التطبيع، ولكن حملة مقاطعة إسرائيل، وهي شبكة دولية وضعت حدوداً لبلورة مفهوم التطبيع، وعلى هذا الأساس تمّ التعاطي مع مشاركة القزدغلي في هذه الندوة. بالإضافة إلى ذلك، نحن لا نقوم بالتعميم والتعاطي مع جميع الإسرائيليين ككتلة واحدة، على النقيض من ذلك، نحن نجد الكثير من الإسرائيليين ممن يقاومون النظام القائم ويغادرون الأراضي المحتلّة احتجاجاً”. 

بغض النظر عن وجاهة القرار من عدمه، إلا أنه يفتح الباب أمام سحب صفات علمية من الأساتذة بسبب خيارات سياسية أو إيديولوجية

هل حان الوقت لمراجعة شعار معارضة التطبيع؟

يرى عادل اللطيفي، أستاذ التاريخ الاجتماعي في جامعة السوربون، أن أصل الموضوع يتعلق بمعارضة التطبيع مع إسرائيل، مضيفاً أن “هذا الشعار يحتاج إلى مراجعة محتواه بكل شجاعة، كي يتأقلم مع تطور الوضع الفلسطيني ذاته، وكي لا يبقى مجرد شعار يساوم به كل من هبّ ودبّ”. ويقول إن أصل الموقف هو معارضة الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية وعنصرية سالبة للحق الفلسطيني. وهذا يعني مقاطعة كل طرف يحمل هذا الفكر ويساهم في تغييب هذا الحق. هذا هو المبدأ والقاعدة التي لا اختلاف حولها. لكن هل يعني ذلك أن كل إسرائيلي هو صهيوني بالقوة وبالفعل؟ الإجابة بالتأكيد بالنفي والأمثلة كثيرة، ميشال وارشاوسكي وليا تسمل وغيرهما من الأسماء التي تنشط لأجل القضية الفلسطينيّة في المحافل الدوليّة”.

يذكّر القزدغلي بالجدل الذي أثير حول أنس جابر، لاعبة التنّس التونسية، التي لاحقتها التهمة نفسها عندما شاركت في مباراة ضدّ لاعبة من إسرائيل، كلاهما تعرّض لموجة من الشيطنة تضع الأشخاص في مآزق عدّة. وقالت جابر، إن ما تقوم به ليس تطبيعاً، وليس ممنوعاً قانونياً، وأن الأمر ينتهي عند مباراة فرديّة.

التطبيع في تونس مسار طويل وشائك

تعدّ القضية الفلسطينية من أبرز القضايا الحاضرة في تونس، ليس سياسياً فقط بل شعبياً أيضاً، خصوصاً بعد حادثة عام 1985 حين قصفت طائرات إسرائيلية حمام الشط التونسي، مستهدفةً قادة “منظمة التحرير الفلسطينية”، ومخلِّفةً نحو 68 قتيلاً و100 جريح فلسطيني وتونسي. 

غادرت “منظمة التحرير الفلسطينية” تونس مطلع التسعينات، وكانت تتخذها مقراً لها بعد مغادرتها عام 1982 بيروت، وبقيت في تونس حتى توقيع اتفاق أوسلو.  وعام 1994، تم فتح قنوات اتصال تونسية – إسرائيلية من خلال سفارتي بلجيكا في تل أبيب وتونس، ليتم عام 1995 توسيع العلاقات الرسمية بين البلدين بعد توتر العلاقات، لتقتصر في البداية على “قناتين اتصاليتين” في هاتين السفارتين. 

وفي 22 كانون الثاني/ يناير 1996، أعلن وزير الخارجية الأميركي حينها وارن كريستوفر، أنه للمرة الأولى ستنشئ إسرائيل وتونس مرافق رسمية تسمى “رعاية المصالح” في كلا البلدين. وفقاً للخطة، فتحت إسرائيل مكتباً لرعاية المصالح في تونس في نيسان/ أبريل من العام نفسه، وبعد ستة أسابيع، في أيار/ مايو، ذهب الدبلوماسي التونسي خميس جهيناوي إلى إسرائيل لفتح مكتب اهتمام ببلاده في تل أبيب، ليغلق المكتب ومن خلفه باب التطبيع خلال الانتفاضة الفلسطينية.

تحوّل الجدل حول التطبيع لاحقاً، إلى نقاش قانوني ودستوري، عندما فُتح باب تجريم التطبيع خلال مداولات المجلس التأسيسي لكتابة الدستور عام 2014، إذ تم النداء بضرورة التنصيص في توطئة الدستور على “مناهضة كل أشكال الاحتلال والعنصرية وعلى رأسها الصهيونية”، وهو المقترح الذي أسقطته “حركة النهضة الإسلامية” صاحبة الغالبية حينها في المجلس التأسيسي.

التطبيع والسياسة

“التطبيع خيانة عظمى”، بهذه الكلمات أجاب الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال المناظرة التي بثّتها مؤسسة التلفزة الوطنية عام 2019، عن سؤال أحد الصحافيين حول مسألة التطبيع، وعلى رغم الزخم التي أحدثته الكلمة،  إلا أنها بقيت مجرّد تعبير، إذ لم يعمل سعيّد على تمرير مرسوم يجرّم التطبيع أو يحدده على الأقل، بل على العكس، أصدر سعيّد نهاية العام الماضي مرسوماً رئاسياً يتعلق بمصادقة تونس على بروتوكول الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية، يندرج في إطار اتّفاقية برشلونة لحماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر الأبيض المتوسّط، وكان يضّم إسرائيل.

أضف إلى ذلك، حصول لقاء خاطف بين رئيسة الوزراء التونسية نجلاء بودن، والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مؤتمر المناخ في مصر عام 2022، علاوة على مشاركة وزير الدفاع التونسي عماد مميش في اجتماع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في ألمانيا، شارك فيه وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس. وحديثاً، ناشدت جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، إسرائيل لمساعدة تونس اقتصادياً ودعم ملفّها لدى صندوق النقد الدولي. 

تبدو العلاقة بين تونس وإسرائيل ضبابية ولا تخلو من المواربة وعدم الوضوح، فعلى رغم التعاون الاقتصادي والرسمي بين البلدين، إلا أن مشاركة القزدغلي تصنَّف لدى البعض في إطار التطبيع وتستوجب تعريضه للمساءلة والمحاسبة والرجم!