fbpx

تراث “الشوفينية والاستعلاء” الذي هوى…
مصريون ضد استضافة اللاجئين السودانيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يتدفق آلاف السودانيين إلى الحدود المصرية عبر منفذي قسطل وأرقين البريين، في ظل مطالبات بالسماح للقادمين بالدخول إلى الأراضي المصرية من دون تأشيرة، ما يضع النظام المصري في مأزق اقتصادي وسياسي،

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أجبرت المعارك المسلّحة الدائرة في العاصمة السودانية، الخرطوم، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أعداداً كبيرة من السودانيين على النزوح واللجوء إلى الدول المجاورة، وأبرزها مصر، الأمر الذي أثار جدلاً ليس جديداً، وإن تضاعفت حدّته هذه المرة، حول تداعيات قدوم موجات اللاجئين والنازحين السودانيين إلى القاهرة، التي تعاني حالياً من أزمة اقتصادية طاحنة وهبوطاً قاسياً في قيمة عملتها وغلاء وتضخماً غير مسبوقين.

وتزايدت أعداد المصريين المعارضين للترحيب بالسودانيين على أراضي بلادهم، وتحديداً من المعسكر الذي يتبنّى فكراً قومياً مصرياً، وهؤلاء يُعرفون في أوساط شعبية بـ”الدولجية”، أي أتباع الدولة، ومنهم من يعترض بزعم أوضاع مصر الاقتصادية التي لم تعد تحتمل لاجئين، ومنهم لموقف “عنصري” تجاه السود عموماً والسودانيين بخاصة.

يتدفق آلاف السودانيين إلى الحدود المصرية عبر منفذي قسطل وأرقين البريين، في ظل مطالبات بالسماح للقادمين بالدخول إلى الأراضي المصرية من دون تأشيرة، ما يضع النظام المصري في مأزق اقتصادي وسياسي، ما بين مصالح دولية يحقّقها من استقبال اللاجئين وتسكينهم، بينما يحتاج دعماً دولياً راهناً بعدما ضاق الخناق عليه لاتباعه سياسات اقتصادية وحقوقية قادت إلى أزمات لا حصر لها في الداخل، والأزمة الاقتصادية التي تشعل غضب المصريين تجاه استقبال اللاجئين، فيما يعيش المصريون تقفشاً حاداً تبدو آثاره واضحة على جميع تفاصيل حياتهم، فضلًا عن مخزون الاستعلاء المصري التاريخي على الأفارقة.

إلغاء تأشيرة دخول السودانيين الى مصر؟

عبر وسم “إلغاء تأشيرة دخول السودانيين الى مصر“، طالبت مجموعات من المصريين النظام المصري، بإلغاء تأشيرة الدخول للمهاجرين السودانيين الفارين من القتال، متحجّجين باتفاقية “الحريات الأربع” الموقعة بين البلدين عام 2004، التي تكفل حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك.

تستضيف القاهرة، راهناً، نحو 9 ملايين لاجئ من فترات سابقة، أغلبهم من السودانيين، ويحقّ لهم دخول مصر من دون تأشيرة إذا كانوا من الأطفال أو النساء أو كبار السن (من يتجاوزون الستين عاماً)، لكن تُطلب تأشيرة دخول من الرجال، ما بين 16 و60 عاماً، وهي التي يطالب البعض بإلغائها، نظراً الى ظروف الحرب الدائرة في الخرطوم، ويقدم النظام المصري، بالفعل، تسهيلات ظاهرية “مُعلنة” كالرعاية الطبية المجانية للنازحين، لكن تلك التسهيلات لا تكفي المصريين من الأساس، وتُعدّ خدمات سيئة السُمعة، ما يحوّلها إلى قرارات من دون تطبيق على أرض الواقع.

ويظلّ إلغاء التأشيرة قراراً مصرياً معلقاً ينتظره الجميع، مراعاةً للظروف الإنسانية التي يتعرض لها السودانيون، إلا أن النظام المصري يماطل في اتخاذه، ولا يفتح نقاشاً رسمياً حوله سلباً أو إيجاباً، أو يتحدث عن دراسة القرار، ويرى مراقبون أن الحكومة المصرية تدرس ما إذا كان فتح باب الدخول للمهاجرين السودانيين سيحقق لها المكاسب المرجوة أم لا.

يقول علي سيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن استضافة المزيد من اللاجئين السودانيين قد تكون بوابة للحصول على دعم دولي من الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، أو خليجي من السعودية أو الإمارات.

ويضيف لـ”درج”: “من المنطقي، سياسياً، أن تفكر الحكومة المصرية في تلك الجوانب قبل اتّخاذ قرار، بخاصة أن القاهرة تعاني انهياراً في الجنيه، وغلاءً، ونقصاً في بعض السلع، واستخدمت مصر سابقاً ملف المهاجرين الأفارقة والسوريين في الحصول على مساعدات من الاتحاد الأوروبي وجهات أخرى في أوقات سابقة، منها صندوق الطوارئ التابع للاتحاد الأوروبي لأفريقيا، الذي منح مصر تمويلاً لمكافحتها الهجرة غير النظامية”.

ويؤكد سيد أن “اللاجئين الأفارقة في غالبيتهم يعتبرون مصر ممراً للهجرة غير النظامية إلى أوروبا، وهي الورقة التي تستخدمها القاهرة أيضاً للحصول على مساعدات، مقابل تأمين حدودها البحرية ومنع موجات اللجوء، وهو ما أتوقع دراسته الآن تمهيداً لاتخاذ قرارات في ملف لجوء السودانيين والتعامل معهم خلال الفترة المقبلة”.

ويرى سيد أنّ “بعض الهتافات على موقع “فيسبوك”، تحرّكها مشاعر، سواء كانت رافضة أو مُرحّبة، وذلك بسبب الأخوة التاريخية بين القاهرة والخرطوم، لكن الأمر الآن مختلف، إذ إن لإدارة تلك الملفات أبعاداً أخرى تتعلق بالمصالح والعلاقات الدولية”.

لا تتبع مصر النموذج القائم على المخيمات في استقبال اللاجئين، بل تعتمد على دمجهم في المجتمع، وهو ما يخلق تزاحماً في العمل ورفع الأسعار وغلاءً في أسعار إيجارات الشقق وضغطاً على مرافق مُنهكة بالأساس كالصحة، وهو ما يقلق المصريين ويخلق رفضاً عاماً لاستقبال السودانيين، في ظل قدرات مصرية محدودة ومستنزفة وحالة تضخم تصل إلى 100 في المئة.

أسعار الإيجارات “تتضاعف” للسودانيين

في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2005، اعتصمت مجموعة من اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود بقلب الجيزة في مواجهة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مطالبة بحق اللجوء على أثر الحرب في جنوب السودان. آنذاك، طالب أهالي المنطقة أجهزة الأمن بضرورة فضّ الاعتصام، وبالفعل، تمّ ذلك وتوفي خلال الفضّ نحو 25 سودانياً، الأمر الذي أحدث شرخاً عميقاً في علاقة السودانيين المقيمين بمصر والحكومات المصرية، بخاصة أنه لم يكن احتجاجاً ضد أي جهة مصرية. وفي آب/ أغسطس 2019، أطلقت رابطة اللاجئين السودانيين في مصر حملة بعنوان “أخرجونا من جحيم مصر” للتعريف بالجرائم العنصرية التي يتعرض لها السودانيون في مصر، بدءاً من التعالي والسخرية عبر أوصاف كـ”العبيد والزنوج” حتى الإيذاء الجسدي والنفسي، في واقع يحكمه قانون الغابة.

يعاني السودانيون (وأصحاب البشرة السمراء عموماً) في الشارع المصري، وبعيداً من الأسباب التقليدية التي يسوقها كثيرون عند الحديث عن تلك القضية، كمناداتهم في الشوارع بألفاظ كـ”شيكولاتة، سمارة، ضلمة، أسود”، من صعوبات وتمييزاً عنصرياً من نوع آخر في المؤسسات الحكومية والمعاملات اليومية، وكأن العنصرية تجاه السود “سياسة صورية”. ووفق شهادات عدة، لا يجد السودانيون عملاً في القاهرة بسهولة، وهو غالباً لا يتناسب مع شهاداتهم العلمية وخبراتهم، ويُحصرون في وظائف كعمال النظافة والعمالة اليدوية بمقابل زهيد.

يؤكد عمر الجنيد، وهو طالب سوداني يدرس السينما في القاهرة، أن الأمرَ يتجاوز، أيضاً، عدم إيجاد عمل ملائم إلى منع تسكين السودانيين في شقق، أو المغالاة في أسعارها إلى حدود بعيدة. ويقول لـ”درج”: “نبحث لإخواننا القادمين من الخرطوم عن شقق للمأوى، لكن ما نلاحظه أنّ بعض الجنسيات الأخرى أولوية بالنسبة الى المؤجّرين، فإذا كان المستأجر سورياً وسيدفع ما يدفعه السوداني، تذهب الشقة الى السوري، رغم أن الاثنين من اللاجئين ويخضعان للقوانين نفسها”.

يعمل عمر حالياً على مساعدة السودانيين القادمين إلى القاهرة، ويقول إنّ “أسعار إيجارات الشقق تضاعفت، حتى تلك التي تقع في مناطق عشوائية، ويطلب المؤجرون أسعاراً خيالية تخالف المُتعارف عليه ويضعون شروطًا صعبة، ويتدخّلون في حياة المؤجرين، ويعاينون الشقق يومياً حتى يتأكدوا من عدم إتلاف شيء رغم حصولهم على مبلغ تأميني، فيما الشقق ذاتها سيئة التهوية وفي وضع مزر”.

ويضرب عمر مثلًا بـ”حدائق المعادي”، وهي الظهير الشعبي لحي المعادي الراقي في القاهرة، وتضمّ كثراً من ذوي البشرة السمراء، وتستضيف عدداً من السفارات الإفريقية، نظراً الى انخفاض الإيجارات فيها. ويروي: “كنت مستأجراً شقة هناك العام الماضي بألفي جنيه (نحو 62 دولاراً)، وأحاول الآن إيجاد شقة تأوي بعض السودانيين بالمواصفات ذاتها، لكن سعرها ارتفع إلى 5 آلاف جنيه (نحو 155 دولاراً)، وذلك فقط لأن المستأجر سوداني، وربما استغلالاً للأزمة، لكن ذلك لم يكن ليحدث إذا كان المستأجر سورياً أو يمنياً”.

يعاني السودانيون، أيضاً، إهمالاً وضغوطاً من نوع آخر، بينما يعبرون الحدود المصرية – السودانية، وحسب الشهادات التي رصدتها منصة اللاجئين في مصر، توصف رحلة العبور بـ”المهينة والمؤلمة، ويمثل العبور في حد ذاته أزمة إنسانية”.

“أرض الأحلام” الوهمية للسودانيين

مصر، في المخيّلة الشعبية للسودانيين، هي أرض الأحلام، ورغم أنها تعاني من أزمات على مدار تاريخها، إلا أنها أكثر استقراراً وأمناً من الدول المجاورة الأخرى، لذلك شكلت الملجأ الآمن للكثير من السودانيين من ويلات الحرب التي لاحقتهم طوال العقود الماضية، وهي أيضاً بوابة الهجرة إلى أوروبا. لذلك، حين يتعرض السودانيون للعنف والعنصرية، تنهار طموحاتهم وأحلامهم وتوقعاتهم عن الأرض التي كافحوا ليصلوا إليها، بخاصة أن بعضهم يأتي إلى القاهرة بشكل غير شرعي بعدما يدفع الكثير من الأموال للمهرّبين، كما يخوض رحلة توصف دوماً بـ”المُميتة”.

ما ضاعف تلك المعاناة، الإرث التاريخي من “الشوفينية” والاستعلاء على الأفارقة وأصحاب البشرة السمراء، والسودانيين تحديداً، فضلًا عن توترات سياسية أخرى. إذ يعتبر المصري السودان بلداً كان تحت سيادته وحكمه في فترات تاريخية أخرى، حين كانت مصر والسودان بلداً واحداً تحت الاستعمار البريطاني، ورسّخت السينما المصرية نظرة دونية للسودانيين، حيث كانوا يظهرون في الأفلام كأشخاص منبوذين، يعملون بوظائف أقل قدراً كالبواب و”السفرجي” والعامل، وتتمّ السخرية منهم والتعدي عليهم في سياق كوميدي.

ويعتقد السودانيون أن مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، الذي يخضع للسيادة المصرية في الجنوب، هو أراض سودانية استولت عليها القاهرة واحتلتها قبل منح السودان استقلاله، ولا يزالون حتى اليوم يطالبون باستعادة تلك الأراضي، عبر شكاوى وقضايا دولية لدى مجلس الأمن، إلى جانب الغضب الذي نما تاريخياً بسبب إغراق قرى سودانية كاملة حين بُني السد العالي في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الأمر الذي أدى الى تدمير منازل ووفاة الكثير من السودانيين.

“ذروة الغضب”

وعلى رغم حصول السودان على استقلاله، ظل المصري يعتبر الخرطوم بلداً تابعاً، والسودانيين شعباً بلا حقوق، يمكن أن يعبث بأراضيه ويستولي على حقوقه، من دون الالتفات من الأساس إلى رغبة جماعات سودانية في الحصول على حقوقها الوطنية، وتلك الجماعات هي التي شكّلت لاحقاً نسيج الثورة على حكم البشير، التي كانت مستمرة ضد الجيش السوداني في الميادين طوال الأشهر التي أعقبت عزل البشير.

كانت مصر “رئيساً وجيشاً” الداعم الأول للجيش السوداني في إجهاض الثورة، ومنع وصول الثوار إلى الحكم، وذلك بسبب “خلفيتهم الفكرية”، إذ ترى القاهرة أنهم محتلون لأراضٍ سودانية، ويتجهّزون باستمرار للمطالبة بحقوقهم منها، على عكس الأنظمة السودانية السابقة، التي كانت صامتة بلا خطوات حقيقية في طريق استرداد الحقوق السودانية أو تشكيل شخصية سودانية مستقلة وقوية بدلًا من الصورة الذهنية السائدة عن السودان المُنهك بسبب حروبه الداخلية وسلطته الباطشة طوال سنوات حكم البشير.

انعكس التعالي السياسي “التاريخي” من جانب مصر على ردود الفعل الشعبية تجاه السودانيين طوال السنوات الماضية. وبسبب زيادة الوعي لدى السودانيين بالحقوق السودانية لدى مصر – بفضل الثورة السودانية – فضلًا عما يتعرضون له من عنصرية من المصريين، تضامنوا في غالبيتهم مع إثيوبيا في قضية سد النهضة، وأُعلن ذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لينتقل الجدل من سياسي إلى شعبي، ليصبح السودانيون تدريجياً في صف إثيوبيا وفي مرمى نيران المصريين الغاضبين من موقفهم.

وعلى هامش موجة اللجوء السودانية الأخيرة، تعالت نبرة السؤال حول سر قبول المصريين اللاجئين السوريين ورفضهم اللاجئين السودانيين، رغم تشابه حالتهما، والإجابة الوحيدة على هذا السؤال هي العنصرية الدفينة. يرجع ذلك إلى سنوات الاحتلال التي عاشها المصريون وخلقت لديهم انبهاراً بأصحاب البشرة البيضاء. كما أن السوري جاء إلى مصر ثرياً ومالكاً لمطاعم ومحال تجارية، وهي صفات تغري قطاعاً واسعاً من المصريين، فيما لا يملك اللاجئون السودانيون تلك المقومات.

السودانيون – في العقل الجمعي المصري الغارق في التمييز وتراث الاستعلاء والشوفينية الذي انقضى – هم الجار الذي ولّدت العلاقات به الكثير من الأفكار العنصرية والخرافات والرغبة المحمومة في حجز مكانة أعلى اجتماعياً، إذ يعتقد كثر من المصريين أنها لا تأتي سوى بالشكليات كلون البشرة، ونمت تلك الأفكار المصرية سياسياً واجتماعياً حتى خلقت مشكلات عدة بين البلدين، وموجة اللجوء الحالية ليست أولها، بينما يواجه المصريون تحديات هوياتية وثقافية كالأفروسنتريك وكليوباترا “السمراء”.