fbpx

نوارة نجم… صورة الأبّ “الفاجومي”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تخبرنا نوارة كيف اختبرت وهي في فترة الرضاعة، الانفصال عن والدها ثم عن أمها الكاتبة صافيناز كاظم، عندما ألقى نظام أنور السادات القبض عليها، ورحيلها إلى بغداد لاحقاً، لتختبر نوارة الانفصال عن مصر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تستعيد نوارة نجم، الصحافية والناشطة السياسية المصرية، في كتابها  الصادر هذا العام “وإنت السبب يابا… الفاجومي وأنا”، ذكرياتها مع والدها الشاعر أحمد فؤاد نجم. تخبرنا نوارة عن الفترة الممتدة من طفولتها حتى شبابها، وتحمّل نجم، كما يتضح من العنوان، كل أسباب تشكّل حياتها على النحو الذي صارت عليه، إيجاباً وسلباً، من دون تقديس أو أسى.

توظف نوارة لغة فيها الخفة والإبداع، مراهنة على العامية/ الدارجة المصريّة، ولا تفصل بين المعرفة العميقة والشعبية كما فعل والدها، إذ تتساوى عندها أمهات الكتب مع الأمثال والرؤى والأحلام والمسلسلات والمسرحيات الشهيرة. 

تخبرنا نوارة كيف اختبرت وهي في فترة الرضاعة، الانفصال عن والدها ثم عن أمها الكاتبة صافيناز كاظم، عندما ألقى نظام أنور السادات القبض عليها، ورحيلها إلى بغداد لاحقاً، لتختبر نوارة الانفصال عن مصر.

حرصت صافيناز، رغم طلاقها من نجم، على خلق علاقة بين الطفلة ووالدها الشاعر الكبير، علاقة توظف مساحات الانفصال نفسها عبر صور تجمع نوارة الطفلة مع والدها، قبل أن يتكون وعيها وذاكرتها من خلال روايات مسموعة عن والدها وعلاقته بأمها، وشرائط الكاسيت التي كانت تحوي أشعاره المسجلة ورسائله إلى الأم والابنة.

صورة الأبّ المُتخيّل

ترسم نوارة والدها في البداية عبر التخييل: صور لرجل نحيل يبتسم من زاوية فمه، تحمل عيناه سخرية ما. ترصد نوارة شبهاً بين صورته وعادل إمام، الصورة التي تدافع عنها كطفلة في الرابعة أمام استنكار الآخرين لها.

المرة الأولى التي رأت فيها نوارة والدها في “حياتها الواعية” كانت أثناء زيارته في السجن، أي عبر حاجز، وما فهمته حينها أن الضباط كانوا يخافون من والدها، منبهرة بمشاعر الفخر التي أحاطه بها زوج والدتها، الأستاذ العراقي عبد الأمير الورد، أثناء وجوده معهم في الزيارة. 

حفّزت ملامح فؤاد نجم بعد الزيارة الأولى، ذاكرة نوارة فـ”العين الخضراء، والحسنة تحت العين”، أدت إلى تغيير الصورة، تلاشى عادل إمام وحلّت مكانه صورة  لاعب الزمالك المشهور حسن شحاتة، في النهاية لم يكن يشبه أحدهما. هذه الصورة المتخيّلة تقابلها محاولات نوارة، عبر الشرائط التي كانت ترسلها الى والدها من العراق وهي في سن السادسة، أن ترسم لنفسها صورة متخيلة عند والدها، تكون فيها أكبر سناً وتفوقاً.

استطاعت نوارة العودة مع والدتها بشكل نهائي إلى القاهرة عام 1980، حينها كان فؤاد نجم هارباً من السجن، متخفياً من السلطات، وإن قدّر لها أن تراه، فكان اللقاء بعد مغامرة بوليسية، وسط زملاء ومريدين ينادونه باسم حركي “مجدي”، ومحاولات نجم تغيير شكله عبر تنكّر مضحك، يشابه طريقة نجم الساخرة والعبثية، إذ يعرف الجميع مكانه، خصوصاً المخبرين الذين كانوا يجالسونه.

مواجهة الظلم بين الجدّ والمزاح

عاشت نوارة بين عالمين خلقا داخلها صراعاً، الأول هو عالم النظام والانضباط الذي تفرضه تربية صافيناز. والثاني عالم والدها الفوضوي المتطاول والجسور، إذ تتخلى نوارة في حضور والدها عن الرسميات، وتشعر بلذة مسروقة من أيام طفولتها ومراهقتها المنضبطة.

هذا التخفف سيكون عامل جذب إضافياً نحو عوالم الأب، إذ سمّت نوارة أحد أصدقائه “الفلاح الكافر”، لإصراره على دعوة أبيها إلى الإلحاد عبر المنطق، أما والدها فاكتفى بسبّه.

تخبرنا نوارة كيف أُعجب الفلاح بـ” شقاوة” التسمية وابتكارها، فالفلاحون في المسلسلات يتحدثون دوماً “عن ربنا”، وعندما سمعت الأم الحكاية كلها، تغير وجهها وغضبت، أما نوارة نفسها، فلم يكن الأمر بالنسبة إليها أكثر من مداعبة، ولا داع  إلى إطلاق حكم أخلاقي على “الفلاح الكافر”، الذي تتذكر طيبته وكرمه ورفقه بها.

تشير نوارة إلى أن العالمين اللذين تعيشهما قائمان على مواجهة الظلم، لكن عالم الأم لا يعرف اللعب ويغضب سريعاً، خصومتها مع الأمّ كالعدالة الناجزة، لا مجال فيها للحياد، فإما حب عنيف أو كراهية عنيفة، تنشأ بين الأم وبين خصومها. عالم الأب مختلف تماماً، إذ تتسع روح الشاعر رغم الخصومة لفهم سجانيه، بعدما أفرغ سخطه بشكل فني، إلى حدّ أن سجانيه أنفسهم وقعوا في حبه.

انتزاع الحقّ بالأبّ

يُحسب لصافيناز، التي ذاقت نزق نجم ذكوري الطابع، أنها سعت بمختلف الطرق الى الحفاظ على علاقة الابنة بأبيها، رغم أنهما من عالمين متضادين، فأحمد فؤاد نجم بحسب وصف نوارة “مثل الزئبق لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس”، بينما  تعمل صافيناز على “تطبيب حماقاته” مع الابنة وتخفيف الجراح الناشئة عنها، إذ كان يصعب الوصول إليه، ووعوده الكاذبة بشأن اللقاء القريب، أدت إلى تمضية صافنياز مع نوارة ساعات في الطرقات بحثاً عن الشاعر “المشهور”.

ما خاضته نوارة نجم عبر كتابها أشبه برحلة انتزاع الحق بأبيها “شاء ذلك الوالد أم أبى”. كتب عنه الجميع عداها، وتخيله الجميع عداها. ما تفعله في الكتاب لا يخص نجم بل يخصها، وإن كانت الرحلة مكتوبة بأثر رجعي، كأننا أمام الفصل الأخير في رحلة التصالح مع الأب والغفران له، والامتنان لحلو التجربة ومرها، فتعقيدات التجربة هي ما شكلت نوارة التي تتذكر ما اختبرته بلغة ساخرة ولطيفة تنكش مواضع الأسى من دون أسى.

تدرك نوارة أيضاً أين تكمن مثالب والدتها، من دون أن تفقد احترامها وتقديرها لما فعلته وتحملته من أجلها، سواء عبر التربية الزاجرة والعنيفة، أو وهي تخبرها عند القبض عليها فجراً “أن المسلمين ما بيعيطوش”. غياب الأب والأم في السجن، خلق لدى نوارة نوبات اكتئاب وغضب، وشكّل الكثير من ملامح الفتاة الشرسة التي نصف بها نوّارة.

الأبّ من لحم ودمّ

أثناء زيارات نوارة القصيرة لوالدها التي لا تتجاوز الليلة أو الاثنين، تعرفت الطفلة على وجه نجم المتقلب بين العبوس إلى الضحك، إذ تشير كيف يقتبس أحمد فؤاد نجم خلال حواراته معها من “الأدب العثمانلي” حسب تعبيرها أو ” أدب القرود” حسب تعبيره.

ورثت نوارة لساناً لا يخشى المجادلة، وطورت قبل عمر التاسعة حسب قولها  حباً لاختلاق القصص، حباً يتحرك بين المشاعر المكبوتة، وحياة تعيشها في عالم مواز،  لتحاول في الكتاب نزع القناع وإزالة الحاجز عبر تصوير الحقيقة لا الخيال.

تعرّفنا نوارة على تفاصيل حياة فؤاد نجم، فبيته لم يكن لها، بل لضيوفه،  بل في الواقع لم يكن حتى له، عندما يسرقه واحد من ضيوفه الذي آواه طيلة الليل، يمنعها من أن تصرخ “حرامي” كما علمتها والدتها، ولا تستسلم لمنطق أبيها الذي يؤكد أن اللص”محتاج الملاليم دي” إلا مجبرة.

يكشف الكتاب عن توتر العلاقة بين أحمد فؤاد نجم وصافيناز كاظم، إذ تشير إلى  صراع الحجاب  الذي اختبرته، صراع  بين الأم “المؤمنة” التي تؤكد لها أنها بنزع الحجاب، ستكون عاصية لله، والأب الشاعر الذي كان يحاجج بأن حجاب ابنته يحرجه أمام أصدقائه اليساريين.

من “توتة” إلى أوشة أخت المليجي

قُرصن حساب نوارة نجم  على “تويتر” عام 2011 وقت الثورة، فاقترح عليها وائل خليل، الاستعانة بوائل غنيم؛ لأنه ذو منصب كبير في غوغل، وأعاد للكثيرين حساباتهم، لكن وائل رفض لأنها “بتقول ألفاظ وحشة”.

اعتُقلت نوارة للمرة الأولى في عام 1995، وهي ما زالت طالبة في كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية، ومتدربة في جريدة “الشباب” و”الأهرام ويكلي”، تقول حينها إنها  كانت خجولة، حتى إن اسمها كان “توتة”، قبل أن يحولها الزمن بحسب تعبيرها إلى “أوشة أخت المليجي”. تشير لاحقاً كيف اعتُقلت بعد مشاركتها في تظاهرات ضد مشاركة إسرائيل في المعرض الصناعي بالقاهرة، وتعرضت للضرب من جانب الأمن.

تخبرنا نوارة كيف كانت والدتها أكثر قوّة وتحملاً واستعداداً، فيما انهار نجم تماماً، وهو ما لم يكن متوقعاً. عرفت نوارة من زوجته بعد إطلاق سراحها، أنه ظل يبكي، وتذكر أنه قال في مونولوج حزين جداً: “هما مش هيسيبونا في حالنا بقى؟ كل اللي دفعته ما كنش كفاية؟ هو أنا جنيت عليها؟ ليه خلفتها؟ عشان تيجي في الدنيا تتبهدل زي ما أنا اتبهدلت؟ السجن وحش يا أميمة! السجن وحش! أنا عمري ما قلت.. عمري ما قلت إن السجن وحش.. بس هو وحش أوي.. إنت شفتي نوارة؟ دي تستحمل؟ لو هو وحش عليَّ دي تستحمل؟”.

طارد طيف صافيناز في السجن نوارة، ناعتاً إياها بـ”عاصية لله”، وأنها تعاقب كونها لم ترتد الحجاب الصحيح. حينها فكّرت نوارة بأن ترتدي الخمار حين يُطلق سراحها، بعدها دافعت صافيناز  عن ابنتها بقوة، في كل موقف ولحظة، الموقف الذي  سيتغير في السنوات الأخيرة بعد خلع نوارة الحجاب تماماً.

في ذكرى وفاة أحمد فؤاد نجم الثالثة، لم تعد نوارة مشغولة بالبحث عن والدها، وأصبح لديها الوقت لمراجعة علاقتهما والتخلص من كاتالوغ “اليمين واليسار”، وأول ما شعرت به حينها هو الغضب الشديد، تذكرت كل ما كانت تستحقه ولم يمنحها إياه، وكل ما لم تستحقه وأصابها به، ثم قررت ألا تحتفل بذكراه، فليفعل ذلك “كل الناس اللي شربتني المر عشانهم يحتفلوا هما”.

يمتلك فؤاد نجم عشرات الأبناء غير البيولوجيين، نافسوا الابنة البيولوجية على أبيها، وفازوا باهتمام أكبر، حتى إنها تختم الكتاب بقصيدة كتبها أحد أبنائه في تأبينه، مؤكدةً أن قراءة القصيدة قد تغني عن قراءة الكتاب.