fbpx

انطلاق الحوار الوطني في مصر: لا ثقة بين النظام والمعارضة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو جلياً، أن النظام المصري يتقدّم نحو الحوار الوطني بتردّد وحذر ورغبة محدودة في التغيير، وذلك لسيطرة الأجهزة الأمنية على جميع مفاصل الدولة وصنع القرار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تقاطع الحركة المدنية المصرية المعارضة الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأقيمت جلسته الافتتاحية في 3 أيار/ مايو، برغم وجود الكثير من المخالفات التي تدعوها للمقاطعة، وذلك لإبطال حُجة النظام القائم بعدم رغبة الأحزاب والمعارضين في الحوار معه أو تبادل وجهات النظر حول الوضع الراهن، وهو الادّعاء الذي يسوقه محسوبون على النظام لإلقاء اللوم على الغاضبين من حكم السيسي، واتهامهم بالجهل بلعبة السياسة.

سبق اليوم الأول من الحوار الوطني مباشرةً ما اعتُبر سوء نية، وهو القبض على السياسية المصرية نجوى خشبة، عضوة “حزب الكرامة”، من دون توجيه أي اتهامات لها، برغم ابتعادها من العمل السياسي لفترة طويلة، إلا أن البعض أرجع سبب القبض عليها إلى منشور شاركته على “فيسبوك” حول ارتفاع الأسعار ومعاناة الفقراء. كما قبض على يحيى حسين عبد الهادي، المتحدث باسم الحركة المدنية، واتُّهم بـ”نشر أخبار كاذبة”. أحدث ذلك ارتباكاً في المشهد السياسي وشكوكاً في نية الأجهزة الأمنية تجاه الحوار الوطني، هل تأخذه بجدية، أم أنها تتلاعب بحضور القوى السياسية والحركات المعارضة لأجل تقديم “نموذج ديمقراطي” للغرب يغسل به النظام سمعته من دون جدوى حقيقية؟

على الجانب الآخر، قدمت إذاعة الحوار الوطني في بثٍ مباشر رسالة طمأنة بأنّ الحوار سيكون خاضعاً للرقابة الشعبية، من دون حذف أو قصّ أو حجب، بما في ذلك الآراء المعارضة أو الناقدة للنظام المصري وأسلوب إدارته الأزمة الاقتصادية والدولة منذ توليه زمام الأمور في مصر، وهو ما حصل في اليوم الأول مع كلمة أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، عمرو موسى، الذي وجّه انتقادات حادة لنظام السيسي، بدأ بها الحدث المنتظر منذ عام.

لم تقاطع الحركة المدنية المصرية المعارضة الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأقيمت جلسته الافتتاحية في 3 أيار/ مايو، برغم وجود الكثير من المخالفات التي تدعوها للمقاطعة

تمييع القضايا في الجلسة الافتتاحية

يرى د. عبد الغفار محمد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن “عدم حضور الرئيس السيسي الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، الذي يُقام بدعوة منه، مؤشر غير جيد، ويوحي بأنّ الأمر لن يتجاوز تفريغ بعض الغضب في الجلسات، وإجراء بعض التعديلات الطفيفة، واتخاذ قرارات هامشية، من دون تغيير السياسات والتوجّه الحقوقي للنظام عموماً”.

ويقول محمد إن “عدم الحضور، في أحد جوانبه، هو رسالة بأنه لا يجوز لأحد أن ينتقد النظام القائم أمامه، وربما بعد تفريغ شحنات الغضب التي تتّسم بها البدايات، والانتهاء من إعلان المشكلات، والتوصل إلى توصيات وحلول يحضر الرئيس ليعلنها، الأمر الذي يدلّ على عدم جدية في الاعتراف بالأخطاء التي أدت بمصر إلى هذا المأزق السياسي والاقتصادي”.

ويؤكد أستاذ العلوم السياسية، أن “الحكم على نجاح الحوار الوطني من عدمه الآن ليس شيئاً حكيماً، ولا يمكن الحجر على المحاولة، أو الحكم على نيات النظام في الوقت الراهن، لكن عدم البدء بالاعتراف بالقرارات الخاطئة والرغبة في تصحيحها، ربما يعني عدم الجدية في تعديل المسار”.

يتماشى ذلك الرأي مع التقرير السنوي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، الذي صدر قبل يوم واحد من انطلاق الحوار الوطني، ويرصد “تفريغ الدعوة للحوار الوطني من مضمونها قبل أن يبدأ، وذلك بعدم اتخاذ خطوات جدية، سواء على مستوى إقرار سياسات تهدف إلى إنهاء ملف المحبوسين على خلفية سياسية، أو المضي قدماً في إقرار سياسات تعمل على فتح المجال العام وإتاحة الحق في التعبير لكل المواطنين مهما كانت آراؤهم”. وركّز التقرير على العام الذي سبق إقامة الحوار الوطني، أي الفترة منذ الدعوة إليه حتى إقامته، مؤكداً أن تلك الفترة “شهدت 624 حالة اعتقال عشوائي، و101 حالة انتهاك للحقوق الرقمية، و63 انتهاكاً تعرض لها المجتمع الصحافي، تراوحت ما بين القبض على صحافيين أو مصادر صحافية، فضلاً عن 30 انتهاكاً ضد حرية الإبداع”.

وبرغم تلك البداية غير المبشّرة، تضمّنت الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني وعوداً من السلطة للمشاركين بالإفراج عن “المتبقين من السجناء السياسيين“، وإغلاق ملف القضية 173 المعروفة باسم “قضية منظمات المجتمع المدني والتمويل الأجنبي”، وإنهاء أزمة الحبس الاحتياطي.

وينقسم الحوار الوطني إلى ثلاثة محاور، سياسي واقتصادي واجتماعي، ولكثرة القضايا المطروحة، قد تمتدّ الجلسات إلى أشهر، وهو ما يُعدّ تهديداً لفاعليته وقدرته على إحداث تغيير، نظراً لأن طول مُدة الانعقاد وكثرة النقاشات دائماً ما تكون مظلة لـ”تمييع القضايا”، إلا أن أحزاب الحركة المدنية وبعض الجهات كنقابة الصحافيين تحملُ أهدافاً أساسية تنوي تحقيقها في الجلسات الأولى، في مقدمها الإفراج عن معتقلي الرأي والتعبير، الخطوة التي تعتبرها إعلاناً لحسن نية النظام السياسي ورغبته في التغيير، وشرطاً لاستمرارها في الحوار.

السيسي يتخلى عن لهجته الحادة

تُجرى الانتخابات الرئاسية المقبلة خلال عام 2024، وهو ما يجعل الاستجابة إلى الحوار الوطني من جانب السيسي بوابة عبوره، ومبرره لتقديم أوراقه لفترة رئاسية جديدة، رغم قيادته الدولة إلى أزمة اقتصادية صارخة، فضلاً عن الأداء السياسي والحقوقي السيئ منذ توليه الرئاسة عام 2014.

وقال السيسي، خلال كلمته المُسجلة، التي بُثت في الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، إن “مصر تمتلك من القدرات والإمكانات، التي تتيح لها البدائل المتعددة، لإيجاد مسارات للتقدم فى كافة المجالات، سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً”، ووعد بالمشاركة في مراحله النهائية.  

تخلّى السيسي، خلال كلمته، عن لهجته الحادة، وانتقل من التفرد بالرأي إلى الترحيب بالآراء الأخرى بسبب “تعاظم التحديات”، ومن التشكيك في نيات الآخرين إلى الاعتراف بأن “الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”. وهي الملحوظة الأولى التي سُجّلت على الحوار، لا سيما أن التغيير الواضح في نبرة الحديث يتراوح ما بين رغبة حقيقية في استعطاف الحضور، ووعي بحجم المشكلات التي تواجهها مصر حالياً.

عمرو موسى يلقي بيان إدانة النظام

تعدّد الحضور وأصحاب الكلمات، خلال الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، لكن الكلمة الأقوى والأكثر تأثيراً كانت للسياسي البارز عمرو موسى، أمين جامعة الدول العربية الأسبق، وبدت كأنها بيان إدانة سياسي للنظام القائم، من رأسه حتى أصغر رجاله ومسؤوليه.

وقال إن “الشعب المصري حالياً يشعر بالكثير من القلق ويتساءل عن السياسات المصرية وتوجه مصر بشأن الأزمات التي نواجهها وذلك لخوفهم على مصير البلد”. وطالب بـ”إغلاق ملف الحبس الاحتياطي نهائياً والتوجه إلى ما هو أهم وأبقى”. لمس موسى وتراً حساساً بحديثه عن عدم فاعلية وجدوى وتأثير مؤسسات ذات أهمية كالبرلمان وأدائه، والأحزاب وآلياتها، وكذلك الحريات وضمانتها.

وألقى بأسئلة حساسة و”فاضحة” للأداء الرسمي والأمني الذي خسرت القاهرة بسببه الكثير في الوقت الراهن، قائلاً: ما سر تراجع الاستثمار، بل وهروب الاستثمارات المصرية لتؤدي وتربح في أسواق أخرى؟ التضخم والأسعار إلى أين؟ وإلى متى؟ وهل سيطرت السياسات الأمنية على حركة مصر الاقتصادية فأبطأتها أو قيدتها؟ وهل شلت البيروقراطية المصرية حركة الاستثمار فأوقفتها؟

وردّ موسى على حديث السيسي السابق، الذي سخر من دراسات الجدوى والأولويات في اختيار المشروعات، بقوله: “أين فقه الأولويات في اختيار المشروعات؟ أين مبادئ الشفافية؟ ما هي حالة الديون المتراكمة ومجالات إنفاقها، وكيفية سدادها والاقتصاد كما نعلم متعب مرهق؟”.

وقال مصدر مطلع، تحفظ على نشر اسمه، لـ”درج”، إن تعليمات أمنية أرسلت للصحف والقنوات التليفزيونية بعدم إبراز حديث عمرو موسى أو مناقشته، أو تناوله في أي سياق على مواقع التواصل الاجتماعي أو الشاشات أو المواقع الإلكترونية، وحذف ما تمّ نشره، في ما عدا ذكره ريادة السيسي في الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني.

واكتفت الصحف الموالية للنظام المصري، على خلفية تلك التعليمات، بنشر حديثه حول طرح الرأي والرأي الآخر وحديثه عن العشوائيات ودعوته إلى وقف التعدي على جمال المدن، وحق الطبقة الوسطى في الرخاء، من دون الإشارة إلى بقية ما جاء في كلمته.

وتماشياً مع تلك الرسالة “غير المطمئنة”، التي توحي بعدم قدرة النظام على تحمل أي سؤال، وليس إقرار الخطأ أو إعلان رأي معارض، يقول د. مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية المنخرط في العمل السياسي بالحركة المدنية، أنه “متخوف من أن يصبح الحوار الوطني حديثاً ممتداً بلا جدوى أو نتيجة حقيقية، بخاصة في ظلّ العدد الكبير من المشاركين”.

ويضيف لـ”درج”: “الهدف من مشاركتنا هو المطالبة بإصلاح سياسي شامل، يسمح للجميع بحرية تكوين الأحزاب واحترام حقوق الإنسان، وأول ما ننتظره من إصلاحات هو الإفراج عن المحبوسين احتياطياً”.

مرتضى منصور وأمثاله “جيش الظل”

أثار العدد الكبير من الشخصيات، التي حضرت الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، مخاوف من محاولة حصار ذوي الآراء المعارضة بأعداد أكبر من الحضور الموالي للنظام، كما لفت الانتباه حضور شخصيات مُدانة شعبياً وقانونياً كمرتضى منصور، رئيس مجلس إدارة نادي الزمالك، الذي لا يتمتع بأي قبول في الشارع المصري، كما أنه كان مسجوناً على ذمة قضية “سب وقذف” وأفرج عنه حديثاً.

وبينما أثارت كلمة عمرو موسى جدلاً، وبدرجة أقل، كلمة الدكتور حسام بدراوي، مستشار الحوار الوطني وآخر أمين للحزب الوطني في عهد مبارك، الذي شدّد على أهمية “الفصل بين السلطات والعدالة”، غرقت كلمات بقية الحضور من رؤساء الأحزاب ونوابهم، بشكر الدولة على التوجّه إلى الحوار، والثناء على رعاية الرئيس، وكون إقامة الحوار “بداية لتأسيس دولة ديمقراطية مدنية حديثة تُصان فيها الحقوق والحريات”، بحسب قول طلعت خليل، نائب رئيس حزب المحافظين.

وعلى تلك الوتيرة سارت معظم المداخلات لتؤكّد منطق “الحصار” الذي يُفرض على الآراء المعارضة بجيش ظل يحمل آراءً أخرى شديدة التحيّز للنظام لصناعة التوازن، وتقليم أظافر الناقدين، ومنع الحوار من الوصول إلى مناطق لا يريد النظام التطرق إليها، أو تعديلها.

تبدو مكاسب الحوار المدني مُحدّدة سلفاً، قبل أن يبدأ، وتم التعبير عنها على لسان ضياء رشوان، المنسق العام للحوار الوطني، وهي الإفراج عن مجموعة من سجناء الرأي ضمن عمل لجنة العفو الرئاسي (القائمة بالفعل)، وليس بقرار من مسؤولي الحوار الوطني، وإنهاء قضية التمويل الأجنبي ومنظمات المجتمع المدني، وفي ذلك مغازلة للغرب أكثر منه إرضاء للداخل المصري، وإصدار قانون للمحليات، وتعديل بعض القوانين الأخرى، وتخفيف حدة الحبس الاحتياطي، إلا أن معظم المشاركين غير متفائلين بمستقبل تلك القرارات، أو تفعيل تلك الإجراءات، وذلك بناء على التجربة السابقة للمشاركين مع رموز ومسؤولين في الدولة لم ينفذوا وعودهم في أوقات سابقة حيال ملفات كالحريات.

وعبّر عن ذلك التخوف السياسي فريد زهران، رئيس “الحزب المصري الديمقراطي”، الذي قال، خلال كلمته في الحوار الوطني، إن “هناك ضمانات سبق أن تم الاتفاق عليها مع الجهات الراعية والداعمة للحوار الوطني لكنها لم تتحقق”.

ويحيل زهران ذلك، إلى جانب الأزمة التي تواجهها مصر حالياً، إلى اتّباع النظام “الحل الأمني” دون غيره. ويقول: “أي أزمة تواجه أي مجتمع لها حلان، أحدهما يشير إلى الطريق الأمني منعا لحدوث اضطرابات وهو حل اعتُمد لعشرات السنوات في مصر، لكن الحل الثاني أن تتم معالجتها عبر إشراك المواطنين في الحل عبر فتح الباب أمام حرية الرأي والتعبير فتظهر بدائل وقوى منظمة”.

فقدان الثقة… عنوان انطلاقة الحوار 

يبدو، جلياً، أن النظام المصري يتقدّم نحو الحوار الوطني بتردّد وحذر ورغبة محدودة في التغيير، وذلك لسيطرة الأجهزة الأمنية على جميع مفاصل الدولة وصنع القرار، وهي التي لا تقبل تخفيف حدة قبضتها وسيطرتها على الأوضاع، أو التخلي عن مكتسباتها، التي أدّت إلى أزمات اقتصادية كما تفعل القوات المسلحة، المتمسّكة بمشروعاتها الاقتصادية ومزاحمة القطاع الخاص دون نية في التخلي عنها لجذب الاستثمارات، حتى في ظلّ الأزمة الاقتصادية الطاحنة وهروب المستثمرين.

ذلك التشكّك هو الذي دفع الكثير من السياسيين إلى رفض المشاركة في الحوار الوطني، لرؤيتهم أن “الحكومة غير جادة في الإصلاح وأن مشاركتهم ستؤدي إلى إضفاء شرعية غير مستحقة للنظام”، وأبرزهم أحمد طنطاوي، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية.

ويفسّر فقدان الثقة بين كافة الأطراف تأخر الحوار لأكثر من عام، دون أسباب واضحة، سوى “الشكوك المتبادلة” بتحقيق كل طرف مصالح سياسية من وراء الآخر، أو محاولة استغلاله، وهو ما بدا بوضوح في الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني، والارتباك الذي سبقها، تحديداً لدى الحركة المدنية والمنظمات الحقوقية التي قررت المشاركة في اللحظات الأخيرة، ليس قناعةً منها بجدية النظام في التغيير، إنما لرغبتها في عدم إهدار أي فرصة للحصول على مكاسب سياسية، أو الإفراج عن معتقلين، وجاءت المشاركة من دون توافق على قضايا النقاش أو الحصول على ضمانات، كما كان مقرراً.

فقدان الثقة وعدم التوافق والحذر من الجميع، عناوين رئيسية لانطلاقة الحوار الوطني، التي اتّسمت بالحشد والحشد المضاد، والرغبة في ملء فراغات بشخصيات ليس شرطاً أن تتمتّع بالعمق المطلوب أو الأفق أو الخبرة السياسية أو الاقتصادية، إنما بالولاء الواضح للنظام، حتى تصنعَ توازناً مع الشخصيات “الثقيلة سياسياً” التي تتصدّر المشهد، وهي القادمة من خلفية محايدة، لا معارضة ولا منحازة كعمرو موسى وحسام بدراوي، والحركة المدنية المعروفة بمعارضتها الناعمة، إلا أنّ التوازن لم ينجح في الجلسة الافتتاحية، ومرّت كلمات معظم الحضور مروراً عابراً، بينما بقيت الأسئلة المُتشكّكة والناقدة لأداء النظام عالقة بالأذهان، تنبئ بمعركة سياسية تنتظرها مصر منذ 10 سنوات.