fbpx

ولدت في الظلام وبلغت من العمر 25 مليار قنبلة نووية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في أي مناخ يجد المولود الجديد نفسه في عام 2050؟ لم يطرح أحد مثل هذا السؤال حين ولدت وولد جيلي، إنما نحن محكومون بطرحه اليوم، لأن أعمارنا أصبحت رهينة قنابل بيئية مزروعة في البحار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وفق تقسيم العالم بين الفقراء والأثرياء، فتحت عينيّ في منزل طيني بقرية نائية جنوب العالم. في تلك القرية المنسية في إقليم كُردستان العراق، لم نكن نملك سوى آبار كانت تجف صيفاً، وأشجار توت معدودة تجلب لنا طيوراً مقيمة حيناً وبرّية مهاجرة حيناً آخر. حين بلغت الثلاثين من العمر، غابت طيور مهاجرة كثيرة عن أنظارنا، بما فيها طير الزرزور الجميل الذي كان يشاركنا في حراثة التربة شتاءً. 

بحسب تقويم والدي، يعود زمن ولادتي الى فصل عودة الزرزور، ذلك الطير الأسود المنقط بالأبيض، الذي كان حضوره بيننا يعد بشتاء رطبٍ وممطر. منذ العقد الرابع من عمري، صار المناخ يتغير يوماً بعد يوم، فقد غاب الزرزور مع أنواع أخرى من الطيور. تناقص هطول الأمطار وتدهورت التربة، الأمر الذي زاد من حيرتي تجاه البيئة التي ولدت وكبرت فيها. ولو رويت لجيل ابني وابنتي قصة ولادتي وعلاقتها بالشتاء وعودة الزرزور إلى منطقتنا، لاحتجت الى رسم الطير بالألوان، ذلك أنه هجرنا كلياً ولم يعد ممكناً التعرّف عليه سوى عبر رسمه بالألوان أو من خلال صور له. 

إنها ليست قصة ذاتية، بل قصة أجيال ولدت وكبرت في الخمسين سنة الأخيرة. هناك مَن ولدته المدن تحت الأضواء، وهناك مَن ولد في الظلام ولم يشهد على مجيئه الى العالم سوى قنديل وقابِلة؛ إنما كُلنا نشهد على أن التاريخ كذب علينا. تاريخ لم يوثق يوماً ما كان يشير في لحظة ولادتنا الى احتمال فقدان بيئتنا وتنوعها الأحيائي، واحتمال فقداننا بطبيعة الحال. 

رويت هذه القصة كي أقول: قبل نصف قرن حيث ولدت وولد جيلي، كانت شركات الطاقة العالمية تعلم بأن الانبعاثات الحرارية تهلك البشرية والنظم البيئية في المستقبل القريب، لكنها أخفت المعلومات عن الجميع واستمرت في إلحاق مزيد من الأضرار بالأرض. لقد ولدنا في الظلام.

بما أن التأثير الأكبر لتغير المناخ على النظم البيئية والبشرية حصل في الخمسين سنة الأخيرة، ويقدّر حجمه بمليارات من الطاقة الحرارية المضافة الى نظام الأرض، علينا أن نفكر بالعقود الخمسة المقبلة.

كشف متأخر

في عام 2015، كشف صحافيون استقصائيون عن وثائق داخلية تعود الى شركة “إيكسون موبيل” النفطية العملاقة، وتحتوي على معرفة تامة بالأضرار التي تلحقها صناعات الوقود الأحفوري بحرارة مناخ الأرض. كان متوسط الاحترار المتوقع في وثائق الشركة يتراوح بين 0.20 الى 0.04 درجة مئوية لكل عقد، وهي، من دون اليقين، التوقعات الأكاديمية والحكومية المستقلة نفسها التي نُشرت في العقود الأخيرة.

 تتعلق الوثائق التي أخفتها الشركة عن الصحافة والرأي العام لعقود، بآثار بيئية دراماتيكية تتركها صناعات الوقود الأحفوري قبل عام 2050. وهناك وثائق إضافية تُظهر أن أكبر اتحاد تجاري لصناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة كان يعلم بالآثار ذاتها منذ خمسينات القرن الماضي على الأقل. وفي السياق ذاتها، كانت البحوث في قطاع صناعة الفحم تشير الى النتائج التي توصلت اليها “إيكسون موبيل” منذ الستينات، أما المرافق الكهربائية، وشركة توتال للنفط، وشركات محركات جنرال موتورز وفورد، فكانت على علم بذلك كله منذ بداية السبعينات على الأقل. 

حلّل العلماء والصحافيون النصوص الواردة في وثائق الشركة، ووجدوا روايات نوعية عن معرفة الباحثين الذي قدموا تصوراتهم العلمية عن تغير المناخ وآثاره لصالح الشركة. من الناحية الأولى، بدا برنامج أبحاث المناخ المكثف للشركة موثقاً جيداً. من الناحية الثانية، كانت الوثائق تحتوي على مجموعة كبيرة من التوقعات سجلتها “إيكسون موبيل” بشأن الاحترار العالمي، ما سمح للعلماء بتطوير صورة متماسكة وفهم مبكر لعلوم المناخ من جهة صناعية واحدة. وتحدت الشركة تلك التحذيرات العلمية كلها واستمرت في نشاطاتها، فضلاً عن إخفاء المعلومات عن الصحافة والرأي العام.

أعشاش حرارية على الكوكب

بعد مرور خمسة عقود على إجراء تلك البحوث وإخفاء نتائجها، نبدو نحن البشر وكأننا نقيم في أعشاش حرارية على اليابسة كما في البحار. ومن الآن فصاعداً، أحسب عُمري وعمر جيلي بناءً على كم الخسائر الملحقة بالأرض والمخاوف الوجودية التي أصبحت مقاساً لتعداد السنوات والعقود. 

أحسب بأن العام الذي ولدت فيه، ليس موصولاً باليوم من الناحية الزمنية؛ بل إنه موصول بـ 25 مليار قنبلة نووية قادرة على إخراج الأرض من منطقة الاعتدال المناخي وإنهاء الحياة فوقها. ولكن لماذا وكيف؟

منذ القرن التاسع، تواصل البشرية إخراج الوقود الأحفوري من مخازنه الآمنة في أعماق الأرض وحرقه بغية توليد الكهرباء وتشغيل آلات الطاقة والمزيد من رؤوس الأموال، ناهيك باستخدام مفرط للغاية للموارد الطبيعية الأخرى. 

بذلك، حولت الفحم والنفط والغاز إلى أكثر من تريليوني طن من ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى وأطلقتها إلى الجو. وجعلت من الغابات الطبيعية مصانع لإنتاج مزيد من اللحوم وتكديس الغذاء في المخازن. لقد خرّبت البشرية الغلاف الذي يحمي الأرض منذ مليارات السنين؛ ألا وهو الغلاف الجوي. 

إن دلّ ذلك على شيء إنما يدلّ على أن الحضارة البشرية، ومنذ الثورة الصناعية الأوروبية التي نجمت عن اختراع المحرك البخاري في بريطانيا (1712)، تواصل زرع أعشاش حرارية على الأرض وفي مياهها. ترليونان طن من الغازات المحتجزة للحرارة على الأرض؛ إنه رقم مهول يُضاف الى تاريخ الحضارة البشرية، ومن شأنه تسخين بحارنا الى نصف الغليان في القرون المقبلة. ماذا يحدث؟ 

ارتفع متوسط درجة الحرارة على سطح الكوكب بنحو 1.2 ℃ مما كان عليه في عصر ما قبل الصناعة. وذلك لأن إضافة غازات دفيئة جديدة إلى دورة الغازات الطبيعية في الغلاف الجوي، تسببت في حصول خلل كبير في كمية الطاقة التي تدخل نظام الأرض وتخرج منه. علماً أن الكوكب بأكمله يتطلب قدراً كبيراً وغير عادي من الطاقة الإضافية كي يسخن، إنما تمكنت البشرية في الـ 50 السنة الماضية من إضافة كميات من الطاقة الى نظام مناخ الأرض توازي 25 مليار قنبلة نووية.

هل نقترب من كوكبي الزهرة وعطارد؟

والحال هذه، هل نقترب من كوكب الزهرة من ناحية الحرارة؟ يقتضي الأمر هنا قليلاً من الشرح. فنحن نعيش على ثالث أقرب كوكب الى الشمس، ويفصلنا عنها كوكبا عطارد والزهرة. وما يساعدنا على البقاء، هو أن الغلاف الجوي يتكون من غازات (ثاني أكسيد الكربون، ميثان، نيتروجين، ذريات المياه. الخ) تحبس الحرارة وتحمي الأرض من التجمد، ولكن إذا ازدادت كثافة هذه الغازات الدفيئة، فستؤدي الى تسخين الكوكب وإخراجه من منطقة الاعتدال. تمنع الغازات المذكورة تجمد الأرض تحت 18 درجة مئوية وتحميها في تخوم 14 درجة مئوية، ما يتيح الحياة والسكن للأنواع. 

تبلغ درجة الحرارة على كوكب الزهرة، وهو ثاني أقرب كوكب الى الشمس بعد كوكب عطارد، 471 درجة مئوية؛ أي 33 مرة أعلى من حرارة الأرض، وذلك بسبب سمك غلافها الجوي واحتجازها قدراً أكبر بكثير من الغازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجوي للأرض. في المقابل، تبلغ درجة حرارة الكوكب الأقرب الى لشمس وهو عطارد، 167 درجة مئوية، أي 12 مرة أعلى من حرارة الأرض. ويرجح العلماء أن كوكب عطارد رغم أنه الكوكب الأقرب الى الشمس، جعله افتقاده الى الغلاف الجوي أقل سخونة من الزهرة. 

على رغم بعد كوكبنا من الحالتين المذكورتين، نسير على طريق خاطئ من ناحية استخدامنا الموارد الطبيعية وإطلاق الغازات المحتجزة للحرارة. إننا نضيف الوقود الى عود ثقاب أشعلته الثورة الصناعية قبل 200 سنة.

أين تذهب الغازات الدفيئة على الأرض؟

 مليارات من القنابل النووية أدت الى ارتفاع حرارة الأرض 1.2 درجة مئوية فوق حرارة المناخ الطبيعي قبل الثورة الصناعية، ابتداءً من عام 1850. إنه ارتفاع قد لا يعني شيئاً في اعتقاد كثيرين، ولكنه يعادل 25 مليار قنبلة نووية بحسب بحث جديد. إنه رقم مهول حقاً، إنما كيف بقيت الأرض الى يومنا هذا والى أين ذهبت هذه الطاقة كلها؟

لقد تم إطلاق هذه الطاقة الهائلة خلال الخمسين السنة الأخيرة فقط، وهي تبلغ 25 مليار ضعف الطاقة التي ولّدها قصف مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945 بحسب ورقة علمية نشرتها الطبعة الكندية من موقع The Conversation.

الإجابة ببساطة، أن المحيطات تمتصّ ما يقارب 90 في المئة من الانبعاثات، تليها الأرض وغطاؤها النباتي حيث تخزن نحو 6 في المئة من الغازات ومن ثم الغلاف الجوي الذي يلتقط 1 في المئة منها، فيما يتيح المتبقى منها إذابة الغلاف الجليدي. وقد أشار التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، الى تغييرات غير مسبوقة في نظام الأرض نتيجة الاحترار العالمي المدفوع بالنشاط البشري على مدى عقود متعاقبة؛ مع آثار سلبية على النظم البيئية والبشرية. 

وفيما يعد اختلال توازن طاقة الأرض من أهم مؤشرات المناخ العالمي، إذ يُمكّن الهيئات العلمية من استخدامها بغية السيطرة على أزمة المناخ، تعتبر المحيطات مقياساً للاختلال ذاته، ذلك أنها تخزن القسم الأكبر من الطاقة الناجمة عن النشاط البشري. من شأن هذه الطاقة الحرارية الهائلة الناتجة أن تعمل على حموضة مياه المحيطات وتسخينها، ما يهدد التنوع الأحيائي المائي والشعاب المرجانية، فضلاً عن تأثيرها المباشر على النظم البيئية الأرضية والبشرية.

ما العمل؟

لا يمكن المقارنة بين حرارة كوكبي عطارد والزهرة، ولكن يعد خروج الأرض من منطقة الاعتدال واختلال نظامها المناخي مؤشراً خطيراً إلى مستقبل النظم البيئية والبشرية. لقد عززت البشرية بالفعل كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بنحو 50 في المئة، علاوة على كميات كبيرة من الميثان وأكسيد النيتروجين. وتشير دراسة حديثة إلى أن عدم توازن الطاقة على الأرض يعادل حبس ما يقارب 193 درجة مئوية من الحرارة الزائدة على الأرض في الفترة الواقعة بين 1971-2020؛ أي أن 60 في المئة من جميع الانبعاثات أُطلقت الى الغلاف الجوي خلال العقود الخمسة الأخيرة. 

وإن نمّ هذا عن شيء انما ينم عن ان الغازات المحتجزة للحرارة والتي تحافظ على برودة وحرارة كوكبنا في كثافتها الطبيعية، وصلت الى مستوى بإمكانه إحداث اختلال كبير في توازن طاقة الأرض. وهناك بطبيعة الحال عوامل طبيعية مثل البراكين والسحب العالية وتيارات المحيطات، تؤثر على درجة حرارة الأرض. إنما يتفق علماء الطبيعة والمناخ على قدرة الأرض وغلافها الجوي على التخلص من انبعاثات الظواهر الطبيعية. تكمن الخطورة في ازدياد سماكة الغازات الدفيئة أكثر مما هي عليه الآن في الغلاف الجوي وفي ارتفاع درجات الحرارة بين 1.5 الى 2.0 فوق حرارة العصر ما قبل الصناعي. في هذه الحالة، قد تختفي نصف الأنواع (النبات والحيوان) على الأرض، ما يشكل بوادر انقراض شامل للأنواع في البحار وعلى البرّية. 

يبدو أن التوصّل الى اتفاقية دولية من شأنها خفض الكربون الى الصفر، أمر صعب في الوضع الدولي الراهن، لذلك يراهن العلماء على اتفاق دولي يضمن صافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، أي يضمن التخلص من الكربون بالقدر نفسه الذي نولّده أو نطلقه الى الغلاف الجوي. وعلى العكس من ذلك، سنشهد المزيد من الاحترار العالمي فيخرج بذلك توازن الطاقة على الأرض عن السيطرة. 

وبما أن التأثير الأكبر لتغير المناخ على النظم البيئية والبشرية حصل في الخمسين سنة الأخيرة، ويقدّر حجمه بمليارات من الطاقة الحرارية المضافة الى نظام الأرض، علينا أن نفكر بالعقود الخمسة المقبلة، ذلك أن البشرية مستمرة في توليدها الانبعاثات الحرارية. تالياً، في أي مناخ يجد المولود الجديد نفسه في عام 2050؟ لم يطرح أحد مثل هذا السؤال حين ولدت وولد جيلي، إنما نحن محكومون بطرحه اليوم، لأن أعمارنا أصبحت رهينة قنابل بيئية مزروعة في البحار.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.