fbpx

اللاجئون السوريون في لبنان… حرب “الخرافات” والخرافات المضادة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذه المعركة كانت لتنتهي في أرضها لو كان الخيار اختزالياً حقوقياً بحتاً بين ثنائيات لا ثالث لهما: مع حقوق الإنسان أو ضد حقوق الإنسان. مع بقاء اللاجئين السوريين أو مع ترحيلهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هي معركة محتدمة منذ أشهر، على خلفية موجة المداهمات والاعتقالات والترحيل القسري التي يقودها الجيش اللبناني. لذلك كان لا بد من انتظار خفوت عاصفة الكراهية نوعاً ما، قبل الخوض في النقاش حول لبنان واللاجئين السوريين، بعيداً من الألغام التي زرعت هنا وهناك، عن قصد أو من غير قصد.

هذه المعركة كانت لتنتهي في أرضها لو كان الخيار اختزالياً حقوقياً بحتاً بين ثنائيات لا ثالث لهما: مع حقوق الإنسان أو ضد حقوق الإنسان. مع بقاء اللاجئين السوريين أو مع ترحيلهم.

هي معركة تربك كل من يبتعد فيها من المشهد العام، ويخوض في القصص الفردية، والتفاصيل الشخصية لعائلات شرّدت من سوريا، وأطفال يتعرضون لعنف ممنهج، وأفراد تنتهك حقوقها الأساسية.

هي معركة اتخذت فيها الأطراف المتناحرة من اللاجئين واللبنانيين دروعاً بشرية لها، متنقلة بين الضحايا وبين السكان العنصريين أو بين الضحايا وبين جيش الكتروني يحتفل مع كل ترحيل قسري، أو في المقلب الآخر، مع كل هدف يسجّل في مرمى العنصريين وكارهي الغرباء.

وقد استخدمت الأرقام والإحصاءات لإطلاق الصواريخ ضد الرأي الآخر، موحية للمتابع بأن الأرقام مقدّسة وغير مسيّسة، وأنها علمية وموضوعية، وأنها من يظهر الحقيقة المطلقة، والأخيرة مفهوم لا يحمي اللاجئين ولا المواطنين ولا يُبقي على الحدّ الأدنى من الأمان الاجتماعي.

لكنّها معركة من الضروري التفلّت من ثنائيات الخير والشر التي تتحكم فيها. ومن شعاراتها الأخلاقوية وإسقاطاتها العنصرية والمتسرّعة في الحكم على كل من يحاول أن يفصح بأن الثقل الديموغرافي لا يمكن التغاضي عنه. فهو ثقل يُسقط كل المقارنات بين لبنان والأردن ومصر وتجارب دول أخرى، فلبنان يضم أكبر عدد من اللاجئين للفرد الواحد بحسب المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين. لا تجدي المكابرة على هذا الثقل.

من هنا لزوم التفلت من موجة الخرافات والخرافات المضادة التي أطلقتها مجموعات مختلفة. ليس المقصد هنا محاولة إشهار “الحقيقة المطلقة” بوجه الخرافات. إنما الهدف القول بأن ما هو واقع وحاصل ومعاش بعيد كل البعد عن المعارك الاختزالية. فهي ليست معركة أخلاق مجردة، ولا معركة حقوق إنسان فحسب، ولا هي معركة مع العنصرية فقط، بل هي قضية مركبة تحتاج أن نتنقّل فيها بين وجهات النظر المختلفة من أجل فتح نقاش صريح، بعيدا من المكابرة والمواقف الحادّة– وطبعا بعيداً من الكراهية والعنصرية، وهنا لا يقتصر الحديث على جيش إلكتروني، بل يشمل لغة المواطن العادي المتذمّر والخائف من وجود اللاجئين السوريين بهذه الأعداد، وبخاصة مع انسداد أفق العودة الطوعية الآمنة.

سرديات…

ظهرت ضمن مجموعات مختلفة واحدة تروّج لسردية أن اللاجئين السوريين هم من أوصلوا لبنان إلى أزمة لن يجد مخرجاً له منها إلا بخروجهم منه. وثمة مجموعة أخرى ذهبت بعيداً عندما اختارت أن تركّز على الأثر الإيجابي لوجود اللاجئين السوريين على الاقتصاد اللبناني. وتتفرع عنها سردية أكثر خفوتاً، اختارت أن تروّج لنظرية اللاأثر – أي محدودية تأثير وجود اللاجئين السوريين على أحوال الاقتصاد والمعاش في لبنان.

وهناك مجموعة ثالثة لا تخوض في هذا السرديات بل تركز على مقاربة حقوقية إنسانية، وعلى ضرورة حماية اللاجئين السوريين من خلال الإطار العالمي لحقوق الإنسان والقانون الدولي وتشعباته. لكن هذه المجموعة باتت تستخدم أسلوباً أخلاقوياً ينزع إلى الفوقية، بحيث يستبعد حيناً، ويحمل أحياناً كثيرة بقسوة على أي تردد أو استفسار يبدأ بـ”لكن”. فيتم إسكات أي مستفسر مع إلقاء تهمة العنصرية عليه، واتهامه بالوقوف ضد لاجئين عزّل هربوا من بطش ديكتاتور. 

بحسب هذه المجموعة، على سبيل المثال، هذا النوع من الاسترسال هو من المحرّمات: “لكن” هل يستطيع لبنان أن يتحمّل هذا العبء؟ “لكن” كيف سيؤثر وجود هذه الكتلة الديموغرافية على البلد؟ الخ. الـ”لكن” محرّمة في هذه المجموعة وقد أصبحت أدواتها القانونية أقرب إلى أدوات فوقية تستبعد أي نقاش حقيقي وغير مفتعل يعبرّ عن هواجس حقيقية للمواطن العادي الذي ما عاد كافياً أن تقول له إن “لبنان بصفته دولة هو طرف في “اتفاقية مناهضة التعذيب” يلتزم بعدم إعادة أو تسليم أي شخص معرّض لخطر التعذيب، وبمبدأ عدم الإعادة القسرية المكفول في القانون الدولي العرفي الذي يقضي بعدم إعادة أي شخص إلى مكان قد يتعرّض فيه لخطر الاضطهاد أو غيره من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”. فهذا المواطن العادي يسأل عن مستقبل لبنان في ظل أزمة اقتصادية-مالية طاحنة، لكن أيضا في ظل أزمة وجود هذا الثقل من اللاجئين، حيث أن المنظمات الدولية تخبرهم أنه في مقابل كل أربعة مواطنين هناك لاجئ سوري لا يبدو أنه سيعود قريباً. 

وتتخذ السرديات حول أثر وجود اللاجئين السوري من الأرقام وقوداً لها، مروّجة لمجموعة خرافات وخرافات مضادة، متناسية أن الأرقام تنتجها إطارات تحليلية تختار أن تركّز على معطى معيّن، وأن تغضّ النظر عن معطيات أخرى في لعبة تمتهنها المؤسسات التي تروّج لأجندات معيّنة. ومصطلح أجندات غير مستخدم هنا بالمعنى السلبي، انما بمعناها الحرفي – هذا على الاختلاف في الموقف من هذه المؤسسات وأجنداتها.

حرب أرقام ونظريات

في ما يلي، خمس نقاط شائكة تقتحمها الخرافات والخرافات البديلة التي تمّ الترويج لها. مع محاولة لتفكيكها، ليس بهدف محاسبة مروّجيها بل بهدف ايضاح أن لا أحد يربح هذه المعركة من خلال لعبة الأرقام، وأنه من الأفضل التوقف عن زرع ألغام إحصائية هنا وهناك، والأجدى استبدال هذا الجهد المهدور بالسعي إلى فتح نقاش مجتمعي حول وجود اللاجئين السوريين بعيداً من ثنائية الخير والشر:

     المكابرة على الثقل الديموغرافي وسؤال الهوية.

يعتبر عدد اللاجئين للفرد في لبنان أحد أكبر تجمعات اللاجئين للفرد الواحد في العالم. هذا المعطى الديموغرافي يتطلب مقاربة لإدارة الأزمات لا يقتصر على الجانب الإنساني  – وهو واجب – ولا على حركة ديبلوماسية ضيقة تشمل رؤساء أحزاب ووزراء وقيادات روحية بل يتطلب مقاربة مجتمعية لا تتجاهل الأسئلة والمخاوف التي يراها المواطن العادي مشروعة. وبعيدا عن الحملات الممنهجة لجيش الكتروني تحركه أجندات سياسية-حزبية، يطرح المواطن هذه الأسئلة: هل بات لبنان وطناً دائماً للاجئين السوريين؟ كيف سيؤثر وجود هذه الكتلة من غير المواطنين في الهوية الوطنية والخريطة الديموغرافية والاجتماعية للبلاد؟ وأسئلة أخرى حول العادات والتقاليد وقد يكون طابعها يمينياً ولكنها تُطرح، فهل من يجيب عليها بهدوء؟

بالطبع ليس هناك شك بأن لبنان أبعد ما يكون عن هوية وطنية مشتركة وتختلف فيه العادات والتقاليد وأساليب العيش تتراوح بين المحافظ والمتحرّر، فالوضع أقرب إلى فسيفساء هويات متنقلة وعابرة لأطر محددة ويحكمها نظام سياسي طائفي وتتأثر بحسابات الجيوسياسية والانتماء الطبقي أحيانا.

ومع ذلك، لا يسع المرء إلا أن يفكّر في أثر 1.6 مليون لاجئ سوري في البلاد على خريطة لبنان الاجتماعية وهوياته المتعددة، آخذين في الاعتبار أبعاداً كثيرة مثل البعد الحضري- الريفي، بالنظر إلى أن معظم اللاجئين السوريين جاءوا من ريف سوريا وضواحيها (القلمون وريف حمص وريف دمشق، إلخ) والانتماءات الطائفية علماً أن معظم اللاجئين السوريين هم من المسلمين السنة. 

لبنان وطن غير اختياري لجيل الثورة- الحرب السورية.

بحلول عام 2016، استقبل في لبنان ما يقرب من نصف مليون طفل في سن الدراسة وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولكن نصفهم تقريباً خارج المدرسة. وقد ازداد هذا الوضع سوءاً مع ممارسات تمييزية ومجحفة قامت بها وزارة التربية والتعليم في لبنان، وهدفها إعاقة حق الطالب السوري في الحصول على التعليم مثل طلب وثائق رسمية لا يستطيع معظم السوريين الحصول عليها من سوريا، وقد سلطت منظمة “هيومن رايتس واتش” الضوء على هذه الممارسات داعية وزارة التعليم لرفع العقبات.  

إضافة إلى الممارسات التمييزية، فإن تكاليف النقل وتدهور الوضع الاقتصادي المالي في لبنان وفشل السلطة اللبنانية في إدارة أزمة التعليم الرسمي أدى إلى انقضاء العام الدراسي الحالي. والنتيجة، فإن تعداد الأطفال السوريين في سن الدراسة في تزايد، إذ ارتفع العدد إلى 660 ألف طفل سوري لاجئ، ولكن بحسب تقييم للأمم المتحدة، فإن ثلثهم لم يذهب إلى المدرسة قط وأكثر من نصفهم (60 في المئة)، لم يتسجل في المدرسة خلال السنوات الأخيرة. وهؤلاء الأطفال الذين يُحرمون من التعليم لم يعرفوا وطناً غير لبنان، فهم جيل الثورة- الحرب السورية، وهذا العدد كفيل بجعل الموضوع مركباً لبعض المواطنين اللبنانيين ونقاشات حول الدمج التعليمي وغيره قد أصبح من الملحّ طرحها بواقعية. 

3- الأثر الإيجابي- السلبي للاجئين السوريين على الاقتصاد اللبناني. 

منذ بداية حركة النزوح السوري باتجاه لبنان عملت جهات عدة على الخوص في أثر هذا النزوح على الاقتصاد اللبناني. وطبعاً سعت الطبقة السياسية في لبنان لاستخدام وجود اللاجئين السوريين ككبش محرقة. فمثلاً، غالباً ما كان يطلّ علينا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للحديث عن عبء اللاجئين السوريين وذلك قبل الأزمة المالية- الاقتصادية في لبنان. وقد استغل رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل هذه القضية للتفلّت من أي نقد ذاتي يوجّه لعهد ميشال عون، وفي بداية عام 2023 تحدث أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله عن اللاجئين السوريين كجزء من الحصار الأميركي على لبنان. 

طبعاً، في ظل مقاربات استغلالية وتسييسية هدفها الرئيسي التفلّت من المسؤولية وإلقاء العبء على الآخر الغريب، يصبح من الصعب تقديم وجهة نظر مغايرة. وما يزيد من هذه الصعوبة هي طفرة الدراسات التي تدفقت ما قبل الأزمة الاقتصادية- المالية والتي سعت إلى تضخيم الأثر الإيجابي لوجود اللاجئين السوريين على الاقتصاد اللبناني. ففي عام 2015، أظهرت دراسة مشتركة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أنه في مقابل كل دولار يُنفق على الاستجابة الإنسانية، يضاف 50 سنتاً إلى الاقتصاد اللبناني وأنه مقابل خسائر بلغت 1.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، كانت هناك استفادة موازية من خلال المساعدات الإنسانية.

استخدمت هكذا مقاربات للقول إن الطبقة السياسية هي من حالت دون  تعميم الفائدة عبر ممارسات فاسدة واستغلال للمساعدات. وهناك أيضاً مقاربات ركزت على أثر وجود اللاجئين على ارتفاع واردات الضرائب غير المباشرة الخ. 

لكن هذه المقاربات التي تسلط الضوء على النص الممتلىء تتبنى مقاربة ضيقة لكيفية قياس أثر اقتصادي ما، خاصة على المالية العامة والاستثمارات وسوق العمل الخ. ومعركة الأرقام يمكن أن تأخذ اتجاهات متناقضة. فمثلا، بالتوازي مع دراسات تتسم بالإيجابية، كان يحذر البنك الدولي في دراسة نشرها عام 2013 من التأثير السلبي لوجود اللاجئين السوريية، حيث أنه أدى الى تقلص الناتج المحلي بحدود الـ2.9 في المئة وحذّر من أن هذا الوجود سيؤدي إلى انزلاق 170 ألف لبناني إلى تحت خط الفقر، بسبب التنافس في سوق العمل غير الرسمي وارتفاع أسعار السلع الأساسية الخ.

والهدف من هذا العرض الموجز القول بأن اختلاف المنظار التحليلي سيصدر عنه اختلاف في نتائج قياس الأثر ولذلك من السهل الترويج للخرافات.

4- العمالة السورية وأثرها على اليد العاملة اللبنانية

في مقابل دعوة سياسيين ومجموعات عدة رب العمل اللبناني إلى عدم توظيف عمالة سورية ومناشدات عنصرية بحقهم، هناك دعوات ترحيبية تفتح ذراعها بلا شرط وتلقي اللوم على غياب الرقابة في سوق العمل اللبناني. وتعتمد الأخيرة على بعض الدراسات التي تدرس أثر العمالة السورية والتي تظهر أن لا أثر للأخيرة على سوق العمل اللبناني. فمثلاً، هذا ما تروّج له دراسة نشرها عام 2021 المجلس العالمي للاجئين والهجرة (World Refugee and Migration Council)، والتي تقول إنه لا أثر لوجود اللاجئين السوريين على نتائج السوق العمل اللبناني، إلا أنها تختصر الأمر بمؤشرين هما نسبة البطالة وحجم اليد العاملة اللبنانية واللذان يرصدان التغير في السوق العمل الرسمي إلا أنهما بطبيعة الحال يغفلان الجانب غير الرسمي. فكيف يمكن لوجود هذا الثقل الديموغرافي، حيث أن حوالي نصف الكتلة تصنّف أنها ضمن فئة السن العمل القانوني وفق تقدير نشرته منظمة العمل الدولية في بداية الأزمة، أن لا يؤثر على السوق غير الرسمي؟ 

طبعاً يمكن أن يجادل المرء بأن هذه مسألة تتعلق بتنظيم سوق العمل، لكن حوكمة المؤسسات في لبنان ضعيفة لأسباب كثيرة، وهذا يشمل بطبيعة الحال سوق العمل، ولذلك لا يمكن تصور أن الوضع سيتحسن بفعل تراكم الأزمات. 

في الختام، ليس الهدف من تسليط الضوء على هذه القضايا الأربع هو اختزال ما يحصل على الساحة اللبنانية ولا الاستخفاف بالمقاربة الحقوقية وهي ضرورية من أجل حماية من تجب حمايتهم، ولكن الهدف هو القول بأن أي مقاربة تستبعد هواجس المواطن العادي وتدخله في لعبة أرقام وأرقام مضادة وإطارات حقوقية لا تناقش هواجسه وتستبعد تعبيره عن القلق تحت مسميات عنصرية، هي مقاربة قاصرة عن حماية أصحاب الحقوق. نعم للثقل الديموغرافي انعكاسات ولبنان ليس الأردن ولا مصر – لا بحجمه ولا بتركيبته ولا بعلاقته المقعدة مع سوريا.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!