fbpx

أنا الرقم 56 في طوابير الأمم المتحدة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

فجأة، دق الباب، الكلمة الأولى التي سمعناها كانت “سوريين؟”، أجاب أبي بنعم وفقدت أنا قدرتي على الوقوف من شدة الخوف. طلب الشرطي أوراقنا الثبوتية ودق زميل الشرطي الباب على جارنا السوري الآخر وطلب منه الأوراق، كدت أسمع صوت صرير أسنان أولاد الجيران.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان عليّ أن أكتب في لحظة ما، الكتابة تسرق القليل من العدالة للمظلومين وتحفظها في مكان علنيّ تحميه الجموع والذاكرة، فلا يطاوله الظالم. الكتابة آخر أسلحة السوري، نحن الشعب الذي لم تبقَ له أرض يعود إليها، ولا مكان يهاجر إليه. ترفضنا كل البلاد حتى بلادنا، نقف في طوابير الجمعيات حتى نضمن أن نكون رقماً على الأقل، بعدما فشلنا بالاحتفاظ باسم ودم ولحم. الكتابة مركبٌ يحملنا جميعاً من دون أن يغرق، وملجأ لا يحتاج الى تأشيرة أو إقامة. في وقت ما، كان يجب أن أكتب، فإن متُّ غداً، أموت فارغة خفيفة، يحمل نعشي أصغر لاجئ.

قرر والداي منذ بضعة أشهر، التسجيل في مفوضية الأمم المتحدة كلاجئين سوريين في لبنان، علماً أننا هنا منذ عشرين عاماً على الأقل. لكن بعد عام 2011، أصبح جميع السوريين لاجئين فعلاً، حتى داخل سوريا. عارضت بدايةً، أنا لست لاجئة، لا يكون الإنسان لاجئاً في بلاد شكّلت أول مفهوم في رأسه عن معنى الوطن والشعب والحياة، لم أتحمل في البدء فكرة أن أكون لاجئة في البلاد التي تعلمت فيها كيف أقرأ وأكتب وأعد أرقامي الأولى، لأكبر لاحقاً وأكتب يافطات أحملها في شوارع العاصمة دفاعاً عن حقي وحق الشعب الذي كبرتُ وسطه. 

كي لا يساء فهمي، أنا أحب كوني سورية، أو على الأقل تعلمت مجدداً كيف أحب بلاداً أحمل معاناتها معي أينما أذهب. ثم قليلٌ من التخلّي عن الأفكار المثالية والعواطف التي لم تصلح شارعاً في مدينة، حتى قررت أن أذهب لأبصم في مكتب الأمم المتحدة وأصبح أمام القوانين الدولية، لاجئة. 

حددت المفوضية العليا للاجئين موعد اللقاء الأول معنا في كانون الأول/ ديسمبر من العام المنصرم. استيقظتُ صباحاً وتحدثت مع نفسي مطولاً كي أستعد وأذهب مع أهلي لأطلب اللجوء بعد عشرين عاماً على وجودي هنا. عندما وصلنا، كان طالبو اللجوء من سوريا يفترشون الأرصفة، عائلة هنا وعائلة هناك وعامل هنا وآخر هناك، أم ترضع طفلها هنا وأخرى تغمر طفلها من البرد هناك، جلست مباشرة على أول رصيف شاغر، الى يساري أمّي تسأل امرأة عن مجريات النهار وآلية التسجيل ومدة الانتظار، وفوق رأسي أبي ينتظر من دون أية تعابير في الوجه. 

الكتابة آخر أسلحة السوري، نحن الشعب الذي لم تبقَ له أرض يعود إليها، ولا مكان يهاجر إليه.

نصف ساعة مضت وأنا أراقب العالم وأضحك في وجههم كي أحمل معهم ثقل النهار، ثم سمعنا أول صوت للمسؤولين عن “تنظيمنا”: اللي موعدن عالعشرة يجوا يوقفوا بالصف”. ذهبنا لنقف في صف لا تكفيه الأرصفة، في أول الطابور رجل يحمل أرقاماً يوزعها علينا، ثم يقول بملل “اللي بعده”. مشيت في الدور وشكرت الرجل ودخلت الى المقرّ، حيث قابلتنا سيدة حجزت على أمتعتنا لتنقلنا بعدها إلى ساحة كبيرة كملعب كرة القدم، حيث توزعنا مرة أخرى على طوابير جديدة ورقم جديد يخولنا أخذ موعد لرقم أكثر جدة. آخر رقم مثّلني كان يحتم علي انتظار مئة وعشرين شخصاً أمامي، فانتظرت.

 في الداخل، كانت هناك مقاعد ومئات من السوريين ينتظرون بلا ملامح أبداً، الأطفال يركضون أمام عيون أهاليهم، الموظفون يحاولون احترامنا وعدم التأفف في وجهنا، والأهل… الأهل يضحكون في وجه أولادهم ويبكون سرّاً.

 بضع ساعات مضت وأنا أنتظر، ثم رأيت رقمي على الشاشة، وكأنه مفتاح الجنة أخيراً. دخلت مع أهلي لتقابلنا سيدة لطيفة جداً، سألتنا بضع أسئلة يظهر أنها حفظتها عن ظهر قلب، وأدخلت معلوماتنا في سرعة فائقة قبل أن تشكرنا على الحضور وتشرح لنا أن السفر فكرة بعيدة، وأن بطاقة المساعدات تحتاج الى وقت أيضاً، ثم ختمت حديثها “أنتم الآن تحت حماية الأمم المتحدة، ولا يستطيع أحد ترحيلكم من هنا”. 

هذه الجملة كانت كل ما أحتاج، أن أتخلص من قلق الحواجز والإقامة وفكرة الترحيل القسري. فأنا لا أريد أن أسافر ولا أريد المساعدات التي لا تكفي العائلة الصغيرة إلا يومين. وللمناسبة، نحن لا نتقاضى مبالغ بالدولار كمساعدة من الأمم المتحدة، نحن نعمل ضعف الوقت ونجهد أضعافاً كي نضع الطعام على المائدة. 

كنت أود أن أكتب مقالاً أخبركم فيه عن حقيقة كل شيء، لكن الحقيقة أوسع من مقالي الصغير، تنتشر في كل زاوية من هذه البلاد، مكتوبة في كل مكان بوضوح، من يريدها لن يحتاج الى أن يبحث عنها حتى، الحقيقة هي من تبحث عنا اليوم، إما نواجهها أو نشيح بعيداً. 

اليوم، لا يكاد يمر أي عدد من أي جريدة من دون خبر ترحيل السوريين. البعض رُحّلوا من بيوتهم، قبل عودة أطفالهم من المدرسة. لا يعيش السوري أكثر من بضع سنوات في المكان نفسه، هناك زائر سيطرق بابه حتماً ويخرجه للمجهول، في الأمس سياسات مفقّرة وبعدها حرب وسلاح والآن جيوش البلاد المستضيفة. 

للمناسبة، نحن لا نتقاضى مبالغ بالدولار كمساعدة من الأمم المتحدة، نحن نعمل ضعف الوقت ونجهد أضعافاً كي نضع الطعام على المائدة.

أمضيت  الأيام الأولى من هذه الأحداث أبحث عن بيان للأمم المتحدة تطمئننا فيه أنها لن تسمح بترحيلنا كما وعدتنا. مرت أيام وعشرات الأخبار، طفلة عادت الى المنزل فلم تجد أهلها الذين رُحلوا قبل عودتها من المدرسة، شابّ انتحر خوفاً من تسليمه لأجهزة الدولة السورية، عائلات فقدت الصلة مع ذويها بعد ترحيل نصف من دون الآخر، عدد من الذين رُحلوا فُقدوا بعد عبور الحدود السورية، سوريون يتعرضون للضرب هنا وهناك، عشرات اليافطات المعلقة على جوانب الطرقات تتوعد للسوريين وتشتمهم، مئات الرجال والنساء فقدوا أعمالهن/هم خوفاً من التجول في الطرقات، مداهمات للجيش اللبناني للبيوت والورش والمخيمات، تسكير محلات يعمل فيها سوريون، منع تجول، عدم السماح لتأجير سوريين، حواجز هنا وهناك تسحب السوريين من الباص، عشرات المقالات المضللة والحاقدة والعنصرية، آلاف المنشورات التحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي… وأنا أبحث يومياً عن بيان تحتاج كتابته الى نصف ساعة وقرار واحد حازم.

فقدت قدرتي على البحث والانتظار، وفقدت قدرتي على خوض نقاشات يومية أبرئ فيها شعبي من فقر هذه البلاد، ثم فقدت قدرتي على التماسك وأنا أذهب الى عملي في بيروت، وفقدت شغف الخروج من غرفتي خوفاً.

فجأة، دق الباب، الكلمة الأولى التي سمعناها كانت “سوريين؟”، أجاب أبي بنعم وفقدت أنا قدرتي على الوقوف من شدة الخوف. طلب الشرطي أوراقنا الثبوتية ودق زميل الشرطي الباب على جارنا السوري الآخر وطلب منه الأوراق، كدت أسمع صوت صرير أسنان أولاد الجيران. بضعة أسئلة في دقائق قليلة كانت كفيلة في قتل أعصابي، فكرت فيها أن أتصل بأصدقائي لأودعهم للمرة الأخيرة، وفكرت في الأشياء التي أستطيع حملها معي لسوريا، وفكرت إن كانت ثيابي لائقة كي أتحمل الطريق، ثم رحل الشرطي من دون ترحيلنا.  منذ تلك الليلة، ألبس في الليل ثياباً أنيقة ومريحة وتبعث على الدفء، أضع شنطة فيها أهم الأشياء وأخفّها، منذ تلك الليلة وأنا أرى بيتنا نعمة أخاف ألا تدوم، أقدر كل مشهد صغير فيه حتى ولو كان فوضوياً، أودع تفاصيله كل ما سنحت لي الفرصة… تماماً كما فعلت وقت الزلزال الكارثي، قبل أن أتعلم أن الزلزال قد يكون قراراً. 

اليوم، أعلم أنني مهما تعلمت ومهما حفظت مشاهد وذكريات في هذه البلاد، سأبقى لاجئة، وتعلمت ألا أكره هذه الصفة لمجرد أنني أخشاها. أوّد أن أقول الكثير بعد وأن أكتب عن كل شيء، لكنني في طابور جديد في الأمن العام، أنتظر رقماً كي أصبح قانونية، لكن المعاناة لا تتسع في مقال. ومع هذا، أنا أكتب، في وقت ما كان عليّ أن أكتب، الكتابة آلة زمنية تضمن وجودنا في المستقبل، حتى ولو على شكل قصة تتداولها الجدات عن شعب جال الأرض مظلوماً، المهم أن نبقى… أنا حقاً أخاف ألا نفعل.