fbpx

الإدارة السياسية للتنوّع الديني في مصر… لا دين إلا بما يأمر الحاكم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا تعد ممارسات السلطة التي تقوم بتعميم أيديولوجياتها السياسية والدينية، بخاصة في ظل مركزية الحكم الشمولي، أمراً عرضياً، بل ثمة سوابق معاصرة وتاريخية تكشف عن الأطر النظرية السميكة والأجهزة الصلبة التي تمانع ظهور أي معارضة وتنوع يحلحل الإرادة (الإلهية) والسيادة (السياسية).

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يكشف تقرير الحريات الدينية الصادر عن الخارجية الأميركية، أيّ وقائع تبدو جديدة أو مباغتة في ما يخص الوضع الحقوقي في مصر. فمن الناحية التشريعية، القانونية والدستورية، هناك غموض والتباسات حول البنود التي تضمن الحريات، ظاهرياً، ثم تستند إلى الأحكام الدينية الشمولية والمغلقة، سواء لدى المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، أي الأديان الإبراهيمية الثلاثة المعترف بها. 

فضلاً عن التضييق على الأقليات، غير المعترف بها، مثل البهائيين، فإن هؤلاء توضع علامة شرطة (-) على أوراقهم الثبوتية وبطاقات الهوية، مثلاً، بينما يحظر دفن موتاهم إلا في مقابر محددة في منطقة البساتين في العاصمة القاهرة.

يقر الدستور في مصر بـ”حرية العقيدة المطلقة” وكذلك “حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأتباع الديانات السماوية (أي الديانات الإبراهيمية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية)”. وعلى رغم أن الدستور يحدد أن “الإسلام دين الدولة” و”مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع”، إلا أنه ينص على تبعية اليهود والمسيحيين لشرائعهم في ما يخص أحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية. 

من بين المعضلات التي تواجه خريطة التنوع الديني بمصر هي الديمغرافيا الدينية، والتي يصعب الحصول على معلومات رسمية كاملة حولها، لا سيما المسح الإحصائي للأقليات الدينية. لكن الحكومة الأميركية تقدر عدد السكان في مصر بـ107.8 مليون (حتى منتصف عام 2022)، ونحو 90 في المئة من السكان من المسلمين السنة، و10 بالمئة من المسيحيين. بيد أن المسلمين الشيعة يشكلون نحو 1 في المئة من السكان. هناك أيضاً مجموعات صغيرة من البهرة والأحمدية القاديانية (لم تحدد نسبتهم).

يتراوح عدد البهائيين بين ألف وألفي شخص، وفق ممثلي الطائفة أنفسهم، فيما تشير منظمات المجتمع المدني إلى أن عدد اليهود لا يتخطى الـ10 أشخاص يقيمون بين الإسكندرية والقاهرة. ولا تقديرات موثوقة لعدد الملحدين، إلا أن قاعدة بيانات الأديان العالمية في جامعة بوسطن أشارت عام 2020، إلى وجود 700 ألف ملحد/ة.

تتبنى بطاقات الهوية في مصر التصنيف الديني، وتحصره بخيارات ثلاثة، تقتصر على الأديان الإبراهيميّة الثلاثة المعترف بها، متحاشية بقية الأديان والطوائف، إذ يُصنف “شهود يهوه” باعتبارهم “مسيحيين” في بطاقات الهوية، إلا أنّ مرسوماً رئاسياً يحظر نشاطاتهم الدينية.

ومن بين التناقضات البنيوية في التشريعات القانونية والدستورية، غياب عقوبات “الردة” الدينية، إذ يجوز للأفراد تغيير دينهم، وتعترف الحكومة بالتحول إلى الإسلام، لكنها لا تعترف عموماً بالتحول من الإسلام إلى أي دين آخر، باستثناء الأفراد الذين لم يولدوا من أبوين مسلمين ثم اعتنقوا الإسلام، لاحقاً.

لا يكشف تقرير الحريات الدينية الصادر عن الخارجية الأميركية، أيّ وقائع تبدو جديدة أو مباغتة في ما يخص الوضع الحقوقي في مصر.

ينص قانون العقوبات أيضاً، على أن “ازدراء وعدم احترام” أي من “الأديان السماوية” (الإسلام والمسيحية واليهودية) يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات، أو غرامة لا تقل عن 500 جنيه مصري (20 دولاراً)”. ويقول القانون إن استخدام الدين للترويج لـ “الفكر المتطرف” لجهة إثارة الفتنة أو ازدراء “الأديان السماوية” أو طوائفها أو “الإضرار بالوحدة الوطنية، يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين ستة أشهر و5 سنوات”.

عدم اعتراف القانون والدستور بالبهائية، وغياب أي مؤسسات ونشاطات لأفرادها، يضطران أتباع هذا الدين إلى تشكيل تجمعات خاصة بهم في أحد البيوت البهائية لممارسة شعائرهم أو الاحتفال بطقوسهم الدينية. وقد دعا الإعلامي المصري إبراهيم عيسى الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التدخل لحل أزمة المقابر البهائية، مشيراً إلى أن الجماعة تعاني من فشل الحصول على تصاريح الدفن خارج مقبرة البساتين في القاهرة. وأضاف عيسى: “هم مصريون… من حقهم أن يُدفنوا في أرضهم”. 

يمكن القول إن البهائية تبرز التباينات والتحولات التي لاحقت التنوع الديني بمصر. إذ لاقت هجوماً من رجال الدين، ومؤسسة الأزهر، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالتزامن مع توافد البهائيين، تحديداً عبر تجار السجاد الإيرانيين. فالشيخ الأزهري، محمد أبو زهرة، وصف البهائية بأنها “مؤامرة” من “الاستعمار” و”الغرب”، لا سيما أنها ظهرت في الفترة بين الحربين العالميتين.

الواضح، أن نشاط البهائية كان موثقاً، ويعكس احتكاكات مباشرة بالنخبة والصحافة في مصر، إذ ناقشت صحف القاهرة، آنذاك، مثل “الأهرام” و”المجلة الجديدة” و”العصور”، عقائدهم وطقوسهم. بل ولمّحت إلى هيكلهم الموجود في القاهرة ونيويورك. كما عرجت على الأدوار التي انخرط فيها ميرزا عباس أفندي، وهو من أبرز الشخصيات الدعوية، والذي تنقل بين القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، في العقد الأول من القرن العشرين، ثم سافر الى نيويورك، قبل أن يعود إلى بورسعيد عام 1913. 

من بين المفكرين المصريين الذين احتفوا بالنشاط البهائي في هذه الفترة، سلامة موسى الذي عنى بالبدايات الأولى للأديب نجيب محفوظ، وكان ضمن مفكري النهضة العقلانيين ومن رواد الاشتراكية والانعتاق من التراث. وفي مجلة “العصور” قال موسى: “ونحن نحب أن يلقى هذا الدين تأييداً في مصر، حتى بين الطبقات التي لا تجد من الأديان السائدة، أو من الآداب والفنون ما يقنع نفوسها”.

وفي ما يبدو، أن عباس أفندي ويُكنّى بـ”عبد البهاء”، كان منخرطاً بين النخبة المصرية، وليس فقط بين من يستقبلهم للتبرك به. ففي كتابه “تاريخ الأستاذ الإمام”، ذكر رشيد رضا أن الإمام محمد عبده، قال عن عباس أفندي: “أسمع أنه بارع في العلم والسياسة، وأنه عاقل يرضي جميع المجالس”. بيد أن رشيد رضا، الذي تتلمذ على يد الإمام محمد عبده بينما كانت له اتجاهات أصولية متشددة، اعتبر أستاذه “الإمام” وقع في “خديعة كبرى” من الميرزا على خلفية “التقية” التي تعامل بها الأخير مع الآخرين. ويقول رضا إنّ “عباس أفندي كان يصلي الصلوات الخمس والجمع، ويحضر دروس الشيخ محمد عبده، ويتحدث كأنه مسلم سني”.

نجح البهائيون في تحقيق بعض المكتسبات في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد فترة وجود وانتشار لا تبدو هينة. عام 1924، دُشِّن أول مركز بهائي في حي العباسية بينما كان متاخماً للكاتدرائية الأرثوذكسية. 

تكشف الوقائع والملابسات القانونية الموثّقة عن صعوبات جمّة، لاحقاً، حيث تعددت النزاعات القانونية لمنع بناء المحافل وتعطيل عقود زواج بهائيين من مسلمات، مع الأخذ في الحسبان أن القضاء المصري أقر عام 1925، البهائية كـ”دين مستقل” قبل الدخول في حالة كمون وأفول في العقود التالية، ومن ثم، تلاشي المكتسبات القانونية والحقوقية كافة. ففي منتصف السبعينات، اعتبرت المحكمة الدستورية العليا أن “البهائية ليست من الأديان التي شرعها الله، وتخرج عن الإسلام وديانة أهل الكتاب، وفق ما أفتى به الأزهر”. 

وبينما كانت الفترة بين عامي 1924 و1926، تشهد نمواً محدوداً للمحافل البهائية (13 محفلاً بين القاهرة والإسكندرية تحديداً)، إلا أنها ألغيت في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي.

بالعودة إلى التقرير الأميركي، توضح المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أنه في “عام 2009، كانت هناك اعتداءات طائفية عنيفة، وغير مسبوقة، ضد مصريين بهائيين، يقيمون بقرية الشورانية، صعيد مصر، أسفرت عن إحراق خمسة منازل يملكها بهائيون، بعدما رماها المعتدون بالحجارة، واقتحموها وسرقوا بعض محتوياتها، ثم ألقوا كرات نارية وزجاجات حارقة على تلك المنازل وهم يرددون هتافات دينية طائفية. وترتب على تلك الاعتداءات أيضاً، تهجير جميع أفراد الأسر الخمس، بينما لم تمكنهم السلطات الأمنية من العودة الى منازلهم حتى الآن”.

ثمة تيارات أخرى عانى أفرادها من التهميش والتضييق، فضلاً عن الملاحقات القانونية، والتشهير بهم أو وصفهم بـ”الانحراف” و”الكفر” و”الردة” و”التجديف”، عبر فتاوى رجال المؤسسات الدينية الرسمية. ومن بين هؤلاء، القرآنيون والأحمدية القاديانية. بالنسبة الى القرآنيين، فالنص المؤسس، أي القرآن، هو مرجعيتهم الوحيدة، ولا يعتدون بالروايات المنسوبة للنبي بسبب الاختلاف في صحتها بين الفرق الإسلامية المختلفة. بالتالي، تعددت الصدامات بينهم وبين الأزهر. وقد أخذت منحى متصاعداً بعد عام 2011. 

في الفترة التي أعقبت الربيع العربي والانفراجة السياسية بمصر وتسيّد تيارات جديدة بالفضاء العام بينما تبحث عن قواعد وحوامل اجتماعية للبقاء، ظهر تيار إصلاحي داخل المؤسسة الدينية الرسمية تماهى مع القرآنيين في ما يخص رواية الحديث، والمطالبة بتنقية التراث. الأمر الذي أدى إلى سجال محتدم ونقاش حاد تحديداً حول “صحيح البخاري” الذي يصفه الأصوليون والسلفيون بأنه “أصح كتاب بعد القرآن”. 

ووفق شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فإن حديث القرآنيين “يخالف كلام الله في قرآنه الكريم”. 

أما القاديانية، فقد نشأت أواخر القرن التاسع عشر، في إقليم البنجاب بالهند، ومؤسسها ميرزا غلام أحمد القادياني، والذي صرح عام 1889 أنه “المهدي المنتظر”. والأحمدية القاديانية في مصر لا تتوافر لها أماكن للصلاة، ويرفضون الصلاة خلف مشايخ السنة. وقد كانت أول محاولة من القاديانية لنيل اعتراف الأزهر عام 1940. لكن موقف الأزهر ظل ثابتاً ووصفهم بـ”الكافرين”، وتقرر استبعاد القاديانيين من الدراسة في الأزهر. 

وسبق لعضو مجمع البحوث الإسلامية عبد المعطي حجازي، أن شن هجوماً حاداً على القاديانية، بعد عام 2011، أيضاً. فصرح أن القاديانية قدمت طلباً للأزهر للاعتراف بها، وأرسلوا الكتب الخاصة بهم، وبعد الاطلاع عليها فى لجنة العقيدة اكتشف الأزهر أنهم “غير مسلمين”. وتابع: “يقولون إن الرسول هو خاتم الأنبياء بمعنى أن الخاتم معناه (خاتم حلية) أي أن النبى الكريم هو (حلية الأنبياء) وليس آخرهم، ويقولون إن ميرزا غلام ليس نبياً بل هو رسول. هم يعرفون موقف الأزهر تماماً من قبل، لكنهم يحاولون الانتشار مرة أخرى بعد ثورة يناير، متخيلين أنه مع تغير الأنظمة السياسية سيتغير موقف الأزهر من الطوائف الدينية الشاذة، لكن العقيدة لا تتغير بتغيُّر الأنظمة السياسية”. 

وشدّد حجازي على ضرورة غلق منصاتهم الإعلامية والقناة الفضائية الخاصة بالقاديانية، التى يتم من خلالها التبشير بمذهبهم، مشيراً إلى أن ذلك ليس دور الأزهر، بقدر ما هو دور الجهات الأمنية المسؤولة عن حماية أمن مصر القومي، مؤكداً أن مصر كدولة مسلمة تحترم وجود أصحاب أى عقيدة أخرى، لكن مع التأكيد على أنهم غير مسلمين. 

في المحصلة، لا تعد ممارسات السلطة التي تقوم بتعميم أيديولوجياتها السياسية والدينية، بخاصة في ظل مركزية الحكم الشمولي، أمراً عرضياً، بل ثمة سوابق معاصرة وتاريخية تكشف عن الأطر النظرية السميكة والأجهزة الصلبة التي تمانع ظهور أي معارضة وتنوع يحلحل الإرادة (الإلهية) والسيادة (السياسية). فالإدارة السياسية، وربما، الأمنية، للتنوع الديني، إنما ترتبط بالحالة الوصائية في السياسة وانعكاساتها على الوضع المجتمعي. فالدين الخلاصي بتأويله الرسمي السائد والمهيمن هو نفسه الحاكم أو الحزب الذي لا يتغير ولا يمكن التشكيك فيه أو مساءلته. بعبارة أخرى، “يجب صيانة وحدة الحزب كحدقة العين”، وفق قاعدة فلاديمير لينين الشهيرة.