fbpx

الموسيقى العربية والتركية… ماضٍ مشترك لوجوهٍ وأماكن!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

انتهى حظر الموسيقى التركية الكلاسيكية في الإذاعات، فاتّجهت بوصلة الأتراك صوب الإذاعات العربية، التي وجدوا فيها تعويضاً عن غياب الروح الشرقية التي افتقدوها في الموسيقى الغربية. وهكذا استمعوا إلى تلاوة القرآن الكريم وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 كان للموسيقى دورٌ بارزٌ في التفاعل الثقافي بين العرب والأتراك لمئات السنين. وقد اعتبرها بعض النقَّاد بمثابة وسيلة لاختبار التفاعل بين الثقافتين العربية والتركية. وفي هذا الكتاب المعنوّن بـ”وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين” للباحث التركي مراد أوزيلدريم، الذي ترجمته إلى اللغة العربية ملاك دينيز أوزدمير وراجعه أحمد زكريا عن مشروع “كلمة” للترجمة في مركز أبو ظبي للغة العربية، محاولة جادة للوقوف عند التاريخ الموسيقي المشترك بين العرب والأتراك من جهة، ورصد أبرز وجوهه ومحطاته من جهة أخرى.

الذوق الموسيقي الإمبراطوري

  يذهب أوزيلدريم بعيداً في التاريخ، ليلتقط بذور التفاعل الأولى بين الثقافتين العربية والتركية، إذ يشير إلى أنه مع هيمنة السلاجقة على بغداد في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، أصبح يُعرف أن للموسيقى التركية تأثيراً على الموسيقى العربية. وقد ازداد هذا التأثير في القرن الثالث عشر الميلادي. قبل أن يصطحب السلطان العثماني مراد الرابع (1612 – 1640م) معه موسيقيين من بغداد إلى إسطنبول عند عودته من حملته على إيران. وأظهرت المصادر القليلة في هذه الفترة، أن الموسيقى تطوّرت في عهد السلطان العثماني محمد الرابع (1642 – 1693م). وازداد هذا التفاعل في القرن السادس عشر الميلادي مع ازدياد نفوذ الإمبراطورية العثمانية عبر ثلاث قارات حول العالم. ومع دخول القرن التاسع عشر الميلادي، صارت الموسيقى التركية الكلاسيكية هي الذوق المشترك في الجغرافيا العثمانية بأكملها تقريباً. وقد أشار الباحث أيضاً، إلى أن الموسيقى التركية الكلاسيكية، تأثرت بالتقاليد الموسيقية لإيران والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والكنيسة السريانية القديمة وكذلك الموسيقى العربية. وقد أثرت في هذه الموسيقى من خلال تحقيق “الذوق الموسيقي الإمبراطوري المشترك”. وهو كمـا وصفه أوزيلدريم بأنه التعبير العام عن انتشار ذائقة إسطنبول، مركز السَلطنة العثمانية، من روميليا إلى العراق ومن اليمن إلى الجزائر. كمـا يلفت أوزيلدريم النظر إلى التشابه في بعض المقامات بين مصر وسوريا والعراق، وهي الدول التي عاشت لقرون في ظلّ الحكم العثماني، بالإضافة إلى التأثير القوي لتكايا الدراويش العثمانية والتي كانت بمثابة ساحة تدريب على الموسيقى الدينية في الجغرافيا العربية.

 في الفصل الثالث من الكتاب، تحدث الباحث عن الأتراك في مؤتمر الموسيقى العربية الأول المُنعقِد في القاهرة في العام 1932م تحت رعاية الملك فؤاد الأول. وبالرغم من أهمية العنوان، إلا أن الباحث لم يأتِ بجديد في هذا الفصل، فموضوع المؤتمر قد سبق وتمت دراسته في مناسباتٍ عدّة بأقلام اختصاصيين، كما أن التغطية الصحافية التي أفردتها مجلة “الصباح” قد تناولها الناقد الموسيقي د. فكتور سحّاب في واحد من كتبه، حيث أفرد مساحةً معتبرة لآراء الموسيقيين والمطربين والمطربات الذين لم يشاركوا به. لكن أوزيلدريم ينبّه في هذا الفصل إلى الفهم الخاطئ الذي أولاه البارون رودولف ديرلانجي، وهو رسامٌ وموسيقيٌّ فرنسي للموسيقى التركية، كمـا أشار إلى الدور الذي لعبه المنظِّر الموسيقي التركي رؤوف يكتا بك في المناقشات حول مشاكل الموسيقى التي أُثيرت في المؤتمر. فالرجل (يكتا بك) كان يقول: “السبب الوحيد للتمييز بين الموسيقى العربية والموسيقى التركية، هو الأسلوب والأداء المختلفان (وهذا نتيجة للاختلافات اللغوية)، وتجدر الإشارة إلى أن الأصوات المشاركة في تشكيل أنغام هذه الدول تظلّ كما هي”.

منع الموسيقى الكلاسيكيّة

   عقب وصول مصطفى كمال أتاتورك إلى سُدة الحُكم وقيام الجمهورية التركية عام 1923م، اتُّخذت إجراءات كثيرة تغيّر معها شكل الحياة الثقافية والفنية في البلاد. وإذا أضفنا إلى ذلك المسافة الفاصلة التي وضعها العرب بينهم وبين تركيا عقب سقوط الدولة العثمانية، يُمكننا تخيّل الوضع الذي انتهت إليه الأمور. فالأتراك أنفسهم باتوا ينظرون إلى الموسيقى التركية الكلاسيكية، باعتبارها من آفات الماضي التي ينبغي التخلّص منها. فهي في نظرهم “موسيقى حزينة تنيِّم الناس وتحرّض على البكاء”. وقد شُنّت ضدها حملات عدة في الصحف، حتى نعتها أحدهم بأنها “موسيقى الخمارات”.

 أدى هذا المخاض في النهاية، إلى اتخاذ قرار خطير للغاية. ففي نهاية العام 1934م، حُظر بث الموسيقى التركية الكلاسيكية بشكل رسمي في الإذاعات التركية! وفي هذا الفصل الرابع من الكتاب، يشرح الباحث بالتفصيل كيف وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، وما النتائج التي ترتبت على ذلك. فيشير إلى أن شرارة البداية اندلعت من الأفكار الحادة في عمل ضياء جوك ألب بعنوان “مبادئ القومية التركية”.

   كما يشير كذلك إلى التغيرات التي حدثت في المشهد الموسيقي التركي عقب قيام الجمهورية في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 1923. فقد تم نقل موسيقى الهمايون إلى أنقرة وتغيير اسمها، وافتتحت مدرسة معلمي الموسيقى الغربية لتعليم المعلمين الموسيقى في إسطنبول عام 1924م، وتم إرسال عشرات الطلاب إلى المدن الأوروبية لتعلم الموسيقى عام 1926م، وأيضاً تم تغيير اسم “دار الألحان” إلى “مدرسة إسطنبول الموسيقية”، قبل أن يتم الاستقرار على “كونسرفتوار بلدية إسطنبول” في العام 1943م. وفي 29 كانون الأول/ ديسمبر 1926، أُغلق قسم الموسيقى الشرقية تماماً. ونُشرت الكتب الأساسية من قِبل الدولة حول الموسيقى متعددة الأصوات بين عامي 1928 و1930م. كما تم استبدال لحن النشيد الوطني بلحن آخر. وأُعلن حظر الموسيقى التركية الكلاسيكية من الإذاعات الرسمية لمدة عامين (1934 – 1936م)، حيث كانت تُذاع الموسيقى الغربية فقط.

ويتوقف الباحث عند حدث يعتبره نقطة فاصلة في تاريخ الموسيقى التركية الكلاسيكية. وهو حضور أتاتورك لحفل موسيقي؛ شاركت فيه سلطانة الطرب منيرة المهدية في 9 آب/ أغسطس 1928م في سراي بورنو بإسطنبول إلى جانب فرق موسيقية أخرى. وقد مدحها صواتها كثيراً، لكنّه نصحها بتعلّم الموسيقى الغربية، قائلاً لها: “بهذا الصوت يستمع إليكِ العالم كله، لتكن شهرتكِ كاملة”. وقد أعدّ خطاباً في نهاية الحفل، كان موضوعه الرئيسي الأبجدية الجديدة، لكنّه تضمّن جزءاً صغيراً حول الموسيقى. كان أتاتورك يقول في خطابه للأمة التركية شيئين: أبجديتكم ليست الأبجدية العربية، وموسيقاكم ليست الموسيقى التي على هذا المسرح. ورأى الباحث أن هذا الكلام كان بمثابة تمهيد الطريق لقرار حظر الموسيقى التركية في الإذاعات في وقت لاحق.

 وفي الفصل الخامس من الكتاب، يناقش الباحث النقاشات كافة حول الموسيقى الشرقية والغربية في الصحافة التركية، عارضاً أمثلة عدة حول وجهات النظر لأشخاص أتراك تبنوا مسألة رفض الموسيقى التركية الكلاسيكية كإرثٍ من الماضي الذي ينبغي التخلّص منه. كما أشار إلى خطاب أتاتورك نفسه في البرلمان في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1934م حول ضرورة إعادة النظر في شأن الموسيقى الشرقية بأسرع ما يمكن. ومع الوقت، اتُّهم كل من يدافعون عن الموسيقى التركية الكلاسيكية بالرجعية، ووصل الأمر إلى نعتهم بأنهم يعارضون الجمهورية الفتيّة. ومن المعروف أيضاً أنه وبالتوازي مع الحظر، خضع شكل التحوّل إلى الموسيقى الغربية لإشراف أجنبي في البلاد. واستقرت الحكومة في هذا الشأن على اختيار حليفها القديم ألمانيا بدلاً من الاتحاد السوفيتي. ووقع الاختيار على المنظِّر الموسيقي الألماني بول هندميث (1895 – 1963م).

لقد انتهى حظر الموسيقى التركية الكلاسيكية في الإذاعات بعد عامين، لكن بوصلة الأتراك هذه المرة اتجهت صوب الإذاعات العربية أثناء الحظر، والتي وجدوا فيها تعويضاً عن غياب الروح الشرقية التي افتقدوها في الموسيقى الغربية. وهكذا استمعوا إلى تلاوة القرآن الكريم وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.

 وفي الفصل السابع، يذهب الباحث لمناقشة دور الفنانين الأتراك في البلاد العربية بشكل تفصيلي. ومن بين هؤلاء الموسيقيين الذي وفدوا إلى مصر، زكايي داده أفندي (1825 – 1897م) والذي ظلَّ مصطفى فاضل باشا – بن الخديوي سعيد باشا – يرعاه طوال حياته. وهناك إندروني علي بك (1830 – 1899م) الذي جاء الى مصر بدعوة من الخديوي إسماعيل. فبدأ هؤلاء في التعرُّف إلى أسلوب الأداء المصري، والذي استخدموه من وقتٍ الى آخر في دوائر الموسيقى في إسطنبول. كما زار الموسيقيون والمطربون العرب إسطنبول مثل الشيخ يوسف المنيلاوي والمطرب عبد الحامولي، والذي أحضره معه الخديوي خلال إحدى زياراته الى إسطنبول. وقد تأثر الحامولي ببعض المقامات في الموسيقى التركية وكذلك الكلمات التي لم تُكن متداولة من قبل في الأغنيات مثل (أمان، أُمروم، وأفندم). وفي عهد السلطان محمود الثاني (1808 – 1839م)، قَدم إلى إسطنبول مواطن من دمشق يُدعى عمر أفندي، وهو عازف قانون ماهر. وقد أبدى بعض الفنانين المصريين تأثرهم بالموسيقى التركية مثل محمد عبد الوهاب، الذي كان يستمع إلى أسطوانات طنبوري جميل بك وفتحية أحمد وتوحيدة اللتين تأثرتا بالأسلوب التركي في الأداء. وهناك الشريف محيي الدين تارجان الذي عاش في بغداد بين عامي 1934 و1948 وشارك في تأسيس قسم الموسيقى في أكاديمية بغداد للفنون الجميلة باسم “قسم الموسيقى الشرقية والغربية”. أما الأمير يوسف كمال (1882 – 1967م) – حفيد محمد علي باشا – فقد دعا كل من رفيق وفاخرة فرسان ومنير نور الدين سلجوق عام 1928م لتقديم حفلات غنائية. كما دُعي رفيق وفاخرة فرسان أيضاً بوصفهما اختصاصيين إلى دمشق، حيث شاركا في تأسيس معهد الموسيقى الشرقية. كما أن سعدات هانم (مولودة 1911م) تبنت الأسلوب العربي في الغناء. ولعل فنان الدولة التركية كوتلو بايسلي كان من أبرز الموسيقيين الذين حضروا إلى القاهرة خلال القرن العشرين، وقد حضرت أم كلثوم ثلاثاً من الحفلات التي قدمها مع زملائه. كما أنها دعته هو وبعض زملائه لتناول القهوة في منزلها، إذ كانت شديدة الإعجاب بما قدموه. وقد أشاد بهم أيضاً الكاتب أحمد بهجت في مقالته بجريدة الأهرام عام 1969م.

 يخصص أوزيلدريم الفصل الثامن من الكتاب لتناول نماذج المجلات التي أقامت جسراً ثقافياً بين العالم العربي وتركيا، إذ يلقي الضوء على مجلة “رَسِمْلي راديو دُنيَاسي” التي قدمت معلومات مفصلة عن الفنانين الأتراك وغيرها من المجلات. وبطبيعة الحال، كانت أم كلثوم في طليعة الأخبار المعنية بالموسيقيين العرب في الصحافة التركية. فكان الصحافيون الأتراك يتنافسون لإجراء الحوارات معها ودعوتها إلى زيارة إسطنبول. وقد أبدت خلال هذه اللقاءات حبها لتركيا وطبيعة الحياة فيها والحقوق التي نالتها المرأة. لقد أفرد الباحث قصاصات من هنا وهناك حول أم كلثوم وغيرها من الفنانات مثل المطربة التركية بريهان ألتنداغ سوزاري التي زارت مصر مع زوجها، وكذلك المطربة صفية آيلا. وقد تعلّمت بريهان أثناء وجودها في القاهرة، غناء أغنية “غني لي شوي شوي” من أم كلثوم نفسها وغنتها باللغة العربية. وكذلك قدّم المطرب منير نور الدين سلجوق حفلة موسيقية رائعة في دار الأوبرا الملكية المصرية عام 1950م برفقة وفد من سبعة عازفين عرب. وكانت تجمعه صداقة مع كل من محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي الذي كان مفتوناً بصوته.

   ولعل أبرز فصول الكتاب، حينما تحدث أوزيلدريم عن التأثير الكبير للأفلام الغنائية العربية على الجمهور التركي وكذلك المنتجين والمخرجين. فظهرت أفلام محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد. وبدأت دور العرض وصالات السينما في أنحاء تركيا كافة بعرض تلك الأفلام. ومن الأمثلة التي أوردها الباحث على نجاح هذه الأفلام وتأثيرها، أن مائة وعشرين ألف شخص شاهدوا فيلم “دموع الحب” في سينما “تقسيم” في اسطنبول عند عرضه. وقد بلغ الإعجاب بأغنية “سهرت منه اللياليط لعبد الوهاب أن ترجم المغني التركي حافظ برهان سيسيلماز (1897 – 1943م) كلماتها إلى اللغة التركية، وسجّلها على أسطوانة، وحققت مبيعات ضخمة في تركيا. وكذلك، عُرضت مجموعة من أفلام أم كلثوم في دور العرض التركية إلى جانب أفلام ليلى مراد وأنور وجدي. وبالرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها الأفلام المصرية في دور العرض، فإن النظام التركي أمر بحظر عرضها في 10 شباط/ فبراير 1942م، وذلك بزعم أنها تسببت في تقليل اهتمام العرب الذين يسكنون في مرسين وأضنة باللغة التركية. ومن المعروف أيضاً، أن الملحن التركي سعد الدين كايناك (1895 – 1961م) لحَّن أغاني 85 فيلماً مصرياً بين عامي 1940 و1950م؛ كانت معظمها من كلمات وجدي بنجول، وقد أهدى معظم هذه الألحان إلى شركة “أوديون”. ولنا أن نتخيل أن كايناك وبنجول كانا يعملان على كتابة الحروف ورسمها حسب حركة الشفاه للممثلين والممثلات، كما حرصا على أن يكون اللحن مطابقاً لموضوع الفيلم ومدة عرضه. قبل أن يورد الباحث في أحد الفصول شهادات كثيرة حول انتشار الأفلام المصرية والأغنيات في أنحاء تركيا.

      ويختتم أوزيلدريم كتابه بفصل حول موسيقى الأرابيسك. فنجده يشير إلى أن بعض مغني الأرابيسك المعروفين استخدموا الألحان العربية مع الكلمات التركية، سواء عن قصد أو من دون قصد. ويرجّح أن هذا الأسلوب قد بدأ مع المغني والملحن التركي سعاد ساين في العام 1960م والذي أستوحى ألحان أغنيته “هل الحب خطيئة؟” من إحدى أغنيات عبد الوهاب. وقد أورد الباحث قائمة بسيطة لبعض الأغنيات العربية المشهورة التي اقتُبست، بالإضافة إلى أغنيات عربية أداها مغنون أتراك باللغتين العربية والتركية.

    في النهاية، يمكننا القول إن هذا الكتاب يعدّ بوابة شاملة للدخول إلى حيّز التأثير الثقافي والفني المتبادل بين العرب والأتراك، بخاصة في القرن العشرين، لكنّه لا يخلو من بعض الهنّات البسيطة التي لا تؤثر في أهمية البحث، وإنه كان يُفضَّل أن تُختصر فقرات مكررة كثيرة داخل النصّ الأصلي حتى لا يشعر القارئ بالملل في بعض الأجزاء.