fbpx

“طواحين الهوى”: قصص نساء من أهالي المفقودين 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

40 سنة هو عمر جراح أهالي المخطوفين والمفقودين قسراً في لبنان. 40 سنة استنفدوا خلالها كل أشكال النضال، في ظل تقاعس رسمي متعمّد ومزمن، هذه المرة كانت الكتابة فعل نضال إضافي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 “أنا صار عمري 82 سنة. إذا كنت اليوم، ما رح كون بكرا، خلصت الحياة”، تقول السيدة نهاد الجردي وهي تحمل الصورة الوحيدة التي تملكها لابنها أيمن سليم، الذي اختُطف على حاجز مسلح في منطقة بحمدون في 28 حزيران/ يونيو 1982. أمضت الجردي نصف سنوات حياتها، وهي تحاول أن تحكي مأساتها تلك.

40 سنة هو عمر جراح أهالي المخطوفين والمفقودين قسراً في لبنان. 40 سنة استنفدوا خلالها كل أشكال النضال، في ظل تقاعس رسمي متعمّد ومزمن، هذه المرة كانت الكتابة فعل نضال إضافي. 

كتاب “طواحين الهوى” الذي أطلقته أخيراً لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين قسراً بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، جمع قصة نهاد إلى جانب قصص 14 سيدة أخرى ممن يتشاركن معها الألم نفسه.

الكتاب الأول من نوعه يوثّق تجارب النساء خلال سنوات الحرب، ومحاولة لاستعادة الحق بكتابة التاريخ بأقلام ضحايا وحشية هذه الحرب، بعدما قررت ميليشياتها عقد الصلح في ما بينها وتقلدت الحكم في لبنان، ومنحت نفسها العفو، وسعت على مدى عقود الى طمس هذه القصص كلها، التي لا تزال تحفر عميقاً في وجدان أصحابها. 

“صار لزاماً أن نبوح”

في كلمة “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان” التي جاءت في مقدمة الكتاب، نبذة عن “التجاهل الحارق” الذي قوبلت به القضية على مدى عقود. “أحد لم يسألنا عن أحوالنا، وعن كيف تمر أيامنا… أحد لم يقترب ليسمع دقات قلوبنا، ليستمع إلى معاناتنا وكوابيس ليالينا. كأننا وُجدنا في هذه الدنيا لنكون أهالي مفقودين، ليكون أولادنا أولاد مفقودين”، وتضيف الكلمة: “المأساة طالت وصار لزاماً علينا أن نبوح”.

وفي حفل إطلاق الكتاب، قالت رئيسة اللجنة وداد حلوني لـ”درج”: “اكتشفنا أنه انقضت أربعون عاماً على بدء نضالنا بحثاً عن أحبائنا. سنوات ثقيلة أرادت خلالها السلطة الحاكمة أن تصورنا على أننا لا نمتهن سوى التظاهر والمطالبة والبكاء والغضب ونفاد الصبر. هذه محاولتنا الأولى للبوح بما في داخلنا، للكشف عما أخفيناه طويلاً من ألم مزمن يطحن قلوبنا”.

“الكتابة كانت شكلاً جديداً من أشكال نضالنا”، تؤكد حلواني. “أفرغنا بعضاً من أوجاعنا في صفحات الكتاب لنقول لمن سيقرأ إننا أناس عاديون. نفرح كما نحزن، وتمنينا لو استطعنا أن نعيش حياتنا بشكل طبيعي، وألا تُفنى أعمارنا ونحن نطرق أبواب المسؤولين لمطالبتهم بتحمّل مسؤولياتهم والكشف عن مصير أحبائنا”.

وتضيف حلواني: “أردنا لهذه الحكايات أن تبقى مطبوعة وموثقة في ذاكرة اللبنانيين الجماعية”.

“أطرقي على قبري عند عودة ولدي”

“أمي المتسوّلة” عنوان قصة سعاد الهرباوي التي خُطف شقيقها أحمد الهرباوي على حاجز في منطقة الأشرفية في آذار/ مارس 1975. تسترجع سعاد كيف غير اختطاف شقيقها حياة والدتها إلى الأبد، وحوّلها إلى معاناة كبرى لا تنتهي. 

أمضت والدة سعاد عمراً كاملاً وهي تتسول حقيقة مصير ابنها. تكتب سعاد أنها لن تتخلى عن القضية حتى آخر نفس في روحها، لأنها عاهدت والدتها بذلك بعدما أوصتها قبل وفاتها: “لا تنسي أن تطرقي على قبري عند عودة أحمد، لكي يرتاح قلبي، ويثلج التراب فوق رأسي”.

في قصتها “شاناي: من فسحة حب إلى ساحة حرب”، تروي وداد حلواني الظروف التي سبقت خطف زوجها عدنان من داخل منزلهما في بيروت في 24 أيلول/ سبتمبر 1982. في صيف ذلك العام، علقت وداد وابناها زياد وغسان في مقر إقامتهم الصيفي في شاناي، بعدما تعذرت عودة عدنان لاصطحابهم إلى بيروت مع استباحة الطيران الإسرائيلي سماء لبنان، وتسارع رياح الحرب. وجدت وداد نفسها وولديها في وضعية أقرب إلى الإقامة الجبرية، خصوصاً مع إعلان إسرائيل الحرب على لبنان وانتشار الحواجز المسلّحة على الطرقات.

كانت تلك المرة الأولى التي تنفصل فيها وداد عن زوجها وحبيبها. تكتب وداد: “فلأتحمل، فلنتحمل، الانفصال الموقت عن عدنان … إنها التجربة الأولى لنا نحن الثلاثة، ولرابعنا المستوحد في بيروت”.

عادت وداد إلى بيروت، لكن ذلك الانفصال الذي خشيته لم يكن موقتاً. “عذراً عدنان. (بعض الوقت)، تعبير مرفوض من الآن فصاعداً. عدنان، أنا بحاجة إلى أن تكلمني بقلبك لا بعقلك هذه المرة”.

في بيروت، بدأت وداد وولداها يستعيدون حياتهم تدريجياً، ولكن، حكاية أخرى بدأت، تقول وداد. “إنها حكاية الحكايا، فصلها الأول عنوانه: خطف حبيبي”. خُطف عدنان.

على طريقتها الخاصة ومستعينةً بقليل من الخيال الذي تتمناه أن يتحول الى حقيقة، كتبت ليلى الشباب قصتها “من خلف المرايا تأتي الحكايا”. فُقد شقيق ليلى أنطوان على طريق زحلة- بيروت في 28 حزيران/ يونيو 1986. في القصة، تتحول غرفة ليلى إلى قاعة محكمة متخيلة أقامتها لأمراء الحرب. في مرافعتها، تسألهم ليلى: “أنتم متهمون بخطف أنطوان الشباب وحرمانه حريته وتغييبه، فماذا تقولون؟”.

تصرخ ليلى: “أنتم أمراء الحرب! لقد عفوتم عن أنفسكم بعدما تسلطتم على العباد والبلاد، وطمستم الحقائق والجرائم التي اقترفتموها!” هكذا، وبعد تيقنها من إزهاق العدالة على أرض الواقع، كانت، لليلى محاكمتها الخاصة لمن حرمها شقيقها.

“سأستمر” قصة أنجاد المعلم عن والدها عبد الهادي المعلم، الذي خُطف من مكان عمله في الخدمة العسكرية في ثكنة الحلو بتاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1984. كانت روح الطفلة أنجاد متعلقة بأبيها كما تقول. تتذكر أنجاد نزهاتها مع والدها، وكم كان عطوفاً وحنوناً عليها، وتتوجه إليه قائلةً: “أنا لم أنسك، ولو لبرهة. صورتك دوماً حولي. ليت الأيام تجمعنا”.

قصص كُتبت بحبر من ألم وأمل 

“كتبت النساء بأقلامهن مشاهد عمت عنها أعيننا”، تقول نور البجاني نور الدين، وهي مديرة البرامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان واليمن. “تعاملنا مع الكتابة على أنها علاج للسيدات اللواتي عبرن للمرة الأولى عن الكثير من المشاعر. مشاعر الحب، الشوق، النضال، الكفاح وأهمها مشاعر الأمل.  الكتاب مزيج من هذه المشاعر كله”.

وتتابع نور الدين: “أمام مماطلة الدولة وتقاعسها عن تحمل مسؤولياتها، نحاول إيجاد قوة دفع شعبية تُبقي القضية حية وتردع أصحاب الشأن عن رميها في أدراج النسيان”.

بدورها، وبفخر وامتنان للتجربة، تتحدث الكاتبة والمدربة على الكتابة الإبداعية فاطمة شرف الدين، عن السيدات اللواتي دربتهن على مدى عام تقريباً، ليتمكنّ من خط وجعهن الضارب في أعماق كيانهن في قصص قصيرة. 

“كانت تلك من أغنى الورش التي قدمتها في حياتي. تثبتت لدي فكرة أن في الكتابة علاجنا النفسي واكتشافنا ذواتنا. فهي توضح لنا المشاعر التي نقمعها أو نخبئها عن أنفسنا. وباعتراف المشاركات، كانت الكتابة بالنسبة إليهن أداة للتنفيس عن الضغوطات التي يمررن بها، وللتخفيف عن عبء المشاعر المؤلمة الذي يحملنه منذ عشرات السنين”، تقول شرف الدين.

وشكرت الكاتبة “النساء البطلات” واحدةً واحدةً: سعاد أبو نكد، فردوس آغا، نهاد الجردي، فاطمة جمال، ليلى الشباب، وداد حلواني، مريم سعيدي، مي السيد أحمد، يولا فرحات، سهاد كرم، سوسن كعوش، حياة ماضي، نبال مطر، أنجاد المعلم، وسعاد الهرباوي.

تجربة النساء مع كتابة أوجاعهن ثغرة جديدة في جدار التجاهل الذي بنته سلطة لم تقتنع حتى الآن بأنه لا يمكن طي صفحة سنوات الحرب، والتصالح مع الماضي من دون إيجاد الأجابات اللازمة لإغلاق ملف المفقودين والمخطوفين قسراً.

*كتاب “طواحين الهوى” متوافر في الأسواق بالعربية والإنكليزية والفرنسية، ويعود مردود هذا الكتاب الى دعم لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين لمواصلة نضالها.