fbpx

فساد في الموساد… مَن المسؤول عن شنق كامل ثابت أو إيلي كوهين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تصفه حكايات بـ”الأحمق” الذي لم يُقدم لإسرائيل شيئاً، بل على العكس، كان عميلاً مزدوجاً، قدم للسوريين معلومات مهمة، وأرسل برقيات مغلوطة لإسرائيل، ولم يكن إعدامه سوى مسرحيّة. لكن، أكثر ما يُتداول في السياق السوريّ يتجاوز البطولة والحمق، نحو الرعب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تحيط بإيلي كوهين أو كامل ثابت (1924-1965)، جاسوس الموساد في سوريا، مجموعة من الحكايات التي تصلُ حد التناقض. 

كوهين وهو يهودي هاجر من مصر إلى إسرائيل، وأرسله الموساد سرا إلى دمشق، حيث عمل من عام 1961 إلى 1965 الى حين اكتشافه واعتقاله واعدامه. بالنسبة الى البعض هو “بطل” تمكن من مصادقة عليّة القوم في سوريا حد القول إنه وصل إلى رئاسة مجلس الوزراء حينها، ناهيك بأنه سرّب أسراراً عسكريّة، ساعدت إسرائيل على قصف سوريا، وتدمير مشروع تغيير مجرى نهر الأردن مطلع الستينات.

تصفه حكايات أخرى بـ”الأحمق” الذي لم يُقدم لإسرائيل شيئاً، بل على العكس، كان عميلاً مزدوجاً، قدم للسوريين معلومات مهمة، وأرسل برقيات مغلوطة لإسرائيل، ولم يكن إعدامه سوى مسرحيّة لإرضاء الشعب السوري.

لكن، أكثر ما يُتداول في السياق السوريّ يتجاوز البطولة والحمق، نحو الرعب، ونقصد بدقة، الرعب الذي لاحق كثيرين كونهم تعاملوا مع كوهين/ ثابت، أو اقتربوا منه، أو لوّحوا له من بعيد، أولئك الذين ساقتهم المخابرات السورية للتحقيق، سواء كانوا يهوداً أو مسلمين أو مسيحيين، فكلّ من مرّ بجانب “الجاسوس” الذي سكن دمشق، مُشتبه به.

ما لا اختلاف عليه هو أن كوهين/ ثابت، أُعدم في 18 أيار/ مايو عام 1965 علناً في ساحة المرجة في دمشق، صور جثته المعلقة أمام الحشود لا تبارح ذاكرة من رآها، ناهيك بتحوله إلى جزء من الثقافة الشعبيّة في العالم، وفي المنطقة العربيّة. وقد بدأ الأمر مع كتاب “رجلنا في دمشق” الصادر عام 1967 بقلم إيلاي بن عنان الذي يوثق حكاية كوهين/ثابت.

تتالت لاحقاً الحكايات عنه وعن دوره في دمشق، إذ أُنتج فيلم “جاسوس المستحيل” عام 1987، وعام 2019 بثت نيتفليكس مسلسلاً متخيلاً عن حياته في دمشق بعنوان “الجاسوس”، بل إن البعض وصل إلى حد افتراض ظهور كوهين/ثابت في مسلسل “باب الحارة”، ضمن شخصية جاسوس أداها فايز قزق، تحمل اسم “أبو كامل”.

لا جديد في كلّ ما سبق، بل هو موجود باستفاضة في صفحة الويكيبيديا الخاصة به على الأقلّ، لكن الجديد هو ما نراه في وثائقي “العميل 566″ المنتج عام 2020، وبثته شبكة الـARTE أخيراً، إذ تحوي الأجزاء الثلاثة ما لم نعرفه من قبل وما لم نره، (أو ربما هي جديدة لغير المهووسين بحكاية الجاسوس)، كمحاضر جلسات محاكمة كوهين/ ثابت في دمشق أمام المحكمة العسكريّة، وحكاية فرحان الأتاسي ومعين الحكيمي، الجاسوسين التابعين لـ CIA اللذين كانا جارَيه في دمشق، وحوكما مع كوهين في قفص الإتهام ذاته، لكن الأكثر لفتاً للاهتمام، هو الأسئلة التي طرحتها ناديا كوهين (زوجة كوهين) وصوفي كوهين (ابنة كوهين) ، والتي تلخص بـ”من الذي تسبب بإلقاء القبض على كوهين؟”.

هل تلوم أسرة كوهين/ثابت الموساد؟

ما يثير الاهتمام في هذا الوثائقي واختلافه عن الحكايات الأخرى، أنه يتهم بصورة مباشرة أحياناً وبصورة غير مباشرة، “الموساد” في التسبب بإلقاء القبض على كوهين/ ثابت، فالاتهام الذي يتكرر على لسان أصدقاء كوهين وعائلته المتبقية، مفاده أن الموساد في حكايته الرسميّة، تبنّى الرواية السوريّة الرسميّة، حول جهاز كشف إشارات روسي حصل عليه أحمد سويدان (رئيس المخابرات حينها)، وتمكن باستخدامه من ضبط كوهين و إمساكه بالجرم المشهود في شقته في شارع أبو رمانة في دمشق.

سلّم الموساد بالحكاية السوريّة، وهو ما أثار استغراب كثيرين، فلمَ صدّق الموساد حكاية السوريين؟ ولمَ لم يتم إنقاذ كوهين/ ثابت الذي كان في خطر بحسب مراسلاته؟ بل إن الموساد يلوم كوهين على مصيره، فتهوره وغروره و”ثقته المفرطة بنفسه” هي التي أدت إلى إلقاء القبض عليه.

التأكيد السابق، ظهر مرة أخرى في  كلمة رئيس جهاز “الموساد” ديفيد برنياع،  أثناء تدشين متحف “إيلي كوهين” في مدينة هرتسليا شمال إسرائيل عام 2022، إذ قال: “أكشف للمرة الأولى بعد بحث معمق أجري أخيراً، أن إيلي كوهين لم يتم القبض عليه بسبب حجم الإرسال أو الضغط من المقر الرئيسي للإرسال بشكل متكرر، بل تم القبض عليه، لأن العدو اعترض رسائله. هذه الآن حقيقة استخباراتية”

يفترض الوثائقي عكس التصريح السابق، الموساد ضغط على كوهين، لإرسال عدد أكبر من البرقيات، ما هدد بكشفه وفضح أمره، لكن الموساد لم يهتم، بل أصر على استمرار كوهين بالعمل، رغم الخطر المحدق به، ما يعني بصورة او بأخرى، أن الموساد كان مستعداً للتضحية بكوهين، وتركه للمخابرات السوريّة مقابل المعلومات التي يقدّمها.

هذه الفرضيّة دعمها لاحقاً رفض سوريا تبادل كوهين أو تسليمه، وكأن الموساد لم يضغط بما فيه الكفاية على سوريا لإنقاذ حياة كوهين أو على الأقل إيقاف إعدامه، وبالعودة إلى مقابلة أمين الحافظ على قناة “الجزيرة”، نشاهد رأي الحافظ، الذي رفض حضور محامي الدفاع الفرنسي جاك مارسيه،  الذي زار دمشق عقب اعتقال كوهين للدفاع عنه.

 رفض أمين الحافظ أيضاً، برغم المبلغ المالي الذي عرضه مارسيه، السماح بالدفاع عن كوهين، وحجة الحافظ أنه لا يريد أن تتحول المحكمة العسكريّة إلى مساحة لاستعراض حجج “العدو” وهنا اللافت، إذ يصف الحافظ كوهين بـ”العربي”، وكأنه خائن لعروبته وانتمائه، لا فقط جاسوس للعدو، أي بصورة أو بأخرى، أعدمت سوريا مواطناً مصرياً، وليس إسرائيلياً، هكذا بررت بلاغة الحافظ القومية والبعثية ما حصل.

الشأن الآخر اللافت في حكاية المحامي الفرنسيّ جاك مارسيه، هي المعلومة التي أراد أن يقدمها لأمين الحافظ مقابل حياة كوهين، والتي لخصها مارسيه بالتالي: “سمح لي الإسرائيليون بأن أقول للسوريين إن هناك ضابطاً يُخطط للانقلاب على أمين الحافظ”!.

ما هذه العبارة؟ كيف عرف الموساد من سينقلب على الحافظ؟ وهل كان المقصود صلاح جديد أم غيره؟ ألا تعني هذه المعلومة أن الدولة السورية حينها كانت مخترقة إلى حد أن الموساد كان يعرف بالانقلاب قبل أن يحدث؟ لا يتابع المحامي حديثه ولا يشير إلى شخصية الضابط، بل ولم يقدم العرض خوفاً من أن يكون أحمد سويداني، الذي يفترض أن يقابله أحد المُنقلبين على أمين الحافظ.

نتلمس في الوثائقيّ كيف كانت دمشق مرتعاً لرجال المخابرات من مختلف أنحاء العالم، وكيف وظف الموساد عبر وحدة العمليات الخارجيّة، اليهود العرب الذين تركوا/ هجّروا من بلادهم للعمل جواسيس في بلدانهم التي عادوا إليها بهويات مزيفة، لكن هناك ما هو مريب في الحكاية كلها، ويتجلى بسهولة تغلغل كوهين/ ثابت في الدولة السورية، إذ يشير الوثائقيّ إلى أن القضاة في المحكمة العسكريّة صلاح الدين الضليّ، سليم حاطوم، رباح الطويل، كانوا أصدقاءه، وسبق أن كانوا في “سهرات” في بيته، ما يعني أن مجموعة من علاقات الصداقة والكحول تكفي كي يذهب أحدهم إلى الحدود السورية- الإسرائيلية في الجولان حينها! وهذا الشأن صعب التصديق. 

اللافت أيضاً هو الاحتفاء الذي لاقاه ثابت بوصفه “مغترباً”، والذي لم يثر شبهة أحد بين 1961 و 1964، أي سنوات نشاطه، لكن ربما يعزى ذلك الى حالة دمشق حينها، نازيون، موساد، CIA، KGB، ملعب مخابراتي لا يمكن بدقة رصد الحكايات فيه.

لكن، لمَ الحديث عن كوهين/ ثابت الآن؟ في الجانب السوري، الموضوع بالنسبة إلى الغالبيّة العظمى لم يعد سوى حكاية من التاريخ، لا أثر له الآن، ما عدا قلة قليلة، ترفض الحديث من الموضوع، من الذين تعرضوا وأسرهم لمضايقات، وزرع فيهم بسبب اقترابهم من كوهين، “وصمة عار”  و”رعب” التعامل مع جاسوس ما زال يلاحقهم وأسرهم، ولو بالخفاء، أما على الجانب الإسرائيلي، فالموضوع لم ينته، هناك مواطن إسرائيلي شُنق علناً، ولم تنته أسرته من الحداد عليه، ولم تتيقن من المسؤول عن موته.