fbpx

المخبر السري، الاشتباه بالاسم، الاعتراف تحت التعذيب… الثالوث الذي قد ينتهي بك في العراق الى حبل المشنقة !

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

” الكثير من المعتقلين، لا سيما الذين اعتقلوا بوشاية كيدية، لا أدلة ضدهم تثبت انتماءهم لتنظيم داعش، لكنهم يُجبرون على دفع مبالغ كبيرة تترواح ما بين 20 – 50 ألف دولار ليُدوّن المحقق أقوالاً تصب في صالحهم، وأما الذين لا تملك عائلاتهم أموالاً كافية، فأنهم سيرغمون، تحت طائلة التعذيب، على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها، كالانتماء لداعش، وجرائم القتل والتفجير وغيرها”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقطع خديجة )66 سنة( في كل مرة مسافة 780 كلم من الموصل مركز محافظة نينوى، حيث تسكن، لتصل الى سجن الناصرية‌ المعروف بسجن “الحوت”، في محافظة ذي قار جنوبي العراق، لزيارة ابنها خالد (30سنة) المحكوم بالسجن المؤبد بجريمة الانتماء لتنظيم داعش.

آخر زيارة أجرتها الأم المتوشحة بالسواد على الدوام، لابنها الذي اعتقل بوشاية مخبر سري في 24 كانون الأول/ديسمبر2017 بعد أشهر من تحرير نينوى وحوكم إثر اعترافات تقول انها “حصلت تحت التعذيب”، كانت في شهر شباط 2023، ولم تمتد سوى ساعتين، وهما اللتين تسمحان بهما إدارة السجن كل أربعة أشهر. 

تضيف وهي تمسح دموعها بكم ثوبها: “أقضي يوماً كاملاً في الذهاب والإياب من السجن.. ظلموه يوم سجنوه، وظلموني عندما وضعوه هناك بعيدا في سجن الحوت”. 

ولعدم وجود سجن إصلاحي في نينوى، بسبب تدمير السجن المركزي الوحيد فيها والذي كان يعرف بسجن بادوش، نُقل خالد كما هو الحال مع غيره من المحكومين من أهالي نينوى الى سجن الحوت: “رغم أن هنالك سجون إصلاحية أقرب، مثل الموجودة في بغداد” تقول الأم محتجة. 

حكاية تشبه، آلافاً غيرها منذ سقوط النظام العراقي السابق في 2003، لمواطنين حوكموا استناداً إلى وشايات مخبرين سريين، إلى أن قررت القيادات الأمنية العليا نهاية 2021 وتحت وطأة الانتقادات المحلية والدولية، اعتماد مبدأ المسح الميداني للتأكد من الموقف الأمني للمشتبه به.

يقول مصدر أمني أنه بدلاً من الاعتماد على شهادة شخص واحد، يتم الآن جمع المعلومات من مصادر عدة، لهم صلة أو علاقة بالمتهم “أفراد أسرته، جيرانه في منطقته السكنية أو زملائه في العمل، مختار المنطقة، عناصر الأمن القريبين من منزله، للتأكد من انتمائه لداعش أو عدمه”.

غير أن “النظرية شيء والتطبيق شيء آخر” يقول المحامي (ف،س)، إذ يؤكد بأن وشاية المخبر السري مازالت فاعلة، والإجراءات الجديدة في جمع الأدلة لم تطبق عملياً إلا في مطلع عام 2023، لكن ليس في جميع القضايا، على حد تعبيره.

اعترافات تحت التعذيب

تضرب خديجة التي تعيش في حي الكرامة بالجانب الأيسر لمدينة الموصل، يديها ببعضهما، وتقول: “اعترفَ بجرائم لم يرتكبها تحت التعذيب”، ترفع سبابتها إلى الأعلى وتُقسم: “والله لو كانت له علاقة بإرهابيي داعش، لكنت أول من تتبرأ منه، لأن داعش مجرمين، لكن والله خالد بريء…”.

تأخذها نوبة بكاء عميقة، قبل أن تتذكر:”أخبرني في احدى الزيارات بأنه أرغم على الاعتراف بالإكراه خلال مراحل التحقيق، وأنه لم يحتمل آلام الضرب المبرحة فأقر بشيء لم يفعله وهو الانتماء لداعش، والاشتراك بعمليات مسلحة ضد القوات العراقية خلال عمليات استعادة الموصل”.

تروي الأمُ تفاصيل أخرى بنبرة حزينة: “محكمة جنايات نينوى أصدرت الحكم على ابني بدليل الاعتراف، لكنها لم تأخذ بنظر الاعتبار ما تعرض له من تعذيب أجبره على ذلك الاعتراف الخيالي”. 

وتصف نقلاً عن ابنها الوضع في سجن الحوت بالمأساوي: “بسبب الأمراض المنتشرة بين نزلائه، وسوء التغذية”، كما تشير إلى أنها فضلاً عن غيرها من ذوي النزلاء يتعرضون لابتزاز علني من قبل الحراس قبل السماح لهم بإدخال الأطعمة والأدوية والملابس لأبنائهم. وتضيف: “زوجة أبني ترفض زيارته معي، بسبب تحرش الحراس بها” حسب تعبيرها.

وتأمل خديجة، أن يحظى خالد بمحاكمة ثانية في أجواء تضمن عدالة سيرها، او أن يقر قانون العفو العام، وهو مطلب للقوى السياسية السنية التي شاركت في الائتلاف الحكومي، لإنقاذ ابنها وآلاف المحكومين الآخرين بتهمة الانتماء لفصائل ارهابية، ومن خلال وشايات المخبر السري واعترافات تقول عوائل المحكومين بانها “قدمت تحت التعذيب”.

تستدرك خديجة، التي لديها فضلاً عن خالد أربعة أبناء آخرين: “أنا واثقة من براءته في حال طبقت العدالة كما يجب”. 

ولا توجد أي إحصائية رسمية ولا حتى غير رسمية لأعداد المعتقلين من نينوى وسواها بتهمة الانتماء للجماعات المسلحة. يقول الناشط المدني سعيد شاكر هاني، أن الكثير من أهالي نينوى والمحافظات الأخرى التي سيطر عليها داعش بادروا إلى التبليغ عن عناصر داعش “لأنهم عاشوا ظروفاً مأساوية تحت سيطرته وفقدوا بسببه آلافاً من أبنائهم فضلاً عن دمار كبير أصاب محافظتهم، لكن مع ذلك هنالك من اعتقل ظلماً بهدف الابتزاز أو لوجود عداوات وثارات “وتكفي أي وشاية لاتهام شخص ما بأنه منتم لداعش، أن يعتقل لأشهر ويدخل حلقات التحقيق المفزعة، ثم يحاكم حتى دون دليل إثبات من شهود وغير ذلك”.

لكن فيما يتعلق بالإحصائيات بشان المعتقلين والموقوفين بنحو عام في البلاد، فقد ذكرت مفوضية حقوق الإنسان في العراق في 2022 إلى أن اعدادهم تقترب من 76 ألفاً، موزعين على العشرات من مراكز التحقيق والاحتجاز والسجون”. 

فيما أعلنت وزارة العدل العراقية في أبريل/نيسان2023 عبر المتحدث باسمها كامل أمين، أن هنالك نحو 60 ألف سجين في السجون العراقي، التي لا تستوعب في الأساس أكثر من 25 ألف سجين.

 “أقضي يوماً كاملاً في الذهاب والإياب من السجن.. ظلموه يوم سجنوه، وظلموني عندما وضعوه هناك بعيدا في سجن الحوت”.

اشتباه مميت!

من بين الأسباب الأخرى الأكثر شيوعاً وراء اعتقال مواطنين بالمحافظات التي سيطر عليها التنظيم في صيف 2014، هو تشابه أسمائهم مع مطلوبين متهمين بالانتماء لداعش، وهنالك من مكث سنوات في المعتقلات بسبب ذلك، وفقاً لمحامٍ في محاكم استئناف قضاء نينوى.

المحامي، الذي رفض كشف اسمه، أكد على أن الإجراءات البدائية المتبعة في التحقيق تبقي أبرياء خلف القضبان لفترات طويلة، وأن كثيرين من هؤلاء تم تعذيبهم وأقروا بجرائم لم يقترفوها، وبعضهم حوكم بالإعدام. حسبما ذكر.

عمر محمد أحمد (42 عاما) من سكنة حي الزهور في الجزء الشرقي من الموصل، واحد من هؤلاء، صدر حكمٌ بإعدامه منتصف 2018، وهو مودع في سجن التاجي المركز، بانتظار تنفيذ الحكم بحقه. 

شقيقه الأكبر سعد، الذي يدير مخبزا وسط الموصل، يروي حكايته من البداية. يقول ان عمر سافر مطلع 2015 إلى تركيا، ولم يعد إلا بعد ستة أشهر من تحرير الموصل من داعش، أي في بداية 2018، وتم استدعاؤه في مركز الشرطة بحي الزهور، لتوجيه بعض الأسئلة إليه. 

ويضيف:” ذهب بكل ثقة، لأنه لم يكن قد ارتكب ولا حتى مخالفة مرورية في حياته، لكنه وجد نفسه هناك مطلوباً بتهمة ارتكاب جرائم ارهابية، وعبثا حاول، وحاولنا لاحقاً أن نثبت للمحققين بأن المطلوب الحقيقي هو عمر محمد أحمد آخر وليس شقيقي، لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء مطابقة أسم الأم، لكانوا عرفوا فوراً أنه ليس هو”.

يقول سعد ذلك بكثير من التأثر ويتابع: “حكم على عمر بالإعدام ولم تصادق لغاية الآن على الحكم رئاسة الجمهورية”، إذ أن من شروط تنفيذ حكم الإعدام في العراق مصادقة رئيس الجمهورية بعد اكتساب الحكم الدرجة القطعية.

ويضيف: “نحاول عبر التواصل مع أعضاء لجنة حقوق الإنسان البرلمانية ومسؤولين حكوميين إعادة محاكمته، لأن التحقيق الذي صدر بموجبه الحكم القضائي أجري في بغداد وانتزعت اعترافات منه بالإكراه”.

هو يزور شقيقه مرة واحدة كل ستة أشهر، ويشعر بحزن شديد حين يراه في كل مرة وقد ازداد نحولاً بسبب ما يصفها سوء المعاملة في السجن، والتعذيب، على حد قوله. 

وحتى مع تفعيل آلية المسح الميداني خلال الأشهر القليلة المنصرمة من 2023، للحد من مشكلة المخبر السري والوشاية الكاذبة المبنية على عداوات شخصية، فان مشكلة تشابه الاسماء لم تحل بشكل نهائي. 

وفقاً لمحامين قابلناهم، فان المعلومات التي تجمع والشهادات المقدمة، لا تقدم ضمانات بإطلاق سراح شخص يتطابق أسمه الكامل مع شخص مطلوب في قضايا الإرهاب، ويقولون أنها ربما تنقذه من حكم قضائي، لكنه في كثير من الأحوال يبقى قيد الاحتجاز لفترات قد تطول، لحين تأكد الأجهزة الأمنية بنحو كامل أنه غير متهم، أو يتم اعتقال الشخص المطلوب أو يتم التعرف عليه.

ويكشف المحامي احمد فتحي، عن أن تمديد فترة الاحتجاز خلافاً للقانون، أحيانا يأتي بهدف الابتزاز، ويؤكد بأن الفترة ما بعد 2017، شهدت بالفعل استفادة عناصر من تنظيم داعش من عمليات الابتزاز تلك، بدفع أموال كبيرة مقابل إطلاق سراحهم.  

تتفق المصادر الأمنية، التي تواصلنا معها، أن الحلقة الأهم في سلسلة الاعتقال هي “التحقيق”، وترى بعضٌ تلك المصادر، أن “التحقيق في نينوى وغيرها من المناطق التي تم تحريرها من داعش، تحول في فترات الى تجارة تدر مبالغ كبيرة على بعض المحققين”. 

ويقول أحدهم، مشدداً على عدم إيراد أسمه أو رتبته: إن “بعض منتسبي وضباط الدفاع والداخلية يدفعون مبالغ كبيرة من أجل نقلهم الى قسم التحقيق، ومنصب أدنى في تلك الأقسام قد يُباع بمبلغ 250 ألف دولار، وهو مبلغ يمكن أن يُجمع من خلال 10 ملفات تحقيق مع معتقلين بتهم الإرهاب”.

ووفقا للمصدر ذاته، فإن ” الكثير من المعتقلين، لا سيما الذين اعتقلوا بوشاية كيدية، لا أدلة ضدهم تثبت انتماءهم لتنظيم داعش، لكنهم يُجبرون على دفع مبالغ كبيرة تترواح ما بين 20 – 50 ألف دولار ليُدوّن المحقق أقوالاً تصب في صالحهم، وأما الذين لا تملك عائلاتهم أموالاً كافية، فأنهم سيرغمون، تحت طائلة التعذيب، على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها، كالانتماء لداعش، وجرائم القتل والتفجير وغيرها”.

ويبلغ التعذيب ذروته في مرحلة التحقيق لإرغام الموقوفين على الاعتراف، وتدون أقوالهم في ملف التحقيق ثم ترفع إلى القضاء الذي يستند إليها في إصدار الأحكام، حسب تأكيد المصدر الذي يضيف قائلاً: “ملف الاعتقالات تحول من مهمة أمنية لملاحقة عناصر داعش، إلى سوق مفتوح لجمع الأموال بذريعة القبض على المطلوبين”.

ويتحدث معتقلون سابقون عن تعرضهم لشتى أنواع التعذيب ابتداء من الضرب بأنابيب بلاستيكية وأسلاك الكهرباء، على جميع أجزاء أجساده وتعرضهم لإصابات بليغة جراء ذلك. أو بسكب الماء البارد عليهم في فصل الشتاء، أو الحبس الانفرادي لعدة أيام، أو الاذلال الجنسي بإدخال قناني المشروبات الغازية في أدبارهم أو صعقهم بالكهرباء والضرب المبرح على الوجه، وتعليقهم في السقوف من أيديهم او أرجلهم وإبقائهم بتلك الوضعيات لساعات عديدة.

يؤكد ذلك عضو لجنة حقوق الإنسان البرلمانية النائب حسين علي مردان، الذي قال بأن مستشار رئيس الوزراء لشؤون حقوق الإنسان، قد استلم خمسة آلاف شكوى، عن عمليات تعذيب جرت داخل السجون العراقية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من 2023. 

معتقل سابق من محافظة نينوى، نخفي أسمه بطلب منه خوفاً من الملاحقة، ذكر بأنه كان موقوفاً في سجن تسفيرات تلكيف (قضاء شمال الموصل) عام 2018، وكان معه موقوفون آخرون، أعترف بعضهم بجرائم لم يرتكبوها بعد تعذيبهم وتهديدهم بهتك أعراضهم”. 

وقال بأن أقربائه نجحوا في عقد صفقة من عناصر أمن للإفراج عنه مقابل مبلغ مالي مقداره 20 الف دولار، دفع على مرحلتين، وتم بموجب ذلك السماح بإدلاء شهود لشهاداتهم. ثم قال:”أنا بريء والكل يعرف بأنني لا علاقة لي بداعش، لكن المصيبة بمن أطلق سراحه وكان بالفعل منتمياً للتنظيم الإرهابي، لقد سمعنا الكثير عن ذلك”.

توثيق أممي لجرائم التعذيب

في 2021 جاء في تقرير لمنظمة الامم المتحدة، أن “سجون ومراكز احتجاز مختلفة في العراق تشهد ممارسة التعذيب ضد المحتجزين”.

التقرير أصدرته بعثة المنظمة في العراق (يونامي) ومكتب المفوضة السامية لحقوق الإنسان، تحت عنوان(حقوق الإنسان بتطبيق العدالة في العراق: الشروط القانونية والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة).

ويغطي التقرير الفترة (من 1 تموز/يوليو 2019 إلى 30 أبريل/نيسان 2021)، ويستند إلى مقابلات أجريت مع 235 محتجزاً، وموظفي سجون، وقضاة ومحامين، بالإضافة إلى أهالي بعض المعتقلين.

ويؤكد التقرير، على أن “أكثر من نصف المحتجزين الذين قابلتهم بعثة يونامي ومكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، تعرضوا للتعذيب في مراكز الاحتجاز”.

ويشير التقرير الأممي الى، أن “القوانين في العراق تجرم التعذيب وتنص على ضمانات إجرائية لمنعه، لكن هذه الممارسة مستمرة في سجون ومراكز احتجاز رسمية لكنها غير معروفة وغامضة في جميع أنحاء البلاد”.

وتتركز معظم الاعتقالات في المدن التي تسكنها غالبية من العرب السنة، بتهم متعلقة بالمادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب، وينظر إليها البعض على أنها “استهداف سياسي وطائفي للسنة في بغداد ومحافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك وشمالي بابل”.

وتنص المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005 على، اعدام المتورطين بالنشاط الإرهابي سواءً كان فاعلاً أصلياً أم شريكاً بالفعل، وذات العقوبة تفرض على “المحرض والمخطط والممول وكل من مكن الإرهابيين من القيام بالجرائم الواردة في هذا القانون”.

كما تنص المادة ذاتها على معاقبة كل من أخفى عن عمد أي عمل إرهابي أو آوى شخصاً إرهابياً بهدف التستر بالسجن المؤبد. 

ويؤكد الأستاذ في كلية القانون بجامعة الحدباء، في مدينة الموصل، مصطفى خلدون أن “الاعتقالات التي نُفذت قبل سيطرة داعش على الموصل في 10حزيران/يونيو2014 كانت “ذات صبغة طائفية تستهدف الشباب من المكون العربي السني، واستمرت بعد استعادة القوات العراقية سيطرتها على المدن التي احتلها داعش في صيف 2017، لتأخذ  طابعا مالياً فضلاً عن الطابع الطائفي”.

ويضيف خلدون: “المتعارف عليه أن القانون واحد، ومن يرتكب مخالفة يجب أن يحاسب، لكن ما نراه في العراق أن قانون مكافحة الإرهاب يُنفذ في الغالب على المتهمين من المكون السني، ولا ينطبق على أمثالهم من الشيعة المنتمين للميليشيات الموالية لإيران”. 

ويحذر خلدون من استمرار هذا النهج القائم على “التمييز العرقي والطائفي في تطبيق القانون”، ويرى أن “الفترة المقبلة ستشهد ولادة جهات إرهابية لا تقل خطراً عن داعش لكنها ستكون في جنوب العراق ووسطه، وعناصرها من الفصائل الشيعية المقربة من إيران”.

في كثير من الأحيان تستند الاعتقالات إلى معلومات خاطئة تكون دوافعها خلافات عائلية ومشاكل شخصية، كما حدث في محافظة بابل، وتحديداً في بلدة جبلة عندما قتلت قوة أمنية 20 شخصا من عائلة واحدة بينهم نساء وأطفال نهاية عام 2021.  وأقرت القيادات الأمنية العراقية، في حينها، بأن “العملية الأمنية نفذت بوشاية كاذبة بسبب وجود خلاف شخصي بين أحد منتسبي القوات الأمنية وعمه، وانتهت بمقتل عائلة عمه بالكامل”.

إلى جهة مجهولة

منذ تصاعد العنف في البلاد بدءا من العام 2005 والى ما بعد تحرير المناطق التي سيطر عليها داعش، ظل مواطنون في نينوى وباقي المناطق السنية، يتداولون أخباراً عن اقتياد قوة يرتدي أفرادها زياً عسكرياً، مدنيين من منازلهم الى جهات مجهولة، أو اختفائهم بعد مرورهم بسيطرة نظامية أو مؤقتة.

دخل الجيش العراقي لأول مرة إلى منطقة حاوي الكنيسة بأيمن الموصل، خلال عمليات التحرير في العاشر من أيار/مايو 2017، وبعد يوم واحد اعتقل ثامر محمد (57 سنة) بعد خلاف تطور الى شجار مع أحد ضباط الجيش الذي: “حاول سرقة مبلغ كبير من المال كان في منزله” وفقا لرواية عائلة المعتقل.

يقول ابنه ريان:”اقتادت قوة من الجيش والدي الى مكان مجهول، ومنذ ذلك التاريخ بات في عداد المفقودين، راجعت مع أقاربي جميع السجون ومراكز الاحتجاز في نينوى وبغداد وبقية المحافظات، وحتى في إقليم كردستان، دون أن نعثر عليه، وسجلات الموقوفين والمعتقلين في جميع السجون كانت خالية من اسمه، لم يعد مستبعداً أنه تعرض للتصفية وألقيتْ جثته في مكان بعيد، أو دفن في مقبرة جماعية”. 

وتقدر جهات غير حكومية أعداد المفقودين بهذا النحو بما يقرب من 800 شخص، تمت اعتقالهم من قبل قوات الجيش والشرطة العراقيين بعد تحرير الموصل، أو من قبل فصائل تابعة للحشد الشعبي تفرض سيطرتها هناك. 

إقرار رسمي

شهادات الأهالي وذوي المعتقلين عما يجري في السجون العراقية وظروف الاعتقال والتحقيق قبلها، يؤكدها مسؤولون كبار، وصرح العديد منهم عبر وسائل الإعلام بما يفيد صدور أحكام وصفوها بالجائرة بحق نزلاء منها أحكامُ “أعدام، سجن مؤبد أو أقل من ذلك لعشر سنوات أو عشرين سنة” استنادا إلى تشابه في الأسماء أو وشاية المخبر السري.

رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، أكد أن “الكثير من أحكام الإعدام بحق المعتقلين لا ترتكز على أدلة قانونية”، وشدد على ضرورة “مراجعة ملف المعتقلين، وإعادة التحقيقات لإنصاف المحكومين الأبرياء الذي لا توجد أي ادلة تدينهم بالإرهاب”.

وقال الحلبوسي في لقاء متلفز أواخر العام 2022  إن “أحد الأشخاص من قرية الموالي في جنوب مدينة الموصل، واسمه أحمد محمد جاسم، صدر ضدهُ حكمٌ بالإعدام بسبب وجود اعترافات أدلى بها خلال التحقيقات، تبين فيما بعد أنها انتزعت منه بالقوة”.

وأضاف أنه “تابع تفاصيل متعلقة بهذا الشخص المحكوم بناءً على طلبات مقدمة من ذويه تؤكد أنه برئ من التهم التي أدين بها، وبعد تدقيق ملفه اتضح فعلا أنه ليس الشخص المطلوب للأجهزة الأمنية، لأن المطلوب من مواليد 1990 والمحكوم عليه من مواليد 1968، كما أن الأجهزة الأمنية في نينوى وبغداد أكدت أن الشخص المحكوم غير مطلوب لجميع الأجهزة الأمنية والاستخبارية”.

وأشار الحلبوسي إلى وجود “مئات المعتقلين الذين صدرت بحقهم أحكاما قضائية وهم أبرياء، ولا يوجد أي دليل مادي أو شهادات على انتمائهم لتنظيم داعش أو قيامهم بأفعال أرهابية أو جنائية”.

ويرى بأن اعتراف المتهمين بارتكاب جرائم دون أن يكونوا قد قاموا بها بالفعل يؤكد “وجود عمليات تعذيب داخل السجون تفضي إلى اعترافات غير حقيقية، وتترتب عليها أحكام قضائية غير منصفة”.

لذلك يطالب رئيس مجلس النواب، وبتأييد من جميع القيادات السنية “بإعادة تفعيل قانون العفو العام، وإعادة المحاكمات لمن صدرت بحقهم أحكام قضائية، إلى جانب تشديد العقوبات على المدانين بالأدلة وشهادات الشهود”.

النائب عن محافظة نينوى محمد نوري العبد ربه كشف هو الآخر(في تشرين الثاني / نوفمبر 2022) عن صدور أحكام بالإعدام بحق العشرات من أبناء نينوى دون أي إدانة، على حد قوله. 

وذكر على حسابه الخاص في فيسبوك، أنه “حصل على ملفات لعشرات المعتقلين من محافظة نينوى، حُكموا بالإعدام استناداً لشهادة المخبر السري دون وجود أي أدلة تدينهم”، مؤكدا أن “عدداً من النواب تبنوا العمل على فتح تحقيق فيما يخص هذا الموضوع”.

وأوضح، أن “حكماً بالإعدام صدر بحق مواطن من نينوى برغم أنه من المتعاونين مع الأجهزة الأمنية، وكان يمرر معلومات ضد مسلحي تنظيم داعش”.

ولفت إلى أن محكمة التمييز أبطلت فيما بعد الحكم ليتضح أن “الحكم الأولي صدر بناء على وشاية من مخبر تتعلق بتهمة الانتماء إلى الإرهاب دون وجود أدلة إدانة”.

مافيات الفساد

ولا يقف استغلال ملف المعتقلين عند مرحلة التحقيق فحسب، فالسجون التابعة لوزارة العدل “تدار من قبل مافيات فساد كبيرة مدعومة من جهات متنفذة في الدولة، ولا يجرؤ أحد أن يوقف سرقاتها المستمرة منذ عام  2003 ولغاية اليوم”، وفقا للجنة القانونية في مجلس النواب العراقي.

عضو اللجنة النائب عبد الكريم عبطان، كشف عن معلومات تؤكد وجود فساد كبير في عقود تجهيز السجون بالمواد الغذائية والتي تعرف بعقود إطعام السجناء.

ويقول: “الفساد في إطعام السجناء يمثل أبرز ملفات الفساد في العراق، فالمبلغ المخصص من قبل الدولة لكل نزيل يوميا هو 9 دولارات، ولا يُنفق عليه فعلياً إلا ما بين (2-3) دولار فقط، بينما تذهب بقية الأموال إلى جيوب الفاسدين”.

ويوضح: “عدد السجون المركزية يصل إلى 37 سجنا، تضم نحو 70 ألف نزيل، والسرقة اليومية من أموال تجهيز النزلاء تعبر عن فضيحة فساد كبيرة داخل السجون يجب أن تتوقف، هذا ناهيك عن الاكتظاظ الحاصل  فيها”.

وبعملية حسابية بسيطة استنادا لما أدلى به عبطان، فإن مبالغ السرقات من عقود تجهيز النزلاء بالطعام فقط تصل لنحو 150 مليون دولاراً سنوياً.  ،

كما يكشف العبطان أيضاً عن “وجود اتفاق داخل تحالف إدارة الدولة الذي تشكلت منه الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، يقضي بإعادة طرح قانون العفو العام من جديد ليشمل الأشخاص الذي ظلموا خلال المحاكمات، وصدرت بحقهم أحكام جائرة”.

وعلى خلفية فضيحة الفساد في عقود التجهيز وجه وزير العدل خالد شواني بإعادة تقييم جميع العقود الخاصة بالسجون للوقوف على حالات الفساد والسرقات.

إحصائيات متضاربة

لا تعلن السلطات العراقية عن الأعداد الرسمية للمعتقلين من المحكومين والموقوفين في السجون ومراكز الاحتجاز بشكل دوري أو من مصدر واحد، لذلك تتضارب الإحصائيات الصادرة عن عدة مؤسسات حكومية. 

مفوضية حقوق الإنسان في العراق العام الماضي أشارت إلى أن “أعداد الموقوفين والمحكومين في مواقف الاحتجاز وسجون دائرة الإصلاح في العراق يقترب من 76 ألفا، و3 آلاف امرأة فضلاً عن ألفَي حدث، منهم 49 ألف محكوم، موزعين على أكثر من 30 سجناً بين مراكز التحقيق والاحتجاز والإصلاحية”. 

في الوقت ذاته، أعلنت وزارة العدل العراقية، أن “أعداد السجناء أكثر من 50 ألفا في مختلف السجون العراقية، ومن مختلف المحافظات، وتتراوح أحكامهم ما بين الإعدام والمؤبد والأحكام المختلفة”.

لكن مفوضية حقوق الإنسان تقول، إن “التغيير في أرقام المعتقلين يؤكد أن أعداد المحكومين والموقوفين في تغيّر مستمر”.

وقضت المحاكم العراقية بالإعدام على 9 آلاف محتجزا، منهم 4000 حكما أكتسب الدرجة القطعية، بانتظار المرسوم الجمهوري، وبحسب إحصائيات غير رسمية، يبلغ مجموع من نُفذت بحقهم هذه العقوبة نحو 340 مدانا بين عامي 2014 و 2020.

ووثق تقرير للأمم المتحدة إرتفاع أعداد أحكام الإعدام التي نُفِّذت في العراق بشكل كبير بين عامي 2005 و 2009. ففي عام 2009 تم إعدام 124 شخصاً. وعلى الرغم من تراجع معدل تنفيذ الأحكام في 2010 إلّا أن أعداد الأحكام المنفَّذة تصاعد بنحو كبير بين عامي 2011 و2013، وبلغ ذروته بإعدام 177 شخصاً شنقاً سنة2013، وأُعدم في الفترة بين الأول من كانون الثاني والثلاثين من أيلول 2014  ستون شخصاً على الأقل.

إجراءات حكومية

الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، كشفت عن اهتمامها بملف التعذيب في السجون، وشكلت في تشرين الثاني 2022 لجنة تتولى متابعة ملف الانتهاكات وسط تشكيك من جهات عراقية بجديّة المعالجة لهذا الملف.

وحذر مرصد (أفاد) المعني بملفات حقوق الإنسان في العراق من ما وصفه بـ” استغلال هذا الملف لإعادة التحقيق مع عناصر الميليشيات المسلحة المتورطين بقتل الناشطين والمتظاهرين العراقيين، الذين ألقي القبض عليهم، في حقبة الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، بحجة أنهم تعرضوا للتعذيب خلال التحقيقات”.

لكن رئيس المنظمة المتحدة لحقوق الإنسان سامي الفيصل، يرى في لجنة السوداني خطوة جيدة لو تبعتها إجراءات جدية لإنصاف الأبرياء في السجون.

وقال الفيصل، إن “العديد من أبناء محافظة نينوى صدرت بحقهم أحكام إعدام بوشاية من المخبر السري، خلال الأعوام التي تلت تحرير الموصل، وأن هنالك أخطاءً كبيرة وظلما وقع بحق الكثير من أبناء نينوى خلال تلك الحقبة”.

ودعا إلى “إعادة محاكمة الأشخاص الذين لا تتوفر ضدهم أدلة إدانة، أو شهود، وكان سبب اعتقالهم تشابه الأسماء أو بلاغ مخبر سري”.

أما المرصد العراقي لحقوق الإنسان فقد وجه رسالة عاجلة إلى رئيس الحكومة العراقية تتضمن جملة الملفات الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان بالعراق ومنها ملف التعذيب وانتزاع الاعترافات بالإكراه.

وقال مدير المرصد العراقي مصطفى سعدون إن “المرصد بانتظار الرد، واتخاذ الإجراءات الخاصة لتنفيذها، وتفعيل ملف حقوق الإنسان في مراكز التوقيف والسجون”.

وأضاف سعدون، أنه “من المؤكد تسجيل عشرات حالات التعذيب التي أفضت إلى انتزاع الاعترافات بالقوة، وصولا إلى  صدور أحكام الإعدام” معربا عن أسفه لـ “عدم وجود إحصائية بأعداد المتوفين جراء التعذيب”.

اعادة المحاكمات تبرئ 50 محكوما

وفي الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات لإعادة محاكمات المعتقلين لاسيما الذين صدرت بحقهم أحكام بالإعدام، ما يزال هذا الملف الشائك يخضع لضغوطات سياسية، ويُستغل للدعاية انتخابية، فالقوى الشيعية تطالب بتنفيذ أحكام الإعدام وتلقي باللائمة على رئاسة الجمهورية التي لا تصدر مرسوما لتنفيذها، أما القوى السنية فتطالب بإعادة المحاكمات من دون أن تأخذ على عاتقها مساراً واضحا لتحقيق ذلك. 

وكان آخر المطاف بيان رسمي صدر مطلع العام 2023 عن قوى الإطار التنسيقي (قوى شيعية موالية لإيران) يطالب رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد بـ “المصادقة على أحكام الإعدام الصادرة من القضاء تمهيدا لتنفيذها”. 

في المقابل تقول قيادات سنية، أن “هناك رغبة من بعض أطراف التحالف الشيعي بتنفيذ أكبر عدد من أحكام الاعدام قبل أن يتم اصدار قانون جديد للعفو العام يسمح بإعادة محاكمات الإعدام وفق اعترافات مشكوك بأمرها، وهو ما وعدت به حكومة الإطار برئاسة محمد شياع السوداني”. 

وكشف برلماني، رفض نشر اسمه، عن وجود تحرك من قبل بعض النواب لإعادة محاكمة معتقلين لا توجد أي ادلة على تورطهم بجرائم الإرهاب.

يقول البرلماني وهو  عربي، ممثل عن نينوى إن “القوى الشيعية ترفض إقرار قانون العفو العام وإن قبلت ومررت القانون فإنها ستمرر قانونا فارغا من محتواه، أي أنه لن يشفع لمئات المعتقلين ظلما الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية بسبب انتزاع اعترافات منهم بالقوة”.

ويؤكد أن اتفاق تشكيل الحكومة الحالية برئاسة السوداني تضمن فقرة التصويت على قانون العفو العام، مبينا أن ما يجري حاليا هو إعادة محاكمة بعض المعتقلين عبر اثبات أدلة جديدة لبراءة المحكومين أو أدلة على تعرضهم للتعذيب وانتزاع الاعترافات بالإكراه، لافتا إلى أن إعادة المحاكمات أنصفت لغاية اللحظة ما يقترب من 50 معتقلا كانت قد صدرت ضدهم أحكاما بالسجن أو الاعدام، مبينا أن بعض هؤلاء المعتقلين أطلق سراحهم والبعض تسير إجراءات الإفراج عنهم من قبل القضاء العراقي.

أنجزت المادة بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.