fbpx

كلفة أن تنتمي إلى “أخويّة آبل”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
حسن زايد

ببساطة، شركات التقنية العملاقة جشعة وتمارس سلوكيات لا أخلاقية بالمجمل تتفاوت في درجة سوئها، وليست أقل سوءاً وانتهاكاً لحقوق الإنسان من “آبل”، فالخيارات كلها تخفي وراء جماليات منتجاتها وجودتها أجساداً ذابت لتضاعف أرباحها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لا يمكن التحدث إلى الشريك من هاتف يعمل بنظام “آندرويد” وتنتهي المكالمة بطريقة رومانسية، كما أن الحديث قد يكون مشحوناً وسلبياً وlow class مقارنة بالمكالمات التي يجريها عشّاق آخرون باستخدام هواتف آيفون”، هكذا نقرأ في دراسة لم تحدث ولم تنشر في أي مكان، لكنها ربما اختصار ساخر للمقال الجدّي الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” العام الماضي بعنوان “تحب الأيفون، وشريكك يحب الأندرويد، هكذا تنجح العلاقة” في تعليق على أنظمة التشغيل ودورها في العلاقات العاطفيّة.

لماذا، أكتب مقالاً لا أجد مقدمة له ويبدأ بدراسة وهمية، واستوحيت عنوانه من مقولة تنتهي بالربح بدل الرأسمالية؟ لأنني- ربما- أريد دخلاً إضافياً لأسدد أقساط أجهزة “آبل” التي أشتريها على البطاقات الائتمانية كي أعيش في عباءة الـeco-system وأشعر بالسعادة والخصوصية، وبأنني جزء من “أخويّة رقميّة” تشاركني الأجهزة الإلكترونية والاهتمامات “البريستيجيّة” ذاتها، بينما أعدّ الفكّة المتبقية في جيبي، وأتأكد مما إذا ما كانت كافية لأصل إلى عملي، كوني واحداً من ملياري شخص مشتركين في هذه الأخويّة، التي تدرّ ربحاً على “آبل” بمقدار 935 مليون دولار من الاشتراكات فقط.

يمكنني ذكر الكثير من  الأسباب التي دفعتني لشراء آيفون بضعف سعر جهاز آخر مواصفاته ممتازة بشهادة كل من استخدمه، ويمكنني بسهولة تقديم حجج دامغة أن الماك- بوك ضرورة، بعد سنوات من استخدام أجهزة “ويندوز” التي  تعمل على نظام تشغيل مقرصن، وأنه شتّان بين الترفيه باستخدام Apple TV وأي جهاز فك تشفير جربته في حياتي، ويمكنني أيضاً تقديم أسباب كثيرة لأجلد نفسي على هذه الفعلة والمساهمة في تعظيم أرباح شركة رأسمالية لا تدفع قرشاً واحداً للتسويق لمنتجاتها، معتمدة بشكل كلّي على أمثالي ليعملوا بهذه الوظيفة مجاناً، (هذه معلومة ليست دقيقة لكنني أعمم محبطاً، إذ أنفقت آبل عام 2020 ما مقداره 1.8 مليار دولار على الإعلانات ودخل الشركة كان 394.3 مليار دولار.

كذبة الخصوصية ووهم العولمة

تعد الخصوصية واحدة من أهم الأوهام التي تركّز عليها جماعة “آبل” عند التسويق لمنتجاتها، ونذكر كيف احتفى العالم بموقف الشركة الصارم عندما رفضت التعاون مع مكتب التحقيقات الفدرالي للوصول إلى معلومات أحد المتهمين بجريمة قتل، مدافعة عن خصوصية المستخدمين ومعتبرة أن تعاونها في هذا السياق يعني فتح أبواب انتهاك خصوصية المستخدمين.

 لكن لا أحد يذكر أن الشركة ذاتها ساعدت وكالة الأمن القومي في إنشاء أنظمة تجسس واختراق، إضافة إلى أخلاقها المرنة تجاه الخصوصية، عندما يتعلق الآمر بالسوق الصيني، إذ سمحت للحكومة هناك بإجراء عمليات تدقيق أمنية على الأجهزة وجمع البيانات من المستخدمين على الخوادم التي تديرها China Telecom.

هنا يتضح أن الشركة العابرة للقارات، تخضع للقوانين المحليّة لكل منطقة جغرافيّة، أي أنها تنافي أحد أهم قوانين العولمة، بصورة ما، هي تتعامل بحسب “الزبون” ومكانه، وثقافة الخصوصية تنطبق إذاً على فئة دون أخرى، ما يعني بصورة ما، أنها تستثمر بحسب السياق، لا بحسب قوانينها، نازعة العولمة عن ذاتها، لتتحول إلى شركات صغيرة ربما، كل واحدة منها تعمل وفق القوانين المحلية وتقدم “تقارير” إلى المقر الرئيسي والسلطة المحليّة، بما يضمن الربح والربح فقط.

واجهة المسؤولية الاجتماعية

يا سلام على الأعمال الخيرية التي تشارك فيها “أبل”! كم هي مفيدة لدعم وتمكين الفئات المهمّشة حول العالم! فمنذ 5 سنوات تقريباً تقدّم الشركة منحاً بما يقارب 10 ملايين دولار لدعم النساء في مجال تكنولوجيا المعلومات، وأكثر من 100 مليون دولار على هيئة أجهزة لمساعدة الطلبة حول العالم، وهي مبالغ طائلة تعادل الفكة التي كنت أعدها في مقدمة مقالي بالنسبة إلى العملاق التكنولوجي، وتساوي أقل من ربع رغيف خبز مقارنة بحجم الضرائب المتهربة من دفعها.

مثلها مثل أي شركة عملاقة في وادي السيليكون، استخدمت الشركة تكتيك “Double Irish” لتحويل إيراداتها من خارج الولايات المتحدة عبر شبكة معقدة من الشركات التابعة الموجودة في أماكن مثل لوكسمبورغ وهولند، أو الملاذات الضريبية في منطقة البحر الكاريبي، وجميعها تتمحور حول “شركتين أيرلنديتين”، والهدف من كل هذه التكيكات هو ببساطة عدم دفع ضرائب التي يذهب معظمها على شكل رواتب وأجور وخدمات ودعم ووظائف يستفيد منها أبناء الطبقات الأفقر.

أي بصورة ما، “تشتري” السمعة الحسنة بالأعمال الخيريّة، وعوضاً عن دفع الضرائب تدخل ضمن دوامة ماليّة، للحفاظ على رواتب الموظفين بصورة لا تتناسب أبداً مع كمية الأرباح التي تحصل عليها، بل يمكن القول إن راتب أحد أفضل “عباقرة آبل” (هكذا تسمي آبل موظفيها)، بالكاد يعادل ثمن جهاز آيفون عند إطلاقه في الأسواق.

أدوات فضائية لكائنات بشريّة

تقدم “آبل” أجهزتها كعصيّة على الإصلاح بيد الهواة، قطع مغلقة لا يمكن فكها أو اللعب بها، وعلى موظفي أبل فقط التعامل معها، كونها تحوي ما لا يمكن للإنسان العادي أن يتعامل معه، لكن هذه الأجهزة الجميلة المشغولة باتقان، النظيفة من أي شائبة تكنولوجية، تأتيكم إلى موائدكم طازجة من مصانع متطورة تجمع بين سرعة العمل ودقة الإنتاج، حيث تجبر قوانينها الصارمة العمال والعاملات- والأطفال في بعض الحالات- على تجميع جهاز الآيفون بوضع اللوحة الأم Mother board فيه خلال 3.75 ثانية، ولو شاءت الأقدار أن يغيب أحدهم عن العمل، فسيكون الآخرون مجبرين على العمل بسرعة أكبر للحفاظ على نمط الإنتاج وتعويض غيابه.

هذه الممارسات نتجت عنها حالات مأساوية لعمال أقدموا على الانتحار كما حدث عندما انتحر 14 عاملاً في شركة Foxconn أحد موردي شركة Apple الرئيسيين، ولم تعدّل الشركة من سياساتها إلا بعدما أجبرت الوفيات شركة التكنولوجيا على التعهد بمزيد من القوانين التي تحفظ حقوق وسلامة العمال، كأن لا يتجاوز عدد ساعات العمل 60 ساعة في الأسبوع. 

علماً بأن هذه أيضاً تعد جريمة، تخيلوا أن تعملوا 10 ساعات في اليوم لستة أيام في الأسبوع ضمن بيئة عمل تعجّ بالوفيات والإصابات الخطيرة، والانتهاكات الجسيمة والأجور غير المدفوعة ومساكن العمال غير الصالحة للسكن، وفوق كل هذا أن تعرفوا أن هنالك تساهلاً في الرقابة على الشركات والتزامها بهذه التعهدات البائسة.

لكن بعد كل هذا، والذي لا يعد نقطة في بحر انتهاكات “آبل”، ما زلت أحمل أجهزتها، وما زلت أسدد أقساطها مع فوائد للبنك أيضاً، والأسباب التي تدفعني للتشبّث في هذا الفخ الرأسمالي الذي أوقعت نفسي فيه، تذكرني بما قاله سلافوي جيجيك عن الفرق بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والرئيس الحالي جو بايدن إبّان الانتخابات الأميركية، “لماذا لا يزال بايدن أفضل من ترامب؟ بايدن يمثل نموذجاً رأس مالياً كبيراً، لكن بشكل أكثر تهذيباً. ولكن، لسوء الحظ، هذا الشكل مهم. فبابتذاله للخطاب العام، كان ترامب يفسد الجوهر الأخلاقي لحياتنا”.

ببساطة، شركات التقنية العملاقة جشعة وتمارس سلوكيات لا أخلاقية بالمجمل تتفاوت في درجة سوئها، وليست أقل سوءاً وانتهاكاً لحقوق الإنسان من “آبل”، فالخيارات كلها تخفي وراء جماليات منتجاتها وجودتها أجساداً ذابت لتضاعف أرباحها. لكن كما أن بايدن ليس أفضل من ترامب، فإن “آبل” ليست أفضل من “شاومي” و”سامسونغ” و”غوغل” وغيرها، لكن الشكل مهم.

إنما هذا لا يعني، ولا ينبغي أن يعني، لأي منا من مستخدمي منتجات هذه الشركات، أن نتعامل من منطلق مغالطات منطقية كالتي تقول مثلاً “المسألة الديموقراطية لن تكون مطروحة في ظل وجود أعداء للأمة كي لا يتخذوا منها متسللاً”، بل يجب أن نستخدم التكنولوجيا ونستمتع بها وفي الوقت نفسه نشير إلى هذه البشاعة ونفضح هذه الجرائم وأن نتوقّف على الأقل عن تجاهل هذا الجانب القاتم لمن يجني الأرباح من برجه.