fbpx

ستة أيام في رواندا… بلد ما زال في طور التعافي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إرث المجازر الثقيل في رواندا يتجسّد في غياب أي حديث عن العرقيات والقوميات، عندما مررنا أنا و”ألبرت” بجانب معمل للشاي في المنطقة، كان ثمة نصب تذكاري صغير يحيي ذكرى 22 عاملاً وعاملة قضوا خلال مجازر 1994. بدر مني حينها سؤال عفوي أخرق وقليل الحساسية، إذ بالمقارنة مع حالات أخرى، كان عدد القتلى في هذا الموقع متدنياً، فتوجهت لألبرت مستفسراً إن كان التوتسي أقلية صغيرة العدد في هذه المنطقة، لكن الشاب الذي ولد في عام المجازر ولم يعشها أبداً هزّ رأسه بشدة وقال: “جميعنا روانديون”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان ختم جواز السفر والدخول إلى كيغالي عبر مطارها سلساً وبلا عوائق، لا تأخير متعمداً بهدف الابتزاز والحصول على رشوة كما حدث معي سابقاً في مطارات لدول من العالم الثالث، ولا أسئلة شيرلوك- هولمزية عن علاقات محتملة لي بجهات مثيرة للشبهات ممّا طرح علي في مطارات عالم أول. بضعة استفسارات سريعة عن سبب الزيارة فابتسامة فختمٌ فكلامٌ فـ” إنجوي يور ستاي إن رواندا”.

توجّهتُ إلى حيث سأقيم في العاصمة الرواندية، وهو غاليري ومقر إقامة فنية يدعى إيفوكا، اكتشفتُ لاحقاً أنه من الوجهات التي قد يزورها سيّاح وفضوليون بناء على نصائح تقدّمها بعض المواقع المتخصصة بالسفر والسياحة (شاهدت فعلاً سائحين أميركيين وكولومبيين خلال الوقت القصير الذي قضيته في إيفوكا بينما استهلكت شوارع كيغالي ومحيطها معظم وقتي خلال يومي الزيارة الأولين). غرفة متواضعة، أهم ما فيها شبكة الوقاية من البعوض، حمام مشترك أكثر تواضعاً (سأندم على ترفعي عليه في تجربتي مع حمامات أخرى)، وإنترنت ينقطع أكثر مما يعمل. يطل المقر الفني على ملعب “غولف” هو الوحيد في البلاد، يرتاده مقيمون أجانب غالباً، أخبرني سائق التاكسي الذي أوصلني من المطار أن رسم ممارسة الغولف ليوم واحد يبلغ 50 دولاراً، وهو مبلغ هائل في بلد لا يتجاوز معدل دخل الفرد فيه 155 دولاراً شهرياً. هذا فيما كانت نسوة وأطفال يتقاطرون إلى قناة تمر بجانب الملعب لملء صفائح مياه.

وعبر جامفي وباتريك، وهما فنانان من أصل تسعة يمارسون نشاطهم الفني في إيفوكا، بدأت أكوّن أفكاراً أولية عن البلد الأفريقي. جامفي يحصل على دخل متواضع مقابل إدارته المكان الذي لا يملكه، أما باتريك فعاطل من العمل وهو خريج جامعي وراقص تقليدي وشيف ورسّام، يجيد الإنكليزية والرواندية والسواحيلية وقليلاً من الفرنسية، والعمل كلمة سر جوهرية في رواندا اليافعة.

بعد تصريف بضعة دولارات لفرانكات رواندية (الدولار الأميركي يساوي 880 فرنكاً رواندياً تقريباً) وشراء خط موبايل من شبكة MTN التي تغزو إعلاناتها البلاد، باشرت رحلتي في العاصمة. وسيلة النقل بالأجرة الأساسية هنا هي الدراجة النارية، وهي متاحة لراكب واحد إلى جانب السائق، والأخير يحمل معه خوذتين ضمن شروط السلامة، خوذة له وأخرى للراكب بالأجرة، وهذه الخوذة تنتقل من رأس إلى رأس عشرات المرات يومياً، مع ما يحمله ذلك من احتمالات انتقال للروائح والعرق والحساسية والأمراض الجلدية.

شوارع العاصمة الرئيسية جميعها معبّدة ونظيفة بشكل لافت، في مقابل بعض الشوارع الفرعية الترابية، قادتني الشوارع المعبدة إلى وجهتي الأولى: “النصب التذكاري للإبادة في كيغالي: وهو متحف يوثق المجازر الشنيعة التي شهدتها البلاد عام 1994، والتي ارتكبها أفراد من عرقية الهوتو التي تشكل الأغلبية الرواندية بحق المواطنين المنتمين إلى أقلية التوتسي العرقية إلى جانب عدد من الهوتو المعتدلين. يقع المتحف أساساً في وادٍ هادئ شهد لوحده مقتل نحو ربع مليون نسمة خلال المقتلة التي امتدت لنحو مئة في ربيع 1994، بين نيسان/ أبريل إلى تموز/ يوليو. رسم الدخول 15 دولاراً، الموظفة التي شاهدت الكاميرا المتدلية من عنقي أشارت إلى أن هناك رسماً إضافياً إن كنت أرغب بالتقاط الصور في الداخل، أخبرتها أنني لا أرغب بذلك، إلا أنني التقطت الصور بعد أن لاحظت عدم وجود موظفين من حولي ولا كاميرات مراقبة.

تبدأ الجولة في المقر عبر عرض فيلم قصير لبعض الناجين من المجزرة والشهود أو من فقدوا ذويهم أو عائلات بأكملها خلال أيام انعدام العقل تلك، يذرف المشاهدون دموعاً غزيرة خلال المشاهدة، أما أنا فعيناي ربعٌ خال، جفافهما على الأرجح متعلق بمجزرة مستمرة في بلدي، توقفت أساساً قبل زمن عن ذرف دموع بخصوصها.

يقدّم المتحف شرحاً تفصيلياً للجذور التاريخية للمجازر الرواندية، ويسهب في الإشارة إلى دور الاستعمارين الألماني والبلجيكي، الأخير على وجه الخصوص، في بناء فروق عرقية على ما يفترض أن يكون أساساً فروقاً طبقية وعشائر مختلطة الأعراق. ومن ثم يقدم المتحف سرداً تاريخياً عن رواندا ما بعد الاستعمار وصراعاتها الداخلية وصولاً إلى الربيع الأسود الذي عرف مقتل مليون رواندي، مفصلاً في ما يتعلق بدور الإعلام التحريضي وتخاذل المجتمع الدولي والعلاقات الفرنسية مع نظام الرئيس الدكتاتور هابريمانا، وكذلك مرحلة النظام الجديد والعدالة الانتقالية وآثار ما بعد المجزرة وغيرها من التفاصيل.

أكثر أقسام المقر إثارة للأسى صالة تضم بعضاً من رفات القتلى وبقايا ملابس إلى جانب مئات الصور العائلية والشخصية لبعض الضحايا.

من الشخصيات التي تحدث عنها المتحف في أكثر من مناسبة، الصحافي حسن نغيزي، محرر صحيفة “كانغورا”، إحدى أبرز وسائل الإعلام التي اعتادت نشر خطاب كراهية وتحريض ضد التوتسي، وحسن، كما يبدو من اسمه، وكذلك من صورة منشورة في المتحف يضع فيها على رأسه غترة خليجية، ينحدر على الأرجح من منبت مسلم (لم يكن للاضطهاد العرقي الذي شهدته رواندا أي علاقة بالدين لا من قريب ولا من بعيد وأغلبية الهوتو القتلة والتوتسي القتلى هم مسيحيون كاثوليك). يشير المتحف كذلك إلى أحد الأبطال الشجعان خلال فترة المذابح: يحيى نسينغيومفا وهو مسلم يقال إنه أنقذ حياة أكثر من ثلاثين شخص، وتروي شاهدة أنقذها نيسنغيومفا وتصدى لشخص كان يحاول قتلها، أن هذا المسلم المنحدر من حي نياميرامبو أخبرها أن القرآن يقول: من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

***

من المتحف، توجهت إلى حي نياميرامبو، وهو حي مختلط يضم عدداً من المساجد المبنية بطراز معماري بسيط وغاية في التقشف، وهذه بشكل عام حال الكنائس أيضاً. والحي هذا ضاج بالحياة، مطاعم ومتاجر وورش. بعض المحجبات يرتدين أغطية رأس ملونة، وأخريات يضعن حجاباً فيما الأكمام القصيرة تكشف عن الساعدين وبعض الذراعين، وقسم آخر يرتدين حجاباً أسود وعباءات أكثر محافظة، عدا عن غير المحجبات من المسلمات وغير المسلمات، فيما ثمة طفلات يضعن الحجاب. قلة من الرجال كذلك ترتدي زياً يبرز تمايزاً دينياً أو تطلق لحاها.

نحو 10 دقائق مشياً على الأقدام تفصل بين مسجد الفتح في بداية حي نياميرامبو والنصب التذكاري للجنود البلجيكيين العشرة الذين قضوا خلال مذابح 1994 سيئة الصيت. الطريق الواصل بين هاتين النقطتين تظلله أشجار تتدلى منها مئات الخفافيش وكأنها ثمار هذه الأشجار، فيما أصوات الوط الصادرة عنها لا تتوقف. اندهاشي من كثافة الوطاويط وتوقفي لالتقاط صور لها أثار اندهاش العابرين المحليين وضحكاتهم أحياناً.

الجنود البلجيكيون كانوا مكلفين بحماية رئيسة الوزراء الرواندية أغاثي أويلنغييمانا، التي قضت هي الأخرى مع افتتاح المجازر، وما تزال ثقوب الجدران الناتجة عن طلقات الرصاص وبقع الدماء شاهدة على ما حصل لجنود حفظ السلام الذين تحصنوا في بناء صغير داخل إحدى الثكنات.

إقرأ أيضاً


أسبوعين أو أقل في باكستان: ليست بلاد حروب

صادف أن يوم وصولي شهد إقامة مباراة تجمع بين رواندا وكوت دي فوار (ساحل العاج) على ستاد نياميرامبو ضمن تصفيات كأس أمم أفريقيا 2019، عندما وصلت إلى الملعب، كانت المباراة قد انطلقت والبوابات قد أغلقت، إلا أن بطاقتي الصحافية والكاميرا كانتا كافيتين لإقناع الشرطي الحارس للبوابة أنني صحافي غربي في مهمة إعلامية، فكان أن دخلت…

والحال أن ما كان يحصل على أرض الملعب لم يثر كثيراً من اهتمامي، فالمنتخب المضيف خسر بهدفين لهدف بعد مباراة قوية دفع فيها ثمن خطأ فادح (من المغري دائماً استخدام صفة فادح بعد كلمة خطأ) ارتكبه حارس مرماه وجاء منه الهدف الأول، إلا أنني معظم الوقت كنت أعطي ظهري للملعب ووجهي باتجاه المدرجات متابعاً أنصار أصحاب الأرض ورقصهم وغناءهم وحماستهم التي لم تتوقف حتى صافرة النهاية، وبعيد إطلاقها تبادل ما تبقى من جمهور التحية مع لاعبي الفريق الخصم. كان مما لفت نظري الحضور الكثيف في المدرجات لسياح وسائحات ومقيمين أجانب وهو ما كان نادر الحدوث في سوريا، على رغم كثافة السياح وطلاب اللغة العربية الأجانب فيها، إذ قليلاً ما شاهدت غربيين يحضرون مباريات المنتخب السوري أو الدوري السوري في أرض الملعب خلال فترة عملي في الصحافة الرياضية في دمشق لسنوات.

العودة من الملعب إلى مقر الإقامة لم تكن يسيرة نتيجة الازدحام الخانق التالي للمباراة من جهة، وجهل السائقين الذين تفاوضت معهم بإيفوكا غاليري وبكيفية استخدام تطبيق الخرائط “غوغل مابس” من جهة أخرى (احتجت بعض الوقت حتى أدركت أن سائقي الدراجات النارية وركاب حافلة توجهت عبرها إلى غرب البلاد، لم يكونوا يدركون استفساراتي ومعنى ما يظهر على شاشة الموبايل وأنا أشير بسبابتي إلى نقطة ما في الخريطة الإلكترونية وإلى ما يفصلها عن مكان وجودي).

***

تكرّرت مشكلة الجهل بـ”غوغل مابس” في اليوم التالي وأنا متجه إلى كنيسة نياماتا في بوغوسيرا التي تبعد من كيغالي نحو 27 كيلومتراً، وهي مقر تذكاري آخر للإبادة الجماعية الرواندية، إذ شهدت مقتل نحو عشرة آلاف مدني توتسي (بحسب ما أخبرني المشرف على المقر، فيما تذكر موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية أنه يضم رفات 50 ألف قتيل)، معظمهم من النساء والأطفال الذين تحصنوا فيها ظناً منهم أن اللجوء إلى الكنيسة قد يردع القتلة.

التصوير داخل بناء الكنيسة ممنوع وفي محيطها مسموح، وبحسب المشرف، فإن هذا المنع يعود لانتشار روايات تنكر حصول المجزرة بالاعتماد على التقاط الصور داخلها. ثمة قبر مخصص للإيطالية أنتونيا لوكاتيلي، وهي متطوعة كانت تعمل مع جمعية كنسية لتعليم الفتيات، وأدلت بتصريحات لوسائل إعلام عالمية عام 1992 حول الانتهاكات المستمرة بحق التوتسي وضلوع الحكومة الرواندية آنذاك فيها، لتلقى حتفها في مساء اليوم ذاته الذي قدمت فيه شهادتها لوسائل الإعلام، حيث قضت برصاص ضابط رواندي أمام المدرسة المخصصة لتعليم الفتيات.

***

خطوتي المقبلة كانت محمية نيونغوي غربي رواندا، وهي أكبر الغابات الاستوائية المطيرة في شرق أفريقيا ووسطها. الوصول إليها كان عبر رحلة استمرت قرابة ست ساعات، مستقلاً حافلة انطلقت من محطة الحافلات المركزية في العاصمة، حيث كنت حينها على الأغلب أبيض البشرة الوحيد في المحطة، في مقابل تفضيل السواح الغربيين للتنقل بين المدن عبر سيارات الدفع الرباعي (ثمن التذكرة قارب 5 دولارات أميركية). المشوار القصير باتجاه كنيسة نياماتا خارج العاصمة صباحاً، ومن ثم الرحلة الطويلة هذه إلى نيونغوي، ورحلات لاحقة كذلك، جميعها كشفت لي الطابع الريفي الكاسح للبلاد: على امتداد الأفق: مزارع شاي وحقول خضراوات وقهوة وأحراش موز وباشن فروت وفاكهة تدعى “البندورة الشجرية” وغيرها، يتناثر فيها فلاحون أدواتهم هي سواعدهم ومعاولهم، فيما تنعدم المكننة الزراعية أو تكاد.

وصلت إلى وجهتي- بلدة كيتابي في محمية نيونغوي ليلاً وسط ظلام دامس، لأستيقظ صباحاً على منظر يأخذ الأنفاس (مبالغة شاعرية طبعاً فلو أخذ المنظر أنفاسي لما قرأتم هذه السطور المملة)، غابات استوائية تغطي تلالاً تظهر بداياتها ولا تُرى نهاياتها، وفي واحدة من هذه الغابات ومزارع الشاي المحيطة بها قضيت نهاري برفقة ألبرت، شاب في الرابعة والعشرين يعمل دليلاً، أنهى بعد عامين من الدراسة ديبلوماً في سياحة الحياة البرية والإدارة السياحية، وهي شهادة منتشرة بين شبان يعملون في القطاع السياحي المنتعش والآخذ بالازدهار.

في الغابة، في حقول ومزارع الشاي، وكما في البلدة نفسها، ومنذ بزوغ الضوء وحتى انطفائه، لا يتوقف أطفال ومراهقون ورجال ونساء وعجائز عن تأمين أساسيات يومية: مياه للشرب ولاستخدامات أخرى، شراء حاجيات، جمع حطب للطبخ والتدفئة، وحصد حشائش كعلف للحيوانات. بعض هذه المهمات، وكذلك وصول الأطفال إلى مدارسهم، يتطلب في معظم الأحيان نزول وديان وصعود تلال ومشياً يستمر لكيلومترات.

إرث المجازر الثقيل يتجسّد في غياب أي حديث عن العرقيات والقوميات، عندما مررنا أنا وألبرت بجانب معمل للشاي في المنطقة، كان ثمة نصب تذكاري صغير يحيي ذكرى 22 عاملاً وعاملة قضوا خلال مجازر 1994. بدر مني حينها سؤال عفوي أخرق وقليل الحساسية، إذ بالمقارنة مع حالات أخرى، كان عدد القتلى في هذا الموقع متدنياً، فتوجهت لألبرت مستفسراً إن كان التوتسي أقلية صغيرة العدد في هذه المنطقة، لكن الشاب الذي ولد في عام المجازر ولم يعشها أبداً هزّ رأسه بشدة وقال: “جميعنا روانديون”، وهو خطاب عام ساد بعد المجازر لمواجهة ما كان سائداً قبلها من تمييز وصراع. وفيما قد يكون موضوع طمس الهويات الفرعية أو إحياؤها مثيراً لجدل لن يتوقف، فإن ألبرت نفسه لم يتوانى عن إخباري عن انتمائه البروتستانتي في مقابل انتماء سكان آخرين في البلدة الصغيرة نفسها للكاثوليكية والميثودية وشهود يهوه والإسلام وديانات تقليدية لم يتأخر الشاب العشريني كذلك عن السخرية من طقوسها ومعتقداتها.

ألبرت الذي أخذني في جولة في البلدة كذلك، كان تقريباً يتبادل التحية مع معظم العابرين، ومن هؤلاء سورين، فتاة عاطلة من العمل تقاربه سنّاً، ترجم لي ما بدا أنه كلام موجه إلي، وأوضح أنها تسأل مازحة إن كان بالإمكان أن أصبح البوي فريند خاصتها، سألته عن غايتها فأكد أنها تأمل بممارسة الجنس مقابل الحصول على بضعة دولارات، مشيراً إلى أن السعر المتعارف عليه لعاملات الجنس في رواندا هو 5 آلاف فرنك رواندي (نحو ستة دولارات)، وطالما أن سورين لا تمتهن هذه المهنة فهي قد ترضى بأقل من ذلك. بالمحصلة، لم أقرأ خلال تحضيري للرحلة ما يشير إلى أن رواندا وجهة رائجة للسياحة الجنسية كما هي حال دول أخرى حول العالم، وبخاصة في جنوب آسيا وشرقها أو شرق أوروبا.

***

كان علي أن أعبر غابات نيونغوي متجها إلى أقصى غرب رواندا، مستقلاً حافلة انتظرتها على الطريق العام نحو 75 دقيقة، إذ لا موعد ثابتاً لعبور هذه الحافلات، وإن كان الطريق الذي قطعته الحافلة والعابر لجبال من الغابات الكثيفة والمتشابكة يستحق هكذا انتظار. في هذا الطريق الساحر، لم يندر أن أشاهد قروداً من فصيلة كولوبوس، لكن المنظر الأكثر شيوعاً على الطريق كان دوريات راجلة ومسلحة للجيش الرواندي، ومن الآن فصاعداً سيصبح مشهد دورية تتألف على الأرجح من ضابط وثلاثة جنود متكرراً، على امتداد المنطقة الغربية المتاخمة لجمهورية الكونغو الديموقراطية (زائير سابقاً)، فيما أخبرني سكان محليون في بلدة كاميمبي التي وصلتها بعد رحلة قاربت ثلاث ساعات أن هذه الدوريات تنتشر على امتداد الأراضي الرواندية ولا تقتصر على المنطقة الغربية.

تقع كاميمبي على ضفة بحيرة كيفو، وهي واحدة من البحيرات الأفريقية العظمى، يصل طولها إلى 90 كيلومتراً وعرضها، في أقصى مناطق اتساعها، إلى 50 كيلومتراً. والبحيرة كذلك هي من المواقع المناسبة لمتتبعي الطيور البرية، والتي شاهدت بعضها في جولة بقارب ذي محرك متواضع دامت أقل من ساعة، وكلفتني 15 دولاراً أميركياً خضت مفاوضات مطولة لتخفيضها من 20.

***

من كاميمبي، انطلقت إلى Volcanoes National Park محمية البراكين الوطنية (ترجمتي الشخصية وليس ترجمة غوغل ترانسليت) في الشمال، رحلة استغرقت سبع ساعات بمحاذاة بحيرة كيفو العظيمة، ومروراً ببلدات تحتضن بعضها متاحف لذكرى الإبادة الجماعية الرهيبة، ومروراً كذلك بمدينة غيسيني التي توقفت فيها لتغيير الحافلة وتناول طعام الغداء.

يتقاطع المطبخ الرواندي مع ما تقدمه موائد دول أخرى في شرق أفريقيا، وثمة نوع رائج من المطاعم يعتمد على طراز البوفيه المفتوح الذي يقدم نحو 10 إلى 12 طبقاً، معظمها مشترك بين هذه المطاعم جميعها بما يشمل الأرز الأبيض، وأرز بيلاو المنكّه والمطعم بالبهارات، والسباغيتي، والبلانتين (أحد أنواع الموز) المطبوخ بصلصلة حمراء، والبطاطا الحلوة، والبطاطا المقلية، والكاسافا، وطبقاً يشبه السبانخ بالزيت وما هو بسبانخ بالزيت ولكن عذاب الجوع شديد، والفاصولياء الحمراء، وعجين الذرة، إلى جانب الدجاج، ولحم العجل، وتنويعات أخرى من أطباق نباتية.

وجبات الإفطار المقترحة في أماكن إقامتي المتواضعة، وكذلك في مطعمين ارتدتهما للإفطار خلال رحلتي القصيرة، كانت شبه ثابتة أيضاً: شاي أفريقي، وهو شاي يضاف إليه الزنجبيل وبعض التوابل والحليب، أو قهوة أفريقية مع الحليب، وصحن فواكه يتضمن بعضاً من هذه: الموز والأناناس والباشن فروت والبندورة الشجرية والبابايا، والأومليت، وخبز الشاباتي.

محمية البراكين الوطنية هي الوجهة الأولى لزوار رواندا، وتحديداً الراغبين منهم برؤية الغوريلات عبر مسير في الجبال، حيث رواندا واحدة من ثلاث دول حول العالم تعيش فيها الغوريلات، واستغلالاً لهذه الميزة، جعلت السلطات الرواندية رسم الدخول إلى المسار الخاص بالغوريلات 1500 دولار أميركي (نعم عزيزي القارئ: ألف وخمسمئة، واحد خمسة صفر صفر)، والحال أن هذه التسعيرة الباهظة تنطبق على أهل البلد، ما يجعل رؤية الأغلبية الساحقة من الروانديين لواحد من كنوزهم الطبيعية أمراً مستحيلاً (تسعيرة الدخول لا تشمل تكلفة سيارة الدفع الرباعي التي لا بد منها لإيصال الزائر إلى حافة الجبل والتي تتراوح بين 40 إلى مئة دولار).

لكن المحمية التي يشرف عليها الجيش، وبالتالي تعود عائداتها إليه، تتضمن خيارات أخرى، منها مسار لتتبع القرود الذهبية Golden Monkey، رسم الدخول إليه 100 دولار، ومسار لبحيرة بيسوكي الواقعة في قلب فوهة بركان بيسوكي (3711 متراً فوق سطح البحر)، وهو ما سمحت لي ميزانيتي بتنفيذه.

امتد المسير لنحو سبع ساعات ونصف الساعة، من الثامنة صباحاً إلى الثالثة والنصف عصراً، حيث انطلقت ضمن مجموعة شملت عائلة ألمانية مكونة من أب وأم خمسينيين وابنتهما العشرينية وزوجين أستراليين في أواخر العشرينات، أصغر منهما قليلاً فتاة وشاب من بلجيكا، وشابة أميركية وأخرى فرنسية والعبد لله الدرعاوي، إلى جانب عشرة أدلاء سياحيين طلاب ديبلوم سياحة الحياة البرية والإدارة السياحية المذكور أعلاه ومجموعة من الجيش الرواندي تتكون من ضابط وأربعة جنود مسلحين، اثنان في مقدمة المجموعة ومثلهما في مؤخرتها، وبحسب شرح موجز قدمه الضابط فإن الجنود مهمتم حماية المجموعة من أي ظهور مفاجئ لحيوانات برية بما يشمل الفيلة والغوريلات التي تتحرك عبر الغابات وقد نصادفها في مسارنا، وهو ما لم يحدث.

تعرف رواندا موسمين مطيرين، أحدهما قصير يمتد من أواسط أيلول/  سبتمبر إلى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، وثانيهما طويل يمتد من أواسط شباط/ فبراير حتى أيار/ مايو. وشَهدْتُ بدايات موسم المطر القصير، وانعكست آثاره مباشرة على وضعي النفسي المرهف، إذ سبقت مسيري نحو قمة بيسوكي ليلة ماطرة خلفت وراءها أرضاً طينية وصخوراً زلقة جعلت من صعود القمة وهبوطها مسألة شاقة أشبه بتعذيب، ضاعفت من صعوبة المسار الصعب أصلاً، واتضح القلق على الوجوه، خشية من إصابات أثارت تساؤلات لدينا حول كيفية التعامل معها إن حصلت، فكيف سيتابع أحدنا طريقه إن أصيب بالتواء بكاحله مثلاً، وهو أساساً يجاهد للاستمرار بكاحلين سليمين.

استغرق الوصول إلى القمة أكثر من أربع ساعات، وتحول الشرط المناخي، في القمة المطلة على البحيرة، في ظرف لحظات، من رطوبة عالية في قلب الأدغال مسببة عرقاً غزيراً إلى برد قارس، تحول أضاف إلى الإجهاد ما يمنع من التمتع بمنظر البحيرة الخلّاب.

غادرت كيغالي صباح اليوم التالي عائداً إلى لندن، وأنا أمني النفس بزيارة أخرى تتيح لي الذهاب إلى وجهات في البلد الأفريقي، لم يتح لي وقتي تضمينها في جدول أسبوعي القصير، أهمها محمية أكاغيرا شرق البلاد ومتحف مورامبي للإبادة الجماعية. فيما مفاعيل الزيارة لم ولن تنتهي، بما يشمل سيلاً من رسائل تصلني على “واتساب” من أشخاص قابلوني خلال الرحلة القصيرة، كان آخرهم الحاج شعبان من بوروندي، البلد المجاور لرواندا، والذي جلست بجواره في الحافلة العائدة بي من محمية البراكين الوطنية إلى كيغالي.


إقرأ أيضاً

لباكستان ملامح أخرى… بِعَدسة ملاذ الزعبي