عشرُ سنواتٍ مرّت على هُتاف الحريّة الأول، عشرُ سنواتٍ على التظاهرة الأولى، على للمرة الأولى التي رُفِعتْ فيها الأيدي وصرخ الشعب “ارحل يا بشار”، حينها بات الشعب قادراً على قول “حريّة… حريّة”. زعزعت الثورة جذور الحياة السوريّة، غيّرت الجميع ولا يمكن بأيٍّ شكل أن يعود السوريون كما كانوا قبل عشر سنوات، هذا التغيير وإن بدا دموياً إلّا أنه أيضاً غيّر الفكرة المقدسة عن الأسد، النظام الذي لا يمسّ، الرئيس الخالد… باتت كلها مصطلحات قابلة للسخرية، والهتاف ضد قدسيتها. “في الداخل” كما يُطلَقُ على سوريا اليوم، هناك حكايات كثيرة لمتظاهرين عادوا إلى منازلهم أو اعتقلوا، هناك ثورات تتمنى لو أنها تحيا، للناس حكايات مختلفة مع ذكريات عشر سنوات على المرة الأولى التي صرخ فيها السوريون من أجل الحريّة.
لمْ نصدق الثورة في البداية
نظامُ الأسد واحدٌ من أكثر الأنظمة القادرة على تدجين شعبه، كيف؟ يفعل ذلك بطريقة ممنهجة، منذ دخول الطفل إلى المدرسة وإلقاء التحية العسكرية أمام العلم السوريّ مردداً: “قائدنا إلى الأبد، الأمين بشار الأسد”، هل حقاً يعنون بالأبد اللانهاية؟ ارتبط الأسد أباً وابناً بالأبد، بانعدام البديل، الأسد هو الأوحد والوحيد، لذلك لم يتخيل كثر من السوريين قيام الثورة، على رغم شعورهم العميق بالغضب، عاشوا تحت مظلة الأسد مرغمين، أو مقتنعين بألوهيته التي حرص على تحصينها يوماً بعد آخر.
في البداية لم يقتنع كثيرون بمشروعية الثورة، تقول ريم (اسم مستعار): “كنّا خائفين، وجدنا في التظاهرات حينها تهديداً وخطراً محدقاً، لا أستطيع معرفة السبب، كنا خائفين وحسب، ولذلك نعم شتمنا المتظاهرين وقلنا ماذا يريدون حقاً؟”، تعرف اليوم ريم ماذا أراد المتظاهرون. بعد سنوات بدأت الصورة الضبابية تتكشف وما عادت العيون تستطيع تجاهل وحشية النظام، قد يبدو هذا الخوف لريم وغيرها طبيعياً في سياق الديكتاتورية التي مورست عليهم منذ عقود، فارتباط سوريا بالأسد يعني خطورة تغييره التي تُفضي إلى الموت مباشرة، بخاصة بالنسبة إلى الأقليات التي ردد عددٌ منها صراحةً: “لو ذهب الأسد سنُمحى تماماً”، هكذا أقنعهم النظام على مرَّ السنوات. في حصص الدروس الدينية خرجَ الطلاب من الأقليات إلى غرفة أخرى ليأخذوا درسهم، مرة في غرفة المكتبة أو غرفة المعلمين وفي أسوأ الأحوال في غرفة المستخدم، بينما بقي الطلاب الآخرون في غرفة الصف، هذا الشعور حين الخروج ونحن نحملُ الكتب كان يعمّق هذا الانفصال، لنعود إلى الصف ونشعر بالغربة وعدم فهم ما تعلمه رفاقنا، كنا 5 أو 6 طلاب من الأقليات في القرية، أهناك طائفية أكثر من هذه اللحظات؟ كان من المريب أن تظهر فكرة الطائفية مباشرة مع بدء الثورة حتى وإن وجِدَت بين المتطرفين، وهو أمر طبيعي لكن النظام أيضاً حرص على تعزيز هذا الخوف، وهذا ما تطرقت إليه فرح (اسم مستعار): “في أول مسيرة مؤيدة خرجنا فيها لدعم الأسد، كان المؤيدون يرددون: لا للطائفية. ورددت كما الجميع مقتنعة بأنَّ سوريا تتعرض لتهديد الانقسام الطائفي، وبعد مرور السنين حين تحوّلت إلى معارضة للنظام فكرتُ لِماذا جعلونا نردد هذا الشعار، على رغم أن الثورة كانت لا تزال في بدايتها ولم تتعدَّ في حينها متظاهري درعا؟ يبدو أنهم كانوا يؤدلجون أدمغتنا مسبقاً”.
ازدياد عدد معارضي الداخل
دعمت وحشية “داعش” والفصائل المتطرفة نظرية الأسد الطائفية وهذا ما دفع البعض لترديد: “الأسد أحسن من غيرو”، هؤلاء الخائفون من الإبادة الجماعية أو النزوح لم يعرفوا أن النظام كان الطرف الأساسي فيها. لكن المفاجئ اليوم أن الأشخاص الذين كانوا يقولون “لو ذهب الأسد سنُمحى تماماً”، اقتنعوا بأن وجوده يزيد الوضع سوءاً يوماً بعد آخر، وأن “داعش” ليس الخطر الوحيد، فديكتاتورية النظام وعدم منحه مكوناته الاجتماعية الأمان والحقوق ذاتها وفصل الدين عن الدولة أوصل الأقليات إلى هذا الخوف المشروع. يُعتبر هذا الأمر بحد ذاته بداية للتغيير حتى لو جاء بعد سنوات، أي مع ظهور معارضين جدد لهذا النظام، كانوا في يوم ما مؤيدين له وهم في زيادة لا يمكن تجاهلها سواء في الدوائر الضيقة أو حتى في الجمل المبطنة بين الغرباء. في ذكرى الثورة قال لي البقّال “إنّها عشرة أيام أتتخيلين!”. فأجبته وأنا خارجة “وقد تأتي عشرة أيام غيرها!”. يعلم النظام هذا ويدرك أن الناس بدأوا يغلون غضباً لذلك يزداد وحشية، يقول جورج: “بات معارضو الداخل أكثر، إنهم يزدادون يوماً بعد آخر، وعلى رغم ظهور بعض العبارات الطائفية في بعض التظاهرات عرفتُ أنها حالة شاذة وبقيت مؤمناً بأن تغيير النظام هو الحل لنتخلص من هذه العبارة، ليست المشكلة في الذين يرددونها بل بمن جعلنا نخاف ونقتنع بأن الآخر خطير”.
لكن يبدو أن ازدياد عدد المعارضين يدفع هذا النظام ليجاهر أكثر بقمعيته وبقدرته على إذلال الناس وتذكيرهم بأن ذكرى الثورة هي مجرد يوم غدا فيه أكثر وحشية، يقول طبيب أسناني: “أهناك أوقح من هذا النظام؟ أصدر قراراً برفع أسعار المحروقات وأسطوانات الغاز في ذكرى الثورة وكأنّه يسخر من كلّ ثائر وأعلن عن مِنحة لا تتعدى 11 دولاراً لمرةٍ واحدة، إنّه يسخر منا حقاً!”.
إقرأوا أيضاً:
“النظام قتل أخي لكنني مؤيدة له”
ماذا عن أولئك الذين خرجوا في التظاهرات وبقوا في الداخل؟ بدا مفاجئاً هذا التحول والتعقيد في ما يخصُّ الثورة السورية، فالبعض كان مؤيداً وغدا معارضاً والعكس حدث كذلك. توفي أخ السيدة فريال (اسم مستعار) منذ 9 سنوات بعدما رمى النظام صاروخاً على المتظاهرين في منطقة الحجر الأسود في ريف دمشق. تقول فريال: “في البداية كنت ضد النظام وهللنا للثورة، لكن بعدما توفي أخي، مات شيء ما داخلنا”، والآن بعد مرور عشر سنوات بات غريباً أن تعود فريال لتقف إلى جانب النظام، مجبرة على الرضوخ للخيار الوحيد، حتى لا تخسر المزيد من أفراد عائلتها، تقول: “جربنا الثورة وتشردنا، يكفينا، نريد بعض الأمان”، هذه النقطة بالتحديد تُظهِر فداحة ما يحصل داخل سوريا واستفحال أزمة الفرد مع الحريّة والنظام.
بقي كثر من المتظاهرين داخل سوريا، منهم لا يزال تحت مراقبة الأمن السوري، فيما آخرون ما زالوا معتقلين، أو عادوا إلى منازلهم وحسب بعدما فقدوا أحبة لهم أو اعتقل النظام عائلاتهم وأبناءهم، عادوا إلى منازلهم بعدما هتفوا للحرية للمرة الأولى. كمَن يرى الشمس لمرة واحدة ثم يعود إلى الظلام، كان هناك أطفال ونساء وعائلات لا يمكن تجاهلهم، هُدد المعتقلون باغتصاب أخواتهم، يقول رامي (اسم مستعار): “في غرفة التعذيب أخبروني أنهم اعتقلوا أخواتي أيضاً وأنهم يغتصبونهن في الغرفة المجاورة، لاحقاً اكتشفتُ أنهم كذبوا عليّ، رددوا مراراً أنهم سيجلبون والدتي من قبرها ويغتصبونها، كان هذا كافياً لأصمت للأبد بعدما أُفرج عني”.
“لو تنازل بشار قليلاً وسمعنا، لما حدث كلّ ما حدث” إنها العبارة التي تتردد على ألسنة كثيرين، يتخيلون سيناريو أقل دموية، كأن يتصوّّرون أن الأسد باشر بإصلاحات حقيقية ومنح مساحة أكبر لحرية الرأي، يقول سمير (اسم مستعار): “لم يكن ضرورياً أن يرحل في حينها، كان يستطيع الاستماع للمحتجين، كان يستطيع تجاوز مجزرة كبيرة، ويبقى على الكرسي لكن الآن بات وجوده مجزرة دائمة”. يقول مجد (اسم مستعار): “حتى اليوم أفكر، لماذا لم يتعامل بحكمة مع التظاهرات في بدايتها؟ أكان صعباً أن يقول أنا معكم وأسمعكم؟ أتتخيلين كل ما كان سيتغير لو تصرف بتفهم أكبر؟ ماذا لو تنازل عن الحكم؟ ما كانت البلاد لتسقط وما كان ليموت أخي خلال خدمته في الجيش”.
يوماً ما سيهاجر كلّ السوريين
يزداد الضغط في الداخل يوماً بعد آخر، تتردد عبارات “نيال الي هاجر” في كلّ زاوية، صلوات وبحث مستميت عن فرصة لقطع هذه الحدود الملعونة كما يطلق عليها السوريون. في كلّ جلسة هناك خطط للهجرة، بحث عن فرصة نجاة واحدة، وقع بسببها كثر ضحيةً لعمليات نصب واحتيال من أشخاص وعدوهم بمغادرة سوريا إلى الأبد، لكنهم اكتفوا بسرقتهم وتركهم في مهب أزمة اقتصادية وإنسانية أكبر. تقول سلمى (اسم مستعار): “تعرفت في إحدى الصفحات إلى مهرّب وعدني بأنه قادر على إخراجي أنا وعائلتي من البلاد، بعنا معظم ممتلكاتنا وأرسلناها له، في المقابل أرسل لي بعض الأوراق التي بدت رسمية في حينها. اكتشفت أنه محتال وأنني خسرت مالي”. مثل هذه الحوادث تكررت مع أشخاص يائسين، يحلمون بعالم لا يخافون فيه الجوع أو انتقاد حكومة البلد، أشخاص وقعوا ضحية جهلهم وعدم درايتهم وتعلقهم المستميت بالهجرة.
حتى المؤيدون يرغبون بالهجرة؟ كان جوابهم واضحاً: “لو أتيحت فرصة لي ولعائلتي لهاجرت”، وكانت هذه النقطة محيرة، لماذا يرغب المؤيدون الذين صفقوا للأسد بالهجرة؟ وكأنَّ فكرة السلطة منفصلة تماماً عن الحياة الكريمة والديموقراطية، الجميع يائس وخائف، عدا أغنياء الحرب أولئك الذين استغلوا الموت بأفضل صورة. أذكرُ صديقة لي كانت هي وعائلتها معارضين بقوة في السنوات الأولى، مع الوقت بدأ كلامها يتغير وطريقة هجومها على الجيش والأمن السوري تبدو أكثر ليناً مرددةً أسباباً تدفع الأمن للتحرك ضد المتظاهرين، ثم فجأة عاد إيمانها ببشار كرئيس مُنقذ. لاحقاً عرفت أن عائلتها كانت إحدى العائلات المستفيدة من الأزمة والتي بنت ثروتها بطرائق غير مشروعة، حينها أدركت أن السيارات الفارهة ومعاطف الفرو باهظة الثمن تعني أن يبقى بشار على كرسيه.
هذه الحكايات جزء صغير من ألم الداخل وتفتته وخساراته المتتالية والتي باتت السيطرة عليها مستحيلة، أحلام السوريين تتجه نحو الهاوية، غول الجوع يكبر، والجميع يغلي غضباً وألماً بانتظار معجزة ما أو ربما ثورة أخرى.
إقرأوا أيضاً: