fbpx

فيكشن: لماذا أيّد الحاج أمين والدول العربيّة تقسيم فلسطين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تسرّبت إلى أروقة الصحافة في مصر معلومات تفيد أنّ الزعيم الفلسطينيّ الحاج أمين الحسيني دخل البلد بجواز سفر مزوّر يحمل اسم معروف الدواليبي، الشابّ الإسلاميّ السوريّ المقرّب من المفتي، وأنّ القصر الملكيّ رتّب للمفتي منزلاً في القاهرة، بعيداً عن الأنظار، حمايةً له من المطالبة الدوليّة باحتجازه…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسرّبت إلى أروقة الصحافة في مصر معلومات تفيد أنّ الزعيم الفلسطينيّ الحاج أمين الحسيني دخل البلد بجواز سفر مزوّر يحمل اسم معروف الدواليبي، الشابّ الإسلاميّ السوريّ المقرّب من المفتي، وأنّ القصر الملكيّ رتّب للمفتي منزلاً في القاهرة، بعيداً عن الأنظار، حمايةً له من المطالبة الدوليّة باحتجازه.
لكنْ حين صدر قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، ولم يكن قد مضى غير أشهر على دخول الحسيني إلى مصر، طلبت أسرة “صحيفة الأهرام” من أحد محرّريها التوجّه إلى منزله لإجراء مقابلة معه. وإذ تساءل المحرّر عن إمكانيّة اختراق السرّيّة التي يعيش فيها، فضلاً عن تشدّد الحكومة المصريّة في الحرص على هذه السرّيّة، أجابه رئيس التحرير أنطون الجميّل بأنّ “الحسيني نفسه يريد أن يتحدّث، كما أنّ الحكومة المصريّة لا تمانع. فهي تملك ضمانات بأنّ ما سيقوله سيكون مفيداً لها وله في الوقت نفسه”.
وبالفعل أجريت المقابلة التي استهلّها الصحافيّ الشابّ بسؤاله عن الوضع الأمنيّ للمفتي.
– لقد وفّرت الحكومة المصريّة لي مشكورةً حمايتها ورعايتها وضماناتها. وأنا تعهّدت لها، مقابل سخائها ولطفها، أن ألتزم الصمت ولا أعطي لأعدائها ولأعدائي فرصة للاقتصاص منّا. لكنّني قررت أخيراً أن أمارس نقداً ذاتيّاً صريحاً ومعلناً لسياساتي في السنوات الماضية، وحين أطلعت حكومتكم على رغبتي هذه وافقتني الرأي وقالت لي إنّ نقدي الذاتيّ انطلاقاً من القاهرة سيفيدها أكثر ممّا يؤذيها، وهي على استعداد لتحمّل أيّة تبعة تترتّب على ذلك.
* لكنْ ما هو النقد الذاتيّ الذي ستدلي به سماحتكم؟
– أنا يا بُنيّ فعلت ما لا يُفعَل. لقد تواطأت مع النازيّين حتّى أنّني ذهبت إلى البوسنة كي أقنع مسلميها بالقتال إلى جانبهم. الإنجليز ظلمونا، واليهود ظلمونا، لكنّ كرهي لهم صار أعمى. صرت مستعدّاً أن أجالس هتلر وبعض قادته وأستمع إليهم وهم يداعبونني بالقول إنّني آريّ لأنّ عينيّ زرقاوان. أنا وصديقي السابق رشيد عالي الكيلاني وصل بنا الأمر إلى حدّ التفكير بأنّ هؤلاء النازيّين سيحرّروننا فيما نظامهم قائم على استبعاد البشر واعتبارهم أعراقاً أدنى. ومع أنّ هذا يعاكس بالكامل تعاليم الإسلام، فقد غضضت النظر عن أفعالهم التي لا يمكن غضّ النظر عنها. واليوم، يكاد الشعور بالذنب يقتلني. طبعاً، أولئك الصهاينة الذين يتّهمونني بأنّ لي دوراً في محرقة اليهود يكذبون. وهل يمكن لفلسطينيّ وعربيّ ورجل دين مسلم أن يؤثّر في سياسات النازيّين الألمان. مع هذا، عرفت بأمر المحرقة وتصرّفت كأنّني لا أعرف. 6 ملايين يا صديقي… أفران غاز… هل هذا معقول؟ الشعور بالذنب يحرمني نوم الليل. يشلّني تماماً. أنا هذا الرجل النحيل الذي يجلس أمامك، أخسر يوميّاً كيلوغراماً وأحياناً كيلوغرامين. فعلاً ما عدت أستطيع… فإلى جانب خطئي العميق دينيّاً وأخلاقيّاً، هناك الخطأ السياسيّ: فتلك المأساة هي التي تسبّبت بتعاظم الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وبإلحاح العالم على وجود دولة لليهود في بلادنا تكون تعويضاً عن مأساتهم وتكفيراً أوروبيّاً عن الذنب. كان ينبغي كي نحمي حقّنا أن يكون صوتنا أعلى في مناهضة هتلر. ما فعلناه، وما فعلته أنا شخصيّاً، كان للأسف معاكساً تماماً.
* أقدّر مشاعرك النبيلة يا سماحة المفتي، لكنْ ألا تظنّ أنّ موافقة الدول العربيّة على قرار التقسيم ستشكّل إساءة كبرى لقضيّة فلسطين العادلة والمُحقّة؟
– اسمعني جيّداً يا بُنيّ. قضيّتنا بالطبع قضيّة عادلة ومحقّة. نحن كنّا نملك بلداً هو بلدنا وفجأةً وجدنا أنفسنا نقتسمه مع يهود جاءت أكثريّتهم الساحقة من أوروبا الوسطى ومن روسيا. كان من الجائر أن يُطلب منّي التعويض ببلدنا عن تلك الجريمة الفظيعة التي نزلت باليهود والتي لا يد لنا فيها. لكنّ المطالبة بالحقّ، حقّنا، لا تكفي بذاتها. الدول العربيّة حديثة الولادة وحديثة الاستقلال. جيوشها لا يزال يدرّبها الأوروبيّون الذين وافقوا جميعاً على التقسيم. علاقاتها الاقتصاديّة والتعليميّة هي معهم. أبعد من هذا، هناك التوافق العالميّ حول قرار التقسيم: من موسكو إلى واشنطن، ومن باريس إلى لندن. إنّني أتفهّم تماماً امتناع الحكومات العربيّة عن الوقوف ضدّ الإجماع العالميّ الجديد. لو فعلوا غير هذا وعارضوا التقسيم لبدوا أوّل المعطّلين لسلام ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وأوّل الراغبين في إضعاف منظّمة الأمم المتّحدة وجعلها أشبه بعصبة الأمم في سنواتها الأخيرة. هذه مسؤوليّة كبرى حيال العالم والسلم العالميّ يصعب تحميلها للدول العربيّة. ثمّ إنّ الشعوب العربيّة وقد استقلّت أخيراً، آن لها أن تعيش بشيء من الاستقرار وأن تحظى بتقدّم لم تعرفه منذ مئات السنين، وهذا لا يتحصّل إلاّ بالانفتاح على العالم وعلى العصر الجديد لما بعد الحرب العالميّة الثانية.
* لكنْ إذا تفهّمنا أوضاع الدول العربيّة، فماذا عنكم أنتم الفلسطينيّون؟ لماذا توافقون على قرار التقسيم؟
– لقد فعلنا كلّ ما في وسعنا. عقدنا المؤتمرات التي حضرها أعيان وسياسيّون ومفكّرون من البلدان المسلمة وصولاً إلى الهند وإندونيسيا. جاءنا متطوّعون كالشيخ السوريّ عزّ الدين القسّام للقتال معنا واستُشهدوا. غضبنا ودعونا إلى مهرجانات شعبيّة وألقينا خطباً في الجوامع حمّست المصلّين كما نظمنا القصائد. أكرم زعيتر ردّ على التحدّيات بما أسماه “قصيدة عصماء من 180 بيتاً” (يضحك بشيء من السخرية). هذا كلّه لم يُترجَم إلى لغة أجنبيّة ولم يحرّك ساكناً في العالم. الأهمّ أنّنا خضنا حرب 1936 – 39 ضدّ الإنكليز والصهاينة، لكنْ إلى ماذا انتهينا؟ إلى حرب ضروس بين الفلسطينيّين والفلسطينيّين، بيننا وبين آل النشاشيبي وأتباعهم. بين فلاّحينا وفلاّحيهم. هذه الحرب دمّرت نسيج وحدتنا الوطنيّة، ونحن ذهبنا بها بعيداً بحيث اتُّهم قريبي الشاب والمجاهد عبد القادر باغتيال فخري بك النشاشيبي في بغداد. هذا أيضاً ما كان ينبغي له أن يحصل، لكنّ العصبيّات والحمولات والتسابق على النفوذ أعمى عيوننا وقلوبنا. فخري وراغب بك النشاشيبي كانا وطنيّين لا يقلاّن عنّي وعن عبد القادر وطنيّةً وحبّاً لفلسطين، لكنّ نظرتهما إلى الأمور اختلفت. كان ينبغي أن تتّسع قلوبنا لاختلافاتنا. ولأنّ هذا لم يحصل، لم تنته المواجهة في 1939 إلاّ وقد دُمّر مجتمعنا بالكامل وبتنا عاجزين وضعفاء جدّاً. فكيف نقاوم الإنكليز والتنظيمات الصهيونيّة الحديثة التدريب والتسليح؟
واليوم أفكّر كم كان مؤلماً عجزنا عن توحيد الحسينيّين والنشاشيبيّين فيما يتعايش ويتوافق يهود قدموا من بلدان ولغات وثقافات لا حصر لها!
ثمّ لنفترض أنّنا رفضنا خطّة التقسيم واخترنا القتال، ما الذي كان سيحصل؟ الهزيمة العسكريّة المؤكّدة كانت ستستجرّ تدخّلاً عربيّاً لن ينجح في تعديل توازنات القوّى مع اليهود، لكنّه يؤدّي إلى تناهُش أجزاء من فلسطين بحيث لا تنشأ دولة فلسطينيّة كالتي ضمنها لنا التقسيم. إخواننا في مصر كانوا سيجدون أنفسهم مضطرّين لتحمّل المسؤوليّة عن قطاع غزّة. أمير الأردن الذي صار ملكاً قبل عام (يضحك بنفس السخرية) سيمدّ يده إلى قسم من فلسطين لتوسيع مملكته الصغيرة. عبد الله لن يقبل أن يكون أخوه الأصغر، المغفور له فيصل الأوّل، قد نال مملكة العراق فيما أعطيت له إمارة شرق الأردن! في الوقت نفسه كانت الدولة اليهوديّة ستغدو أكبر ممّا حدّده لها قرار التقسيم لأنّها هي الأخرى كانت ستقضم جزءاً من الدولة الفلسطينيّة. هل نترك أمراً بمثل هذه الأهميّة لما يسمّيه البعض في دمشق “جيش الإنقاذ”؟ هل نتركه لرجل سخيف ومتقلّب كفوزي القاوقجي؟ دعك من هذه الألعاب ومن إضاعة الوقت. ينبغي على المرء، بشرف وكبرياء لا بمكابرة، أن يعترف بهزيمته: نحن هُزمنا وضاعف هزيمتنا أنّنا تحالفنا مع النازيّة التي هُزمت كذلك. المكابرة لا تفيد يا عزيزي. 
* لكنّ الأراضي التي أعطيت للعرب، بحسب قرار التقسيم، أقلّ خصوبة من تلك التي أُعطيت لليهود…
– أعرف ذلك. هذا أيضاً ناجم عن أنّنا هُزمنا. لكنّ هذا الأمر قابل للعلاج والحدّ من أضراره. يمكننا التوصّل مع قادة الدولة العبريّة إلى مشاريع تنمويّة مشتركة: هم يقدّمون الكفاءات الآتية من أوروبا والرساميل الغربيّة التي قد تصبّ في دولتهم ونحن نقدّم اليد العاملة ونكون جسر التصدير إلى العالم العربيّ. لقد سمعت أنّ ديفيد بن غوريون في هذا الوارد، وأنّ أحد الشبّان المقرّبين منه، واسمه شمعون بيريز على ما أظنّ، متحمّس لذلك. القوميّون المتعصّبون من أتباع مناحيم بيغن واسحق شامير قد يرفضون الأمر، لكنّ الأكثريّة هناك من الإشتراكيّين. وأعرف أنّ الشيوعيّين الفلسطينيّين المتحمّسين للتقسيم، والذين يضمّون يهوداً وعرباً، يعوّلون على مشاريع كهذه. هم قد تراودهم أوهام وأحلام يسمّونها “وحدة البروليتاريا” العربيّة اليهوديّة، لكنْ لا بأس. يمكننا توسيطهم بيننا وبين حزب العمل الإسرائيليّ. سأتّصل بإميل توما أو إميل حبيبي (ويضيف مبتسماً بشيء من التخابث: كم يكثر الإميلات بين الشيوعيّين العرب!). لقد ساءت علاقتي بالشيوعيّين منذ اتّهموني بقتل النقابيّ سامي طه قبل أشهر قليلة. عليّ أن أُصلحها بسرعة. لعن الله الاغتيالات كم أساءت إلى القضيّة. كان ينبغي تجنّبها من الأصل…
* لكنْ ألا يخفيكم أن تكون لدى هذه الدولة اليهوديّة مشاريع توسّعيّة في المنطقة؟
– إسمع يا عزيزي. عدد اليهود أصغر من أن يدفعهم إلى التوسّع وقضم أراض أخرى. لا يوجد العدد الكافي لإسكانهم في الأراضي التي قد يتوسّعون فيها. وهناك ما هو أبعد من ذلك: انظر إلى هذه المنطقة ذات اللون الثقافيّ الإسلاميّ الطاغي. لو نجحت المحاولات الجارية الآن لإقامة أنظمة ديمقراطيّة تساوي بين المواطنين، كما تساوي بين الديانات، ألن ينعكس هذا على اليهود الذين يشعرون بأنّ حياتهم وحقوقهم وحرّيّاتهم مضمونة. إنّ المفتاح هو بيدنا نحن، أبناء الأكثريّة، كي نبدّد المخاوف والمحاذير ونُحدث استرخاء يعمّ المنطقة بكافّة ألوانها. ينبغي أن نملك بعض الثقة بنفسنا ونتصرّف على أساسها. إنّنا نتحدّث ليلاً ونهاراً عن أصالتنا لكنّنا نتصرّف بخوف من وُلد يوم أمس. هذا ما ينبغي أن يتغيّر.
* ثمّة من يقول إنّ دعاة الحرب الدينيّة بين اليهود سيحولون دون احتمالات السلام والانفراج…
– الأكثريّة الكاسحة من الصهاينة علمانيّون. إنّهم يستعملون الدين لإغراء المؤمنين من اليهود، لا سيّما الروس، بالقدوم إلى فلسطين. أصحاب التزمّت الدينيّ لن يتكاثروا، عندهم وعندنا، إلاّ في ظلّ الحروب والتشنّج ممّا ينبغي أن نعمل معاً على تبديده. لكنّ هذا لا يلغي ضرورة التوقّف عن استخدام الذرائع الدينيّة لأجل أهداف دنيويّة، على ما فعل الصهاينة. هذا سيّء كائناً من كان الذين يطبّقونه. لقد بتّ أعتقد، وأنا كما تعلم مُفتٍ من عائلة مُفتين، بأنّ الدين هو ما ينبغي أن يتكيّف مع الحياة ويخدم تطوّرها وتقدّمها، لا أن تُطالَب الحياة نفسها بالتكيّف مع الدين. ولمعلوماتك، فأنا سأعكف على تأليف كتاب يراجع نقاطاً ثلاثاً في التأويل الرائج للإسلام لا أظنّ أنّها تخدم السلام مع غير المسلمين ولا تخدم تقدّمنا جميعاً: مسألة تمييز “أهل الكتاب”، وتعظيم “الفتح الإسلاميّ”، وهذا التداخل بين الدين والقوميّة. لا بدّ من إعادات نظر جذريّة، لا بدّ… هذا لمصلحتنا نحن قبل أن يكون لمصلحة أحد سوانا.
* ألا تخاف من المزايدات باسم فلسطين؟
– المزايدون حتّى الآن لا يخيفون. إنّهم في أكثرهم شبّان لا وزن لهم في بلدانهم، كحال القاوقجي في لبنان، وسوف يسعون إلى جعل فلسطين سلّمهم إلى المجد. ما أخشاه أن يطيح بعض العسكريّين حكوماتهم ثمّ يستخدموا فلسطين كي يمضوا في قهر شعوبهم وتحويل أنظارها عن همومها الفعليّة. هذا احتمال قائم دائماً أتمنّى أن تطوّقه الحكومات العربيّة بمزيد من الديمقراطيّة ومزيد من المساواة. 
*هنا نظر المفتي إلى ساعته، ثمّ وقف واعتذر: لقد حان وقت الصلاة يا بنيّ.
 [video_player link=””][/video_player]