fbpx

ما هي أسباب تراجع الإقبال على العلوم الانسانية في جامعاتنا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم ليست علمية أو تكنولوجية، بحيث يتمكن المهندسون أو الأطباء أو العلماء من تناولها. بل على العكس، هذه المشكلات والتحديات هي بالأساس اجتماعية وتاريخية وثقافية وسياسية. وما لم تستطع المجتمعات العربية اجتذاب أفضل ما لديها من الموارد البشرية إلى مثل هذه التخصصات، سيبقى احتمال مواجهة هذه التحديات ضئيلا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الكثيرون في مرحلة التعليم العالي في جامعات الولايات المتحدة والجامعات الغربية الأخرى هم على بيّنة مما يسمى “أزمة العلوم الإنسانية”. وتتجلّى تلك الأزمة في انخفاض أعداد الطلبة المسجّلين في تخصصات العلوم الإنسانية. وسواء كانت هناك بالفعل مثل هذه الأزمة في العلوم الإنسانية في الجامعات الغربية (من أجل وجهة نظر متشكّكة، انظر “صعود العلوم الإنسانية” بقلم بيتر ماندلر، أستاذ التاريخ الثقافي الحديث في جامعة كامبريدج ) فإن حجم ومدى أزمة العلوم الإنسانية يتّخذ شكلاً مختلفاً تماماً عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي.

إن نسب الطلاب الذين يتقدمون للالتحاق ببرامج العلوم الإنسانية أو الخريجين منها في الجامعات الخاصة ضئيلة للغاية مقارنةً بأولئك الذين هم في جامعات الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. لنأخذ  تخصص التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت كمثال. 

تُعد هذه الجامعة واحدة من أقدم وأعرق المؤسسات الأكاديمية الحديثة في المنطقة العربية. فمنذ تأسيسها في 1866، اعتمدت الجامعة الأميركية في بيروت نموذجاً أميركيّاً للتعليم العالي الذي يمنح حظوة في المنهاج للعلوم الانسانية. ورغم ذلك، حصل ثلاثة طلاب فقط على درجة البكالوريوس في التاريخ في 2016، وطالب واحد فقط في 2017. على النقيض من ذلك كان عدد الطلاب الحاصلين على شهادة البكالوريوس في علم الأحياء (المسار المفضل لدخول كلية الطب) 136 و151 طالباً على التوالي لنفس السنتين. إن الفرق في أعداد الطلاب في القسمين في الجامعة ذاتها كبير بحدّ ذاته، وهو يبقى كبيراً أيضا عند مقارنته مع معظم الجامعات في الولايات المتحدة. ففي جامعة كولومبيا، على سبيل المثال، مُنِح 56 طالباً درجة البكالوريوس في التاريخ مقابل 70 طالباً في علم الأحياء عام 2017. وفي نفس العام، منحَت جامعة لويولا 20 طالباً درجة البكالوريوس في التاريخ و46 طالباً في علم الأحياء. 

فمن بين ما يقرب من 1700 شهادة بكالوريوس مُنحت في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2018، كان اثنان فقط منهم في التاريخ، أي بنسبة صفر في المائة. أما في جامعة هارفارد مثلا، بلغت نسبة شهادات البكالوريوس التي مُنحت في التاريخ 9% في العام نفسه.

مما لا ريب فيه أنّ الأرقام المذكورة أعلاه تختلف من سنة إلى أخرى ومن جامعة إلى أخرى. ومع ذلك، فإن الأمر الصريح الذي لا يستدعى التوقف هو الاختلاف الصارخ في اختيار التخصصات بين الجامعة الأميركية في بيروت ومثيلاتها من الجامعات في أميركا. تظل تلك الفجوة كبيرة بغض النظر عن كيف ينظر المرء إلى الأرقام، أو كيف يتم إحصاؤها.

تَجدُر الإشارة إلى أنّ انخفاض عدد الطلاب الذين يتخصصون في التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت يُعدّ جزءاً من ظاهرة أوسع نطاقاً وليس سمة خاصة بالجامعة أو قسم التاريخ بها. إذ أن القسم الأخير هو وحدة أكاديمية مزوّدة بالموارد اللازمة وتحظى باحترام كبير داخل الجامعة. في واقع الأمر، يتمتع قسم التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت بموارد أفضل من تلك الموجودة بقسم الأحياء بالنظر الى احتياجات كل اختصاص. وحتى وقت قريب، كان رئيس الجامعة ووكيلها الأكاديمي وعميد كلية الفنون والعلوم أعضاء في قسم التاريخ. ولذا لا يوجد سبب للاعتقاد بأن يكون قسم التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت أسوأ وضعاً من أي جامعة لبنانية أو عربية خاصة. على العكس تماماً، يميل الإقبال على قسم التاريخ إلى أن يكون أسوأ حالاً في هذه الجامعات إلى حد يجعل معظمها يُفضّل عدم اعتماد التاريخ من ضمن الاختصاصات المتوفرة.

في الجامعات الخاصة، مثل الجامعة الأميركية في بيروت، حيث يتعيّن على الطلاب (أو الأهل، للدقة) دفع مبلغ كبير في الرسوم الدراسية، يختار عدد قليل منهم التسجيل في برامج العلوم الإنسانية. أما في الجامعات الحكومية، حيث الرسوم الدراسية ليست مصدراً للقلق، تتجلى المشكلة بشكل مختلف. فالغالبية العظمى من الطلبة الذين ينتهي بهم الحال إلى الالتحاق ببرامج العلوم الإنسانية في الجامعات التي تمولها الدولة، هم الطلبة الذين لم تؤهّلهم إنجازاتهم الأكاديمية إلى الالتحاق بأيٍ من الاختصاصات الأخرى المرغوبة. يضمن هذا النمط بشكل عام أن يكون الطلبة خريجو التخصصات الإنسانية في الجامعات العربية العامة من ذوي القدرات والمهارات الأكاديمية المنخفضة. ونتيجة لذلك، يكون من الصعب على هؤلاء الخريجين الحصول على وظائف مرغوبة وذات أجر جيد؛ ما يعزز بدوره من النظرة السلبية تجاه شهادات العلوم الإنسانية ويدفع الطلاب الجيدين بعيداً عنها. المشكلة بالأساس هي نفسها في جامعات المنطقة سواء العامة منها أو الخاصة. بشكل عام، لا يختار الطلبة المتفوقون والمجتهدون دراسة تخصصات العلوم الإنسانية كالتاريخ، ولذلك آثاره السلبية الواضحة. 

أولاً، يعني هذا أن هناك مجالات دراسية ومعرفية هامة ستُحرم من أن تدرسها مجموعة كبيرة من الطلبة ذوي الأهلية. والأهم هو أن المشاكل والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم ليست علمية أو تكنولوجية، بحيث يتمكن المهندسون أو الأطباء أو العلماء من تناولها على النحو الملائم. بل على العكس، هذه المشكلات والتحديات هي بالأساس اجتماعية وتاريخية وثقافية وسياسية. وما لم تستطع المجتمعات العربية اجتذاب أفضل ما لديها من الموارد البشرية إلى مثل هذه التخصصات، بالاضافة الى تثقيف شريحة واسعة من أفرادها المتعلمين في القضايا التي تشكل الهم الأساسي في مجتمعاتهم، سيبقى احتمال مواجهة هذه التحديات ضئيلا.

يتحدث الناس عادةً عن هجرة العقول. وهم بذلك يشيرون إلى هجرة أصحاب المواهب والقدرات إلى أجزاء أخرى من العالم. لكن يبدو أن هناك مشكلة بنفس القدر من الخطورة، إن لم تكن أكبر، وهي ما يمكننا وصفه بالنزيف الداخلي للموارد البشرية، والذي يحدث بسبب توجه هذه الموارد بعيداً عن المجالات الأكثر احتياجا، وهي المجلات الإنسانية والاجتماعية.

هناك عدة عوامل مختلفة تسهم في أزمة التخصصات الإنسانية في الجامعات العربية، وتتراوح هذه العوامل في عمقها ونطاقها. فهناك طبعا المواقف السلبية والمكانة المتدنية التي توصف بها تخصصات العلوم الإنسانية. تتجلى هذه المواقف السلبية بدايةً في بيئات المدارس قبل المرحلة الجامعية، وتستمر في طور ما بعد الجامعة في سوق العمل. تعمل مثل هذه المواقف والتصورات على إبعاد الطلبة الموهوبين والمجتهدين بعيداً عن التخصصات الإنسانية وتوجيههم نحو تخصصات  كالطب والهندسة على سبيل المثال. وبطبيعة الحال، يُبلي هؤلاء الطلبة ذوو الاستعدادات الأكاديمية الجيدة بلاءً حسناً في حياتهم المهنية مستقبلاً. وعلى الرغم من أن نجاحهم هذا يعود بالأساس إلى قدراتهم واجتهادهم، إلا أنه غالباً ما يُعزى إلى مجال دراستهم نفسه، ما يدفع بدوره الطلاب ذوي الطموحات والموهبة إلى دراسة هذه المجالات والابتعاد عن العلوم الإنسانية. تستمر هذه الدائرة المفرغة وتعيد فرض نفسها، حتى تغدو وجهة النظر السلبية عن العلوم الإنسانية نبوءة ذاتية التحقق.

في المقابل، يمكن ان يرد أحدهم بأنّ التصوّر السلبيّ لمجالات العلوم الإنسانيّة في الدول العربيّة ليس نتاج انحيازغير مبرر، وإنّما تفرضه احتياجات السوق الحقيقية. الافتراض الأساسيّ وراء هذه المقولة هو أنّ احتياجات السوق في العالم العربيّ تختلف عنها في الولايات المتّحدة أو الدول الغربيّة. وإلا كيف لنا ان نفسر المواقف الأكثر إيجابيّةً لدى طلاب الجامعات في الدول الغربيّة تجاه الدراسات الإنسانيّة بالمقارنة مع نظرائهم في الجامعات العربيّة. لكن هذا الافتراض حول الاختلاف في احتياجات السوق يبدو بعيد الاحتمال. فمن غير المرجّح أنّ تكون احتياجات السوق لمتخصصين في العلوم والتكنولوجيا في دولة متقدّمة تقنيّاً وعلميّاً كالولايات المتحدة أقل منها في الدول العربيّة.

ربّما تكمن جذور أزمة الانسانيات في جامعات المنطقة في ردّ فعل المجتمعات العربيّة تجاه النفوذ والهيمنة الاستعماريّة الغربيّة. فلقد انبهرت تلك المجتمعات في الغالب بالتقدّم الغربيّ في المجال التقنيّ، وخاصةً ذلك الجانب الذي ساهَمَ في تطوير القدرات العسكريّة الغربيّة. ولهذا كانت إمكانيةُ الوصول إلى هذه القوّة التقنيّة في نظر التحديثيّين الأوائل، مثل محمد علي باشا، خطوةً ضروريّة لبناء مجتمع قويّ ومستقلّ قادرٍ على مضاهاة القوّة الغربيّة.

وعلى هذا الأساس سعت المؤسّسات التعليميّة الحديثة في المجتمعات العربيّة على للحصول على القدرات التقنيّة والعلميّة. ولعب هذا الأمر دوراً محوريّاً في غرس قيم تبجيل العلوم الطبيعية وتطبيقاتها في تلك المجتمعات. فليس من قبيل الصدفة أن نجد مثلا أن 14 من أصل 18 عضواً في المكتب السياسيّ لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، قبيل نجاحهم في انتخابات مصر بعد الاطاحة بنظام مبارك، كانوا إمّا أطبّاء أو مهندسين، اما بين الأربعةَ الباقين فهناك اثنان متخصصان بالعلوم الطبيعية وواحد فقط متخصص في الدراسات الإسلاميّة. بالنسبة لتنظيم كجماعة الاخوان يؤمن بأنّ الإسلام هو الحلّ للمشكلات والاحتياجات السياسيّة والاقتصاديّة والروحيّة في المجتمع، فإنّ من اللافت أنّ يكون هناك عضو واحد فقط في الهيئة القياديّة فيها قد درسَ الإسلام في مؤسسة أكاديمية ما.

 

المشاكل والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم ليست علمية أو تكنولوجية، بحيث يتمكن المهندسون أو الأطباء أو العلماء من تناولها على النحو الملائم. بل على العكس، هذه المشكلات والتحديات هي بالأساس اجتماعية وتاريخية وثقافية وسياسية. وما لم تستطع المجتمعات العربية اجتذاب أفضل ما لديها من الموارد البشرية إلى مثل هذه التخصصات، بالاضافة الى تثقيف شريحة واسعة من أفرادها المتعلمين في القضايا التي تشكل الهم الأساسي في مجتمعاتهم، سيبقى احتمال مواجهة هذه التحديات ضئيلا.

 

كذلك عززت الأنظمة غير الديمقراطية والاستبداديّة (سواء من النمط الملكيّ المحافظ أو الثوريّ ’التقدّمي‘) تلك المكانة للعلوم الطبيعية وتطبيقاتها في الهندسة والطب على حساب الإنسانيات. فقد أتاح لها ذلك تصوير نفسها على أنها مشروع تحديثي، في ظل الحفاظ على مساحة ضيقة جدا من النقاش حول المواضيع الاجتماعية والسياسية والإنسانية.

ومن الجدير بالملاحظة أنه على الرغم من نجاح المجتمعات والأنظمة العربية في غرس الإعجاب والتقدير للعلوم الطبيعية والتكنولوجيا بين مواطنيها، فقد فشلت في خلق أي مساهمة حقيقية في التكنولوجيا أو العلم. وهذا ليس بالمفاجئ. إذ لا يمكن للتقدم العلمي والابتكار التكنولوجي أن يحدث إلا على خلفية من المؤسسات والقيم والأعراف التي تحكمها. وتشمل هذه الأخيرة، من بين أمور أخرى، الممارسات الديمقراطية وسيادة القانون وحرية التعبير. إنشاء تلك المؤسسات السليمة هو الشرط الأساسي لاكتساب القدرة على الابتكار العلمي والتكنولوجي، وليس العكس. فلا عجب أن معظم المواطنين العرب الذين يقدمون مساهمات ملموسة في الابتكار العلمي أو التكنولوجي يفعلون ذلك من داخل المؤسسات الأكاديمية أو البحثية الغربية.

وفي حين ان من الممكن، في أغلب الأحيان،  شراء أو نسخ الابتكارات التكنولوجية والعلمية بسهولة نسبية، فإن ذلك غير متاح في ما خصّ المعايير والقيم المؤسساتية السليمة.  ان فهم المجتمعات لذاتها يعتبرمكوناً أساسيا في بناء تلك المؤسسات والممارسات المرتبطة بها. وهو فهم لا يمكن أيضاً شراؤه أو استنساخه. وهو الذي يعتمد بدوره على فهم المجتمع  لتاريخه والدراية به. الأمر نفسه ينطبق على مواضيع أخرى كالأدب والأنثروبولوجيا والفلسفة.

لا شك أن الجامعة الاميركية في بيروت تبذل جهداً معقولاً لإطلاع طلابها على مجالات لا يختارون التخصص فيها. واتباعاً للنموذج الأميركي، تطلب الجامعة من طلابها الجامعيين التسجيل في عدد من مواد العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، بغض النظر عن تخصصهم. وبالتالي يُضطر الطلاب إلى الاحتكاك بهذه التخصصات والقضايا التي تثيرها. لكن من الواضح أن هذا الأمر لم يعالج المشكلة. فعندما أسأل طلابي، على سبيل المثال، إذا كانوا قد قرأوا أي كتاب عن تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، تكون الإجابة غالبا سلبية بنسبة ساحقة او بالإجماع. وقد يقال إن الحرب الأهلية لا تزال جرحاً حديثاً لم  يتصالح الناس معه بعد. ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو التفسير الصحيح لردود طلابي، لأنني أتلقى نفس الإجابة السلبية عندما أسألهم عما إذا كانوا قد قرأوا أي كتاب تاريخ يتناول فترات أو بلداناً اخرى.

 

إقرأ أيضاً:

مسألة خاشقجي: محاولة في تفسير ما حصل

ماذا يفضّل الكاتب العربي.. التهاب في الحلق أم الموت مقتولاً