fbpx

أورهان باموك لـصديقه الأرمني: أحب صوركَ لأنها جميلة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المصوّر آرا غولر كان متأمّلاً بالديموقراطية حيث يمكن أن يتحدث الفرد بحرية عن أسلافه المقتولين، أو على أقل تقدير البكاء عليهم بحرية، تركيا لم تكن تلك الديموقراطية. نجاح الـ15 السنة الماضية والتي كانت فترة ازدهار اقتصادي مبنية على مال مُقترَض، لم تُستثمر في توسيع الديموقراطية بل لتحجيم الحرية وتكبيلها

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

آرا غولر الذي توفي في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2018، كان أعظم مصوّر ضوئي لمدينة إسطنبول، حيث ولد عام 1928 لعائلة أرمنية، وبدأ التقاط الصور للمدينة عام 1950، صور تجسّد حيوات الأفراد، النُصب التذكارية، فن عمارة الحضارة العثمانية، مساجدها الساحرة، نوافير مدينة إسطنبول الخلابة. ولدتُ بعد أن بدأ آرا التقاط الصور بسنتين، وكنا نعيش في الحي ذاته، إسطنبول التي صورها آرا هي إسطنبول الخاصة بي.

سمعت بآرا أول مرة عندما شاهدت صوره المنشورة في صحيفة “حياة” التركية، الصحيفة المهتمة بعالم الأخبار الخفيفة مع هامش كبير للتصوير الفوتوغرافي، وكان عمي أحد محرريها. نشر فيها آرا صوراً شخصية لمشاهير من كتاب وفنانين مثل بيكاسو ودالي، واحتفى بشخصيات مشهورة في عالم الأدب والثقافة من الجيل التركي القديم مثل الروائي أحمد حمدي تانبينار. عندما ألتقط آرا أول صورة لي بعد نجاح روايتي “الكتاب الأسود” أدركت حينها أنني وصلت لمبتغاي ككاتب.

قام آرا بتوثيق إسطنبول لأكثر من نصف قرن، حتى عام 2000، وانكببت على دراسة صوره، لأشاهد فيها تطوّر المدينة وتحولها. صداقتي به بدأت عام 2003 عندما طلبت الإطلاع على أرشيفه المكون من 900 ألف صورة لمساعدتي في إتمام روايتي “إسطنبول”، كان آرا قد حول منزله الموروث من والده الصيدلاني في حي غالاتا ساراي المجاور لمنطقة بيوغولو إلى مكان لورش العمل ومكتب للأرشيف.

الصور التي أردتها لم تكن تلك التي نشرت والتي كانت معروفة، بل تلك الصور باللونين الأبيض والأسود وهما اللونان اللذان وَصَفت بهما إسطنبول في روايتي، تدرجات اللون الرمادي للحي الذي قضيت فيه طفولتي، والتي كان آرا يمتلك منها أكثر مما توقعت، كَرِه آرا الصور العقيمة، المجردة، إسطنبول السياحية، لقد تلمَّس موضع اهتمامي، ومنحني كامل الوصول لأرشيفه من دون خوف.
تصفحت تقرير آرا الصوري حول المدينة، الذي نشر في الصحافة عام 1950، صوره للفقراء، العاطلين من العمل، والوافدين الجدد إلى اسطنبول من الأرياف، إنها إسطنبول المجهولة التي رأيتها لأول مرة.

كان آرا يعير انتباهه إلى إسطنبول المخفية، للصيادين الذين يجلسون في مقهى ما وهم يصلحون شباكهم، للعاطلين من العمل المخمورين في الحانات، للأطفال الذين يصلحون إطاراً لسيارة ما، في ظل جدار متداع، لفرق البناء، عمال الطرق السريعة، لسائقي السفن الصغيرة وهم يجذفون لإيصال الركاب من طرف جسر القرن الذهبي للآخر، لبائعي الفاكهة وهم يدفعون عرباتهم، لجمهرة الناس المتطاحنة ساعة الفجر منتظرين جسر غالاتا ليُفتَح، لسائق الحافلة الصغيرة في وقت مبكر، والتي هي دليل على ارتباطه بالمدينة عبر سكانها.

كما لو أن آرا يقول لنا: “نعم جمال المناظر في إسطنبول لا نهائي، لكن ما يهم أكثر من ذلك هو الفرد”، التعريف الأهم لوصف أسلوب آرا في التصوير الضوئي هو الارتباط الوثيق بين المناظر والبشر، كما أن صوره ساعدتني في اكتشاف مدى هشاشة وبؤس الناس في إسطنبول عندما تجمع الصورة فرداً بجانب نصب تذكاري للسلطنة العثمانية، أو قرب جامع ساحر، أو نوافيرها الخلابة.
كان يقول لي أحياناً بنبرة يشوبها غضب غريب: “أنت تحب صوري لأنها تذكرك بإسطنبول التي عهدتها في طفولتك”.

“لا، أنا أحب صورك لأنها جميلة” لكن هل الجمال والذاكرة شيئان منفصلان؟ هل الأشياء تفقد جمالها لأننا لم نعتادها، أو لأنها لا تشبه ذكرياتنا؟ كنت أستمتع بمناقشة هذه الأسئلة معه.

أثناء العمل على أرشيفه، كنت أتساءل غالباً، ما هو المميز في هذه الصور لتجذبني بهذه القوة؟ هل ستجذب الآخرين مثلي؟ إنه أمر يصيبك بالدوار، النظر لهذه التفاصيل المهملة والحية في الوقت ذاته في المدينة التي أمضيت طفولتي فيها، السيارات والباعة المتجولون في شوارعها، شرطة المرور، العمال، النساء المحجبات عابرات الجسر في الضباب، موقف الحافلات القديم، ظلال الأشجار، والرسوم على جدرانها.

للأشخاص الذين يشبهونني والذين أمضوا 65 سنة في المدينة ذاتها أحياناً من دون أن يغادروها لسنوات. تتحول مناظر المدينة بالنسبة إلينا إلى فهرس لحياتنا العاطفية. شارع قد يذكرنا بألم الطرد من العمل، ومنظر جسر يعيد إلينا شعورنا بالوحدة أيام الصبا، مركز المدينة قد يذكرنا بنعيم حبنا، زقاق قد يذكرنا بمخاوفنا السياسية، مقهى قديم قد يدغدغ ذكريات عن أصدقائنا الذين يقبعون في السجون، وشجرة صِنار قد تذكرنا بكم كنا فقراء.

في بداية صداقتي بآرا لم نتحدث مطلقاً عن أصوله الأرمنية ولا عن القمع والتاريخ المؤلم المدمر للسلطنة العثمانية بحق الأرمن والذي كان محرماً وممنوعاً الحديث عنه في تركيا، أحسست أنه سيكون من الصعب الخوض في موضوع مروع كهذا والذي سيكون منعطفاً في صداقتنا، هو أيضاً عَلِمَ أن الخوض في هذا الأمر كان سيجعل حياته في خطر في تركيا.

بعد سنوات بدأ يثق بي وبات يتحدث بالشؤون السياسية التي لم يكن يجرأ على التفوه بها لأحد غيري، في إحدى المرات اخبرني أنه تهرَّب من دفع الضريبة الباهظة التي كانت تفرضها السلطنة العثمانية على سكانها من غير المسلمين، وأنه نجح في التخفي من السَوق لمعسكر عمل إجباري لقاء التهرب من دفع الضريبة، مما اضطر عائلته إلى مغادرة منزلهم في غالاتاساراي والاختباء في منزل آخر لشهور، ولم يكن ليتجرأ أحد من العائلة حتى على الخروج من المنزل. تحدث عن ليلة 6 من شهر أيلول/ سبتمبر 1955 حدث آنذاك توتر سياسي بين تركيا واليونان، كان سببه أحداث في قبرص، آنذاك حشدت الحكومة التركية عصابات لمصلحتها جابت المدينة ونهبت محال الأرمن، واليونانيين واليهود ودنست الكنائس والمعابد، وحولت شارع استقلال في مركز المدينة الذي يعبر حي بيوغلو حيث كان منزل آرا القديم ساحة حرب.

العائلات الأرمنية واليونانية كانت تدير معظم المتاجر في ساحة استقلال، عام 1950 كنت أرافق والدتي لمتاجرهم، كانوا يتحدثون التركية بلكنة غريبة، وعندما كنا نعود إلى المنزل، اعتدت على تقليد لكنتهم تلك. بعد التطهير العرقي عام 1955 والذي كان يهدف إلى تخويف الأقليات غير المسلمة في تركيا ودفعها إلى المغادرة والهجرة، رضخوا بمعظمهم للمخاوف وتركوا متاجرهم في شارع الاستقلال ومنازلهم في إسطنبول، وبحلول أواسط عام 1960 لم يبق سوى قلة قليلة منهم.

كنا نتحدث براحة عن التصوير الضوئي وعن أسباب اختياره هذه المواضيع أو تلك، على رغم كل هذا لم نتحدث عن قمع السلطنة العثمانية لجده وجدته. عام 2005 قمت بإجراء مقابلة صحافية وقلت إن لا حريات في تركيا، ولا يمكننا التحدث عن الأهوال التي حدثت للأرمن في عهد السلطنة العثمانية. الصحافة الوطنية ضخمت تصريحي هذا وطُلِبتُ للمثول أمام المحكمة بتهمة شتم الأمة التركية. تهمة كهذه قد تصل عقوبتها إلى ثلاث سنوات سجناً.

بعد سنتين اغتيل صديقي الصحافي الأرمني هرانت دينك في إسطنبول، في الشارع، لاستعماله كلمة “الإبادة الأرمنية”، بعض الصحف بدأت نشر أنني سأكون التالي، بسبب التهديدات التي تلقيتها، والحملة التحريضية الوحشية التي تعرضت لها في الصحافة الوطنية. انتقلت للعيش في مدينة نيويورك، أعود بين الفينة والأخرى إلى إسطنبول لوقت قصير، حتى من دون إخبار أحد بأنني عائد. في إحدى زياراتي هذه حيث كانت أشد الأيام ظلاماً بعد جريمة اغتيال صديقي هرانت دينك، دخلت مكتبي ليرن هاتفي مباشرة، كان الرنين يتوقف ليعود مجدداً، التقطت سماعة الهاتف، ميزتُ صوت آرا “آه لقد عدتَ، أنا قادم إليك” وأغلق الهاتف من دون أن يسمع ردي.

بعد 15 دقيقة دخل آرا مكتبي مقطوع النفس وهو يلعن الجميع وكل الأشياء بطريقته الخاصة، ثم حضنني بجسمه الضخم وبدأ يبكي. الذين يعرفون آرا، يعرفون مدى رباطة جأشه وقوته وولعه بالقَسَم، وهم سيفهمون اندهاشي من بكائه بهذا الشكل، استمر بالقسم وأخبرني “لن يستطيعوا أن يمسوك بسوء”. لم تكن دموعه تهدأ، وكلما استمر بالبكاء تملّكني شعور غريب بالذنب وأحسست بالشلل أكثر، وأخيراً هدأ آرا، وكما تبين كانت هذه كل أسباب مجيئه إلى مكتبي، شرب كأس ماء ومن ثم غادر. التقينا بعض الأحيان بعد ذلك واستكملت بحثي في أرشيفه وكأن شيئاً لم يحدث، لم أشعر بعد ذلك بضرورة سؤاله عما حدث مع جده وجدته، المصور الفوتوغرافي العظيم أخبرني كل شيء من خلال دموعه.

آرا كان متأملاً بالديموقراطية حيث يمكن أن يتحدث الفرد بحرية عن أسلافه المقتولين، أو على أقل تقدير البكاء عليهم بحرية، تركيا لم تكن تلك الديموقراطية. نجاح الـ15 السنة الماضية والتي كانت فترة ازدهار اقتصادي مبنية على مال مُقترَض، لم تُستثمر في توسيع الديموقراطية بل لتحجيم الحرية وتكبيلها، حتى حرية التفكير، وبعد كل البناء والازدهار، مدينة إسطنبول القديمة الخاصة بآرا باتت عنوان كتاب تصوير فوتوغرافي ليكون “إسطنبول الضائعة”.

أورهان باموك
ترجمة: سيبان حوتا

هذا المقال مترجم عن موقع New York Times ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
السوريّون والحق في الصورة: حوار مع مجموعة أبو نضّارة السينمائية
30 مُصوِّرة يروين كيف ينعدم التوازن بين الجنسين في مجال صناعة الموضة
ماذا يقول المصوّر الصحافي عمّار عبدربه عن حرية تصوير الجسد العاري؟