fbpx

الالتزام الدينيّ والتسلية: مفاوضات الشبيبة للسلطات الأخلاقية في الضاحية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
كلمُن

وسط البيئة الشيعيّة الملتزمة دينيّاً في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، تسعى الشبيبة وراء مجالات للتفاعل الاجتماعيّ تتجانس مع معايير الأخلاقيّة والسلوك المقبول كما تعرّفها معتقداتهم الدينيّة. بيد أنّهم، مع هذا، لا يفعلون ذلك على نحو أعمى. لا بل تعيد الشبيبة، في غالب الأحيان، تعريف تلك المعتقدات من خلال ممارساتهم الاجتماعيّة، مفسّرين الفروض بطرق قد تفتح النواميس الأخلاقيّة لتعريفات أعرض، وقد تحدّ منها على نحو أشدّ صرامة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لارا ديب ومنى حرب

وسط البيئة الشيعيّة الملتزمة دينيّاً في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، تسعى الشبيبة وراء مجالات للتفاعل الاجتماعيّ تتجانس مع معايير الأخلاقيّة والسلوك المقبول كما تعرّفها معتقداتهم الدينيّة. بيد أنّهم، مع هذا، لا يفعلون ذلك على نحو أعمى. لا بل تعيد الشبيبة، في غالب الأحيان، تعريف تلك المعتقدات من خلال ممارساتهم الاجتماعيّة، مفسّرين الفروض بطرق قد تفتح النواميس الأخلاقيّة لتعريفات أعرض، وقد تحدّ منها على نحو أشدّ صرامة.[1]

في هذه الورقة نجادل بأنّ ممارسات الشبيبة وخطاباتها في الأخلاقيّات مرنة في انتشارها، لا سيّما حين يتعلّق الأمر بالترفيه، وأنّ تلك المرونة التأويليّة تخدم في إعادة تعريف الأفكار المتّصلة بالتسلية من داخل إطار دينيّ.

فضلاً عن ذلك، فإن الشبيبة الشيعيّة الملتزمة دينيّاً، ومن خلال عمليّة مزاولة وإعادة تعريف لحدود التصرّف الأخلاقيّ في علاقته بالترفيه، تساعد في (إعادة) إنتاج و(إعادة) بناء حالة إسلاميّة في المدينة تمتدّ أيضاً إلى مناطق أخرى في البلاد[2]. ومع أنّ الحالة هذه لا تملك حدوداً جغرافيّة، يمكننا تخيّل وسطها يتمركز في الضاحية. فهي، على مدى السنوات العشر الماضية، شهدت نموًّا، سواء في المدى أو في الشعبيّة، كما امتدّت وتشعّبت إلى جوانب من الحياة لا تني تتّسع[3].

ونحن، في هذه المقالة، نركّز على وجهين من مشروعنا المتعلّق بالشبيبة: الأوّل يتّصل بتصوّر التغيّر الجيليّ كواحد من عوامل ظهور قطاع حيويّ للترفيه في الضاحية، والثاني يدور حول الطرق التي عبرها تعيد الشبيبة الملتزمة دينيّاً تعريف الأفكار التي تتّصل بالأخلاقيّة المناسبة وبالترفيه من خلال استحضار تنويعة من الخطابات النافذة بما فيها سلطاتهم التفسيريّة الخاصّة. وفي ما يلي، سوف نناقش أوّلاً المحيط ونبحث في توقيت الشبيبة لإعادة صياغتها للترفيه المناسب، كما للتعاطي معه، ومن ثمّ سوف نستخدم مثال ممارسات الترفيه في المقاهي والمطاعم الجديدة كي نحلّل صورة هذا التحوّل الأخلاقيّ.

لماذا الآن؟

ثمّة عوامل عدّة تفسّر انتشار وتشعّب مناقشة الشبيبة لأمكنة الترفيه وممارساته في السنوات المبكرة من هذا القرن.

العامل الأوّل طارئ سياسيّ: ذاك أنّ تحرير جنوب لبنان في أيّار (مايو) 2000 عيّن اللحظة التي فيها، بحسب أحد الذين حادثناهم، «أراد الناس أن يخرجوا ثانية، خصوصاً الشبيبة منهم… هذا طبيعيّ، لأنّه صار ممكناً أن نتنفّس». وكانت هذه الرغبات الاستهلاكيّة قد وجدت ما يعكسها ويشجّعها باستثمارات رأس المال الخاصّ في قطاع الترفيه. فقد أخبرنا رجال أعمال كثيرون، أغلبهم مهاجرون شيعة عادوا إلى لبنان، أنّهم شعروا، بعد 2000، بثقة تحملهم على الاستثمار في قطاع الترفيه، لا سيّما بعدما لاحظوا نجاح مشروعين كبيرين للترفيه أقيما في الضاحية: «فانتاسي ورلد» World Fantasy و«قرية الساحة التقليديّة»[4]. وجاء الاستقطاب السياسيّ الذي تلى لاحقاً حرب تمّوز (يوليو) 2006 ليحصّن المقاطعات الجغرافيّة ويحدّ من الحِراك كما يصلّب الممارسات ذات المرتكَز الطائفيّ. فما إن بدأ الناس بالخروج إلى أمكنة أقرب إلى بيوتهم، حتّى استجاب المقاولون لطلب الأسواق الجديدة هذه. وفي المسح الذي أجريناه صيف 2008 لنصف مقاهي الضاحية ومطاعمها، تبيّن أنّ 64% ظهرت أصلاً ما بين 2006 و 2008. [5]

عاملٌ ثانٍ تمثّل في التحوّل الاقتصاديّ-الاجتماعيّ للطائفة الشيعيّة اللبنانيّة على مدى الثلاثين عاماً الماضية ونموّ النزعة الاستهلاكيّة في الطبقة الوسطى الشيعيّة. والحقّ أنّ التسعينات شهدت تصليب طبقة وسطى شيعيّة مدينيّة في لبنان، جاء بنتيجة دعم مؤسّساتيّ، تعليميّ وطائفيّ، أكبر، فضلاً عن تحويلات الهجرة والنسب المرتفعة للعائدين منها. هكذا بدأت شبيبة الطبقة الوسطى الملتزمة دينيّاً في الضاحية تطالب بالحصول على الترفيه الذي طالما تمتّعت به الشبيبة في أحياء بيروت الأخرى. لكنّ هذا رافقه اشتراط التطابق بين نشاطات الترفيه وبين أنماط حياتهم.

كذلك يتّصل الطلب على الترفيه المتناسب مع المعايير الأخلاقيّة المستندة إلى أشكال محدّدة من الإسلام بنموّ مجال إسلاميّ عامّ وعالميّ (إيكلمان وأندرسون 1999، وسالفاتوري ولوفين 2005)، وبنموّ أسواق لأزياء المؤمنين (بالاسيسكو 2007، ومورس وتارلو 2007)، وبالرحلات الدينيّة الترفيهيّة (الحمارنة وستاينر 2004، وبينتو 2007)، وبالسلع الدينيّة والممارسات المرتبطة بالذكرى (ستاريتّ 1995، وشيلكه 2006).

فالمقاهي والمطاعم الجديدة معطوفة على انتشار تقنيّات المواصلات الجديدة (مثل البلوتوث والانترنت) توفّر فسحات يمكن للشبيبة أن تلتقي فيها وتتبادل الغزل وتعيد تعريف حدود الحميميّة الملائمة لهذه العمليّة (مهدافي 2009). ومن خلال مطالباتهم بأنماط معيّنة من فسحات الترفيه، تشارك شبيبة الضاحية في ثقافة رأسماليّة عالميّة ونامية تظهّر بناء هويّات مسلمة محدّدة.

على أيّة حال فالعوامل السياسيّة والاقتصاديّة لا تكفي لتفسير النموّ الذي شهده قطاع الترفيه الذي يستجيب لمعايير أخلاقيّة معيّنة، ولا لتفسير أشكال جديدة من الحميميّة الملائمة في أوساط الشبيبة. في المقابل، فإنّ ما نقترحه هو أن نأخذ بعين الاعتبار التحوّل الجيليّ الذي حصل في الضاحية كي نتوصّل إلى فهم أكمل لأسباب ظهور المواقع والنقاشات والآراء الجديدة حول الترفيه.

جيل من الشبيبة «أكثر أو أقلّ» التزاماً

أنتجت التعبئة الإسلاميّة الشيعيّة في لبنان، في أواخر الستينات وفي السبعينات[6]، تغيّرين مهمّين لفهم المحيط المعاصر. الأوّل يتّصل بالمؤسّسات الشيعيّة العديدة، الاجتماعيّة والسياسيّة، بما فيها حزب الله ومؤسّسات السيّد محمّد حسين فضل الله[7] التي توفّر مصادر متعدّدة للسلطة الأخلاقيّة. أمّا التغيّر الأساسيّ الثاني فأنّ طريقة حياة معيّنة، ملتزمة دينيّاً وأخلاقياً ومرتكزة على أفكار وممارسات دينيّة محدّدة، أصبحت لكثيرين في الضاحية جزءاً من معرفة ورغبات طبيعية وبديهية، وفي الآن عينه معياراً اجتماعيّاً غالباً ما يُتوقّع من السكّان أن يتطابقوا معه. وظهور هذا الجيل من الشبيبة الملتزمة دينيّاً إنّما يوفّر حلقة التفسير المفقودة التي تفهم ما وراء الانتشار الراهن، في الضاحية الجنوبيّة، للممارسات والأفكار الجديدة في ما خصّ الترفيه.

لقد نُظّرت قوّة التحوّلات الجيليّة في إنتاج التغيّر الاجتماعيّ من منظورات عدّة. فمدرسة برمنغهام للدراسات الثقافيّة أشاعت تصوّراً عن الشبيبة بوصفهم ناشطين في بناء ثقافات فرعيّة (sub-cultures)

لا سيّما من خلال أشكال سلعيّة (هبديج 1979، هول وجيفرسون 1993). وقد لاحظ مؤخّراً كثيرون من الأنثروبولوجيّين أنّ آثار التركيز اللاحق على «ثقافة الشبيبة» كمفهوم قابل للتطبيق العالميّ، كانت تصنيم الشبيبة كفئة اجتماعيّة، وتصنيم المقاومة، في معزل عن المضامين السياسيّة – الاقتصاديّة والتاريخيّة والعلائقيّة (كول 2007، كريستيانسن وآخرون 2006). فهم يعاودون تصدير فهْم مانهايم الكلاسيكيّ للأجيال (1952: 291) كما أُنتج وعُرّف من طريق المشاركة في التجارب والمفاهيم، كما عبر الاستجابات المحدّدة لأحداث تاريخيّة وثقافيّة بعينها (بورنمان 1992، كريستيانسن وآخرون 2006). إلى ذلك أضاف كول ودرهام (2007) توكيدهما على أنّ الشبيبة، رغم كونها أساسيّة للتغيّر الاجتماعيّ ولمخيّلته، يجب فهمها بالعلاقة مع أجيال أكبر سنّاً ومع بُنى الدولة[8]. فمن داخل هذا السياق التخاطبيّ ندرك ظهور الفئات الجيليّة عبر عمليّات اجتماعيّة، بالعلاقة مع سياقات ثقافيّة وسياسيّة – اقتصاديّة محدّدة. ونضيف إلى ذلك العلاقة بالمعايير ومصادر السلطة الأخلاقيّة المتحوّلة.

ففي الضاحية تمثّل الشبيبة الملتزمة دينيّاً اليوم تحوّلاً جيليّاً بارزاً عن جيل «الطليعة الإسلاميّة» السابق، والذي أدّت جهوده، في الستينات والسبعينات والثمانينات، إلى الحركة الإسلاميّة الشيعيّة اللبنانيّة وإلى مأسستها. فذاك الجيل غالباً ما وجد نفسه يصارع تصوّرات أهله عن الأخلاقيّة، المصنّفة «تقليديّة»، من أجل أن يكون قادراً على تفعيل فهمه الجديد للالتزام الدينيّ والسياسيّ سواء بسواء. وهذا ما يتعارض على نحو حادّ مع تجارب شبّان الضاحية اليوم، ممّن ولدوا وتربّوا في الثمانينات، بعد انقضاء النضالات المفتاحيّة التي خاضها جيل الطليعة. هؤلاء ربّما درسوا في مدارس إسلاميّة وشبّوا على الدنيا في بيئة صارت معايير الالتزام الدينيّ العامّ تحصيل حاصل فيها، فيما حزب الله أتمّ تحوّله إلى حزب سياسيّ شعبيّ وقويّ.

في الوقت نفسه، كانت الأمّهات في جيل الطليعة يعبّرن عن قلقهنّ من أنّ بناتهنّ لسن مؤمنات بما يكفي، وبعضهنّ اقترحن وجود ارتباط ما بين هذا الأمر وبين المدى الذي بلغته الطائفة ككلّ فأصبحت أشكال معيّنة من السلوك الإيمانيّ معياراً مهيمناً (أنظر ديب 2006: 226-8). بكلمات أخرى، كنّ قلقات لأنّ الممارسة الملتزمة للشبيبة أصبحت معياريّة، وربّما محكومة بالروتينيّة، كما أقلقهنّ أنّ تلك الممارسة لم تُبن بالتعارض مع معايير بيئتهنّ. وقد خاف الكثيرون من الأهل من أن تتولّى تلك المعياريّة استحضار التخلّي عن الالتزام، أو عدم الصدق فيه، عند أبنائهم.

والحقّ أنّ المخاوف هذه ليست مختلَقة بالكامل. وما نقترحه نحن هو أنّ ذاك القلق لدى الأهل إنّما يشير إلى الطرق التي بدأت بها الشبيبة تسائل الحدود الأخلاقيّة المتّصلة بأفكار الترفيه وممارساته، وذلك عبر التعامل مع مصادر متعدّدة للسلطة الأخلاقيّة، بما فيها تأويلاتهم لها. فلئن كان الالتزام الدينيّ مهمّاً بالتأكيد لكثيرين من شبيبة الضاحية اليوم، ولئن كان الكثيرون يعيشون نمط حياة ملتزماً، فإنّ التعريفات التي يعطونها لنمط الحياة ذاك تختلف عن التي أعطاها جيل الطليعة. وبالتحديد، فإنّ تفاصيل الممارسة هي ما يُناقَش ويعاد تعريفه بشكل متواصل.

سلطات أخلاقيّة متعدّدة

ما يسهّل التنوّع في آراء الشبيبة حول مسائل الترفيه، وفي تأويلها لها، وجود مصادر متعدّدة للسلطة الأخلاقيّة في الطائفة الشيعيّة اللبنانيّة. فإذا كانت الشبيبة المسلمة الملتزمة دينيّاً غالباً ما تتوقّع التطابق بين الحيّزات وسلوك الناس المحيطين بها وبين معايير أخلاقيّة محدّدة، فإنّها، في الوقت نفسه، حسنة الاطّلاع على التأويلات الكثيرة لعلماء الدين، كما تستسيغ النظر إلى المعايير الأخلاقيّة بمرونة أرفع من نظرة جيل الطليعة. ومن خلال هذه المرونة تمكّنت هذه المجموعة الحاسمة critical mass والجديدة من الشبيبة «الأكثر أو الأقلّ التزاماً دينيّاً» من الاسهام في أمرين معاً: سوق جديدة لأنواع معيّنة من أمكنة الترفيه، وحمل رغبات جديدة، وهذا أساسيّ، في إعادة تعريف ما يشكّل سلوكاً مناسباً وأخلاقيّاً في مجال الترفيه.

وأحد العوامل التي تساهم في صنع المقاربات الشبابيّة للسلطة الأخلاقيّة سهولة الوصول إلى الآراء المؤثّرة. وهو ما تسهّله كثرة الإعلام المطبوع والسمعيّ البصريّ الذي تنتجه مكاتب القادة الدينيّين وحزب الله. فالمواعظ والقرارات والنصائح والتوصيات يصار إلى توزيعها في كتب ومناشير وأشرطة وأقراص مدمّجة، كما تُبثّ من خلال المواقع الألكترونيّة والتلفزيون والراديو. كذلك، وفي ما خصّ التأويلات والإرشادات الدينيّة للقادة الدينيّين، تسعى الشبيبة وراء المعرفة، وتحرزها، عبر لقاءات شخصيّة كما عبر التليفون ومداولات الانترنت. فوق هذا، تتحدّث الشبيبة في ما بينها عن آراء مختلف القادة والعلماء، وتمرّر المعلومات التي قد تكون، وقد لا تكون، دقيقة أو راهنة.

ويُعدّ حزب الله صوتاً أساسيّاً في تعريف حدود السلوك الأخلاقيّ في ما يخصّ معاً أمكنة الترفيه والتصرّفات الأخلاقيّة الملائمة. والحزب، رسميّاً، لا يلجأ إلى فرض الكثير من المعايير الأخلاقيّة المرتكزة إلى الدين، إلاّ أنّ هناك حدوداً أخلاقيّة معيّنة تختلف فيها الضاحية الجنوبيّة عن أجزاء أخرى من بيروت، والأبرز في ذلك أنّ المقاهي والمطاعم هناك لا تقدّم الكحول. فحزب الله سوف يمارس الضغط على مطعم يحاول تقديمها، وقد يلجأ إلى تهديد صاحبه. لكنّ الأوضاع، على أيّة حال، نادراً ما تتدهور إلى هذا الحدّ لأنّ المجموعة الأعرض ستمارس الضغط الاقتصاديّ أوّلاً، وهو ما يتكفّل بإخراج أيّة مؤسّسة تحاول تقديم الكحول من المهنة. وثمّة حدود أخرى أشدّ مرونة بكثير. وعلى رغم شعبيّة حزب الله، فإنّه يبقى مجرّد واحد من مصادر السلطة الأخلاقيّة في الطائفة، وهو يجهد من دون انقطاع لتوضيح الحدود بين السلطة السياسيّة وبين نشر معايير اجتماعيّة محدّدة.

وثمّة صوت أساسيّ آخر في تعريف حدود السلوك الأخلاقيّ هو السيّد محمّد حسين فضل الله الذي بات، منذ التسعينات، مرجع تقليد. وفضل الله هو المرجع الأكثر شعبيّة في لبنان، يليه آية الله خامنئي والعراقيّ السيّد السيستاني، وللاثنين ممثّلون في الضاحية يقدّمون الإرشاد والنصح لأتباعهما.

وتعود شعبيّة فضل الله إلى وضوح لغته، وبراغماتيّته، واعتقاده أنّ على التأويل أن يسهّل للشبيبة طرق حياتهم، حينما يكون ذلك ممكناً، من داخل حدود الإسلام. وهذا مهمّ خصوصاً في السياق التعدّديّ للبنان حيث يُمتدح فضل الله كمرجع لبنانيّ. وهو، في النتيجة، يؤثر أن يُنظر إليه بوصفه أكثر تقدّميّة من الآخرين في عدد واسع من المسائل، وفي عدادها الجندريّ والجنسيّ منها. وفضل الله أيضاً يشجّع أتباعه باستمرار على استخدام قدرتهم على المحاكمة العقليّة وتأويل الأوضاع الطارئة بأنفسهم. وهذه الدعوة إنّما يربطها توتّر دائم بممارسة تقليد للمرجع، أو كما أوضح لنا السيّد جعفر، نجل فضل الله وممثّله، يُعنى فضل الله بإرشاد الناس إلى ما هو حرام وما هو حلال، لكنّه مضى قائلاً: «هناك مستوى آخر يتّصل بالحياة عموماً، هو مستوى الأخلاق أو القيم. والمستوى هذا ينهض على خيار الفرد ذاته، ما يعني أنّه يختار أن ينخرط أو لا ينخرط تبعاً لمزاجه وبيئته وثقافته وللمنظور الذي من ضمنه يرى إلى دوره في الحياة. هناك أناس ربّما كانوا لا يرغبون في التوجّه إلى أمكنة معيّنة، وآخرون يخالفونهم… وما دام الانسان لا يأتي عملاً محرّماً في هذه الأمكنة، فلن تكون هناك مشكلة في ذهابه إليها».

هذا التوكيد على مسؤوليّة الفرد أساسيّ في الظهور الحاليّ للشبيبة الملتزمة دينيّاً بوصفها الجيل الذي يدفع حدود السلوك الأخلاقيّ. أبعد من هذا، لئن أبقى جيل الطليعة تأويله الشخصيّ، في شكل عامّ، ضمن الأطر التي وضعها فضل الله وحزب الله، فإن الشبيبة دفعت الحدود التي أرساها المراجع المذكورون وأثارت النقاشات التي تمسّ مساحات الحياة على اختلافها، فيما بدا القادة الدينيّون متجاوبين. فمثلاً، يرى كثيرون من علماء الدين الشيعة أن الصلاة لا تجوز للّواتي تكون أظافرهنّ مصبوغة، بينما يرى آخرون أنّ المرأة إذا أتمّت وضوءها أوّلاً، ومن ثمّ صبغت أظافرها، كانت صلاتها مقبولة. في تمّوز (يوليو) 2008، وصفت لنا شابّات رأي فضل الله بالتالي: إذا تركت المرأة أحد أظافرها غير مصبوغ، بات في وسعها أن تصبغ باقي أظافرها وتصلّي. وما يعنيه هذا أنّه ما دام في وسع الماء أن يعبر، من دون عائق، ظفراً غير مصبوغ، غدا في وسعها أن تكمل وضوءها. مع هذا ففي نيسان (ابريل) 2009، كان جواب فضل الله عن السؤال نفسه، وقد سئل عبر موقع إليكترونيّ هذه المرّة، أن صبغ الظفر لا دخل له في الوضوء، ولهذا كان في إمكان المرأة أن تغتسل وتصلّي بأظافر مصبوغة.

شبيبة الضاحية اليوم متعلّمة، تجيد القراءة ولديها توقّعاتها كما تُحسن التعامل مع الإعلام. وبنتيجة ذلك تجد نفسها مدعوّة للانخراط في هذه النقاشات حول المعايير الأخلاقيّة وإعادة تشكيلها، وقادرة عليه. ونحن إنّما نصف هذه الشبيبة بأنّها «أكثر أو أقلّ التزاماً دينيّاً» كي نؤكّد المرونة التي يميلون إلى اعتمادها في مقاربتهم أكثريّة المعايير الأخلاقيّة وتعريفهم لإيمانهم. فالتزامهم بدينهم ليس، في أيّة حال من الحالات، زيّاً موحّداً، بل اعتنق الكثيرون تعاليم فضل الله عن المسؤوليّة الأخلاقيّة الفرديّة معتبرين أن التديّن أمر يقوم الفرد بتطويره. كذلك فإنّ التصوّر الفردانيّ عن الإيمان يسير في موازاة ذاتيّاتهم الاستهلاكيّة، ويلائم التحوّلات الانتقاليّة الأعرض باتّجاه هويّات دينيّة مرتكزة على السلع.

والآن ننتقل إلى إيضاح الطرق التي عبرها تشحذ الشبيبة وتختار المعايير الأخلاقيّة من خلال أمكنة ترفيه ملائمة.

أمكنة الترفيه والمقاهي والمطاعم «المناسبة»

منذ 2000 والشبيبة التي تعيش في الضاحية الجنوبيّة تتمتّع بوقت فراغها في أمكنة جديدة تتكاثر في أحيائها. فهناك ما لا يقلّ عن 75 مقهى ومطعماً جديداً في المنطقة، تعجّ بزبائن حسني الملبس يدخّنون النرجيلة ويشربون كوكتيلات العصائر ويأكلون المناقيش على الصاج، متبادلين الكلام والنظر ومستمتعين بخصوصيّة مكان مختبئ وراء عمود أو بكونهم جزءاً من مشهد. وتُستخدم المقاهي كذلك للتباهي. فالصبايا، أكنّ مرتديات مناديل الرأس أم لم يكنّ، يذهبن إلى المقهى متجمّلاتٍ وجميلات الملبس حيث يستعرضن أجسادهنّ. أمّا الشبّان فيتباهون بأسماء الأصناف التجاريّة وباقي علامات التمايز الظاهرة. وفي بعض الأحيان يكون هذا دالاًّ على الالتزام الدينيّ أو السياسة، عبر لبس خواتم «شيعيّة» أو استخدام خطب نصر الله أو نشيد حزبيّ ما كنغمة للتليفون الجوّال[9].

ويبدو أغلب هذه الأمكنة الجديدة حريصاً على توفير ديكور حديث الأسلوب لروّاده، وعلى تقديم الطعام الرفيع النوعيّة والقهوة والنراجيل وخطّ انترنت مجّانيّ. خذ مثلاً كافيه دوت يت، وهي مقهى إنترنت في مكان بارز من الضاحية الجنوبيّة، حيث يظهر طاقم الندلاء بثياب سوداء على الموضة وهم يقّدمون قهوة «إلّي»Illy الإيطاليّة مع حلويات فرنسيّة وعربيّة ونراجيل. المقهى مزيّن على نحو مبهج، حيث تتلاءم كراسيه وطاولاته بما يشكّل مكعّبات حمراء وسوداء وبيضاء، وأرضيّات وحيطاناً ذات لمعان عاكس يترك أثراً صقيلاً ملمّعاً. وقد عبّر كثيرون من الشبّان والشابّات عن استحسانهم ما يوفّره هذا المقهى وأخرى مشابهة لها من خدمة وجماليّة بالغتي الجودة. وهم في وصفهم هذه الأمكنة، كانوا يؤكّدون كم كانت مواقع الترفيه المتوفّرة سابقاً في أحيائهم «أقلّ من المستوى»، على عكس تلك المتوفّرة في بيروت، ولو أنّ الأخيرة لم تكن تحترم، بما فيه الكفاية، المعايير الدينيّة التي يجهدون للتوافق معها. ومواقع الترفيه الجديدة في الضاحية الجنوبيّة تجمع هذين النوعين من المتطلّبات: النوعيّة الجماليّة والخدميّة مع ما يسمّيه كثيرون «الجوّ المحافظ». وبالفعل فما يميّز هذه الأمكنة عن غيرها في بيروت جاعلاً منها أمكنة «ملتزمة» – أو ربّما كان التعبير الأفضل «أخلاقيّة»، أنّها تسهّل نمط حياة بعينه أو تتوافق معه، والمقصود ذاك النمط الذي يصفه الروّاد، كما الملاّكون، بأنّه «شرعيّ» أو «محافظ»، أو غالباً مجرّد «مناسب». وهذا يعني، في أكثر الأشكال بساطة، بأنّه لا يقدّم الخمور أو لحوم الحيوانات غير المذبوحة بالطريقة الحلال. وهو يعني أيضاً، في بعض الأحيان، أنّهم لا يعزفون موسيقى رقص ولا يسمحون بالتبادل الحميم بين جنسين، علماً بأنّ هذين القيدين الأخيرين عرضة للمناقشة أكثر، وهما من المعايير الأخلاقيّة التي تتعرّض إلى مساءلة الشبيبة اليوم.

كيف تمارس الشبيبة (إعادة) تشكيل هذه الحيّزات من خلال مفاوضتها للمعايير الأخلاقيّة وللرغبة، في آن معاً، في تحصيل التسلية والالتزام الدينيّ؟ المفاوضات هذه تجري عبر التواصل مع المصادر الرسميّة للسلطة الأخلاقيّة في الضاحية. ففضل الله والقادة الدينيّون الآخرون يؤثّرون بشكل غير رسميّ في ما خصّ مدى ملاءمة الأمكنة المتعدّدة، مقترحين معايير للسلوك أكثر منهم مقيّمين مواقع بعينها. ففضل الله، وبما يتجانس مع آرائه حول المسؤوليّة الفرديّة، يؤكّد أنّ كلّ ما يقع وراء القوانين الواضحة في الحلال والحرام، حيث يندرج الخمر واللحم الحلال والتماسّ الحميم بين أفراد الجنسين، يعود إلى نطاق التأويل الشخصيّ كما يكون أشدّ اتّصالاً بالقيم المجتمعيّة منه بالقيم الدينيّة.

أهمّ من ذلك أنّ حزب الله معنيّ، مباشرة وبطريقة غير مباشرة، في تعريف العلاقة بين اللهو والأخلاقيّات. فالبلديّات التي يديرها الحزب تقدّم الدعم لمؤسّسات بعينها وتحجبه عن أخرى، وذلك بتسهيل حصول الأولى على التراخيص وممارسة الضغوط على الأخيرة كي تعيد تعريف اشتغالها بما يتلاءم مع أفكار الحزب في ما خصّ المعايير الأخلاقيّة. لقد حدّثنا صاحب مقهى يعرض شراب السودا الايطاليّة المركّزعلى الحائط وراء بار القهوة، عن شبّان «يبدو أنهم من حزب الله» كانوا يتفحّصون محتويات القناني. ويظهر أنّه نجح في الامتحان بدليل أنّ مقهاه مذّاك وُفّق ماليّاً. وهذا ما يشي أيضاً بالرقابة غير المباشرة، التي تقودها «لجان أحياء شعبيّة» تقاطع في صورة غير رسميّة المقاهي المحلّيّة التي لا تتواءم مع أفكار الحزب في ما خصّ المعايير الأخلاقيّة. وهذا التشابك هو ما ظهّرته امرأة هي عضو بارز في الحزب، حيث شرحت أنّ تعاوناً كهذا بين «المجتمع» والحزب أمر «طبيعيّ»، قائلة: «في هذا، مجتمعنا يقدّم الكثير من العون، بحيث ترى اليوم أنّ هناك برك سباحة شرعيّة، وتجد مقاهي، كما ذكرت، وهي أشياء تتكاثر جدّاً. وهذا تحت سيطرتنا، أعني أنّه ليس خارج سيطرتنا. الكثيرون من مالكي هذه المشاريع يحرصون على التأكّد من دعمنا لمشاريعهم (…) والناس يسألوننا: هل يمكننا الذهاب إلى هذا المكان؟ هل هناك مشكلة في الذهاب إلى هذا أو ذاك من الأمكنة؟. وليس حزب الله ما يفعل ذلك. ما أقوله إنّ المجتمع والناس يطلبون تلك المشاريع، وهم أيضاً يسألوننا رأينا فيها».

كذلك قد يضفي قادة حزب الله الشرعيّة على مؤسّسات معيّنة من خلال رعايتها، مع أنّ زياراتهم لها يمكن أن تُفسّر أيضاً كمحاولات «مناورة» co-optation. وبالطبع يعتمد إلى حدّ بعيد الشعور الذي يخصّ تدخّل حزب الله في هذه العمليّة على حدود التماهي والتأييد، ليس للحزب وحده، بل كذلك لما يطرحه من تفاهمات محدّدة في ما خصّ الالتزام الدينيّ والأخلاقيّات. وبالنسبة إلينا يبقى السؤال الأساسيّ حول المدى الذي يستطيع الحزب فعليّاً أن يبلغه في التأثير على أفكار الشبيبة الملتزمة دينيّاً في ما يتعلّق بأمكنة معيّنة، أو ما إذا كان هذا التأثير تمنّياً رغبويّاً من قبل رسميّي الحزب.

وتقترح محادثاتنا مع الشبيبة ترجيح الاحتمال الأخير. فمفهومٌ مثلاً أن تكون الموسيقى المواكبة للرقص «ممنوعة» من فضل الله وحزب الله والكثيرين من أبناء جيل الطليعة. لكنْ في العقد الأخير شهدت الآراء الرسميّة حول الموسيقى تحوّلاً ما بحيث بات حزب الله يستخدم عديد الآلات الموسيقيّة في تآليفه، بما في ذلك الغيتار الكهربائيّ والطبول، فيما يؤكّد فضل الله أنّ مضمون الأغاني ما يهمّ، مقترحاً ضرورة تنبّه المستمعين إلى الفارق بين «الشوق»، وهو مقبول، و«الغرائز»، وهي غير مقبولة، في أغاني الحبّ. مع هذا ففي ظلّ غياب التنظيم الرسميّ للموسيقى في لبنان، فإنّ الشبيبة، فضلاً عن مدراء المؤسّسات المقصودة ومديريها، هم الذين يأوّلون المقبوليّة على نطاق واسع. هكذا تُسمع، في معظم مقاهي الضاحية ومطاعمها، موسيقى ناعمة، وإن كان بعضها يقيم شاشات LCD كبرى تنقل محطّات موسيقى الفيديو وتعزف موسيقى شعبيّة، عربيّة أو غربيّة.

وتتوقّف مقبوليّة الموسيقى على الزمن كما على زبائن المؤسّسة في أيّ وقت كان. فقد أخبرتنا مالكة أحد المقاهي أنّها تحوّل إلى محطّة «أم تي في» إذا ما بدا أنّ زبائنها يمتعهم هذا النمط من الموسيقى. إلاّ أنّها تغيّر المحطّة إذا ظهر زبائن آخرون بدوا أكثر «تديّناً». وعلى مستوى فرديّ يرفض بعض الشبّان جملة وتفصيلاً الاستماع إلى سائر أشكال موسيقى البوب، فيما يميل آخرون إلى أنّ صلاح الموسيقى يُقاس بكلام الأغاني تحديداً، ويؤكّد غيرهم على المضمون والجوّ أكثر ممّا على نمط الموسيقى، ويبقى هناك من يتبرّأون في العلن من موسيقى البوب إلاّ أنّهم يستمعون إليها في سرّهم على أجهزة «أم بي3». وتظهر فوارق مشابهة في العلاقة بدخول الأمكنة التي تقدّم الخمر أو عدم دخولها. والتوقيت مؤثّر هنا أيضاً، إذ إبّان رمضان أو عاشوراء مثلاً، يتوقّف مؤقّتاً أفراد قد يتردّدون، في الأشهر الأخرى، على المطاعم التي تقدّم الخمر.

بالنسبة إلى المعايير المتّصلة بوجود الخمر كما بأشكال معيّنة من الموسيقى، ربّما كان الأكثر لفتاً تنوّع الآراء بين الشبيبة، وتقبّل أصدقائهم ونظرائهم لهذا التنوّع. فمثلاً، في واحدة من مقابلاتنا الجماعيّة اختلف الشبيبة في ما بينهم بشأن ملاءمة، أو عدم ملاءمة، الذهاب إلى مطاعم تُعزف فيها موسيقى البوب. فقد عبّر أحدهم بقوّة عن أنّ نوع الموسيقى التي تُعزف ليس مهمّاً، ملاحظاً أنّ هاتفه الخلويّ يرنّ لحن أغنية شعبيّة. وعلّق آخر بالقول إنّه توقّف مؤخّراً عن الاستماع إلى الموسيقى الشعبيّة لأنّ الدين، في رأيه، يطلب منه ألاّ يفعل، لكنّه ما لبث أن قال: «إلاّ أن هذا يطالني شخصيّاً، فأنا لا أستطيع أن أمنع الآخرين من الاستماع. كلّ واحد ينبغي أن يغيّر ما فيه»، مردّداً، مرّة أخرى، آراء فضل الله في المسؤوليّة الفرديّة. وقام شابّ ثالث بتحويل المحادثة إلى موضوع الكحول، فعبّر عن رأي يشبه رأي الأوّل، ملاحظاً أنّه «إذا كانت المطاعم تبيع كحولاً فأنا لا سلطة لي في ذلك كما لا علاقة لي بالأمر. أنا لن أشرب». في المقابل فإنّ الشابّ الذي أوقف مؤخّراً الاستماع إلى الموسيقى الشعبيّة يحاول ألاّ يدخل المطاعم التي تقدّم الخمور، وإن ظلّ يفعل في المناسبات حين يأتي أقارب من خارج لبنان. وبالنسبة إلى آخرين، يتعلّق الأمر بمدى الفظاظة التي يبدو عليها الإخلال بالمعايير الأخلاقيّة. ففي مقابلة أخرى، أوضح فارس البالغ من العمر واحداً وعشرين: «هناك فارق بين وجود طاولة يجلس حولها قلّة من الناس يشربون البيرة وبين وجود بار ليس فيه إلاّ من يشربون ويلبسون بما يلائم البار ويرقصون على الكراسي».

ومع استثناء إخلال الخطّ الأحمر الذي هو الشرب الفعليّ للخمر، تعبّر الشبيبة في ما بينها عن اختلاف معاييرها وآرائها وسلوكاتها. فمرّة بعد مرّة اعترف شبّان وشابّات في مقابلتنا الجماعيّة بالاستماع الى موسيقى بوب أو بالذهاب إلى مقاه تقدّم الخمور (من دون أن يشربوا هم أنفسهم)، وجاءت اعترافاتهم في حضور أصدقاء ونظراء وأزواج وزوجات وغرباء. وإذ يستشعر البعض بالتأكيد الضغط الذي يحثّ على التوافق، فإن كثيرين ذكروا أنّ مفاد التفاهم السائد أنّ الإيمان أمر يطوّره كلٌّ من الأفراد بطريقته وحسب ظرفه الزمنيّ أو بطريقتها وحسب ظرفها الزمنيّ. فما دام أنّ الخطوط الحمراء المطلقة لم تُعبر، بقيت هناك فسحة للتفاوض حولها وللحركة والأمزجة، بل لتغييرات تحصل من يوم إلى آخر في النشاطات والتصرّفات، من دون اتّهام بالنفاق أو اللاأخلاقيّة.

المظهر الحاسم الآخر في تعريف مكان ما بأنّه محافظ، وأنّه أخلاقيّ أو ملائم، هو التفاعل الاجتماعيّ الذي يجري فيها. ذاك أنّ المعيار الأخلاقيّ الأمثل للسلوك المحافظ يعني أنّ الرجال والنساء الذين لا تجمع بينهم صلة قرابيّة ما لا يتلامسون ولا يجلس واحدهم قريباً جدّاً من الأخرى، وهذا من غير أن يوجد عزل مفروض بين حيّزي «العائلة» و«الشباب» في معظم مطاعم الضاحية ومقاهيها. أيضاً، فإنّ «نوع الناس الذين يذهبون إلى هناك» معيار أساسيّ يحاكم الناس بموجبه الأمكنة عموماً. فالمقاهي والمطاعم في الضاحية تتضمّن إحساساً بـ «أنّنا في ما بيننا» – الأمن والراحة والثبات التي تنجم عن كون المرء وسط نظرائه وجماعته. مع هذا فالأفكار المتعلّقة بالسلوك الأخلاقيّ قد تخدم في تقنيع اهتمامات أخرى: فإذا أخذنا في الاعتبار انبثاث الانقسامات الطائفيّة في الحيّز المدينيّ في بيروت، أمكن لـ «نوع الناس الذين يذهبون إلى هناك» أن يعكس أيضاً خطابات الاستقطاب الطائفيّ في السياسة اللبنانيّة. بيد أنّنا حريصون على عدم توكيد البُعد الطائفيّ على حساب المرونة الأخلاقيّة البحتة. فعلى ما تقول إحدى الفتيات، حوراء، «أنت تذهب إلى أمكنة تتناسب مع قيمك. تعرف ذلك للتوّ، تعرف من المكان ومن الجوّ. بسرعة تعرف. فحين تعيش في مكان ما فإنّك تفهم أمكنته». وكما يبيّن تعدّد الآراء في خصوصيّات ما يشكّل مجالاً للراحة، فإنّ حيّز الـ«في ما بيننا» نسبيّ قياساً بتاريخ كلّ واحد من الأشخاص وبموقعه وتجاربه.

من المهمّ أن نؤكّد أنّه، بدلاً من «شرطة أخلاق» كتلك الموجودة في إيران أو العربيّة السعوديّة، فإنّ السلوك هنا محكوم ذاتيّاً، وهو ما تعزّزه قوّة العرف الاجتماعيّ. فالسلوك «المناسب» في المقاهي والمطاعم إنّما ينظّمه مركّب من انضباط ذاتيّ وفرض ينفّذه طاقم النادلين، مع مجال ملحوظ للمرونة في التأويل والممارسات. فقد أعلن أصحاب المقاهي أنّ «الآباء يشعرون بالأمان لمجيء أولادهم إلى هنا، لأنّهم يعرفون أنّنا نحرص على أن يبقى الجوّ مضبوطاً. فحتى لو جاءت فتاة مع شابّ، يعرف الأهل أنّهما سيكونان في مكان تحكمه الأخلاق، وأنّ ما من أحد هنا سوف يسمح بحدوث ما ليس أخلاقيّاً. ذاك أنّ هذه الفتاة مثل بناتنا». مع هذا فخلال زياراتنا مقاهي في الضاحية، رأينا الكثير من التداخل الجنسيّ الذي، من دون شكّ، يجده مالك المقهى هذا والأهل الذين يستشهد بهم، لا أخلاقيّاً. فالمقاهي في معظمها نظّمت تصفيف طاولاتها على نحو يوفّر العديد من الفسحات الحميمة لزبائنها، جاعلة بعض طوابقها تقتصر على طاولات كلٌّ منها لشخصين، ومقيمةً غرفاً خاصّة وزوايا عدّة يستطيع فيها القرينان الشابّان قضاء الوقت معاً بعيداً، نسبيّاً، عن الأنظار. لقد شاهدنا الأزواج الكثيرين يجلسون واحدهما إلى الآخر في تلاصق شديد، وأحياناً يمضون بعيداً في الزوايا المنعزلة للمقاهي وفي شقوقها وصدوعها.

ولم تكتف المقاهي والمطاعم بتوفير مساحات «عامّة» جديدة حيث يمكن للشبيبة أن ينشغل واحدهم بالآخر، أكان المعنيّون أصدقاء أم ذوي حميميّة أعلى. فهم أمّنوا أيضاً مساحات جديدة يمكنهم فيها لقاء معارف جديدين وأصدقاء وأحبّاء وأهلاً. فالمداعبة جزء حتميّ من تجربة المقهى: الشبيبة يتفحّص واحدهم الآخر، أو يسأله عن امكانيّة الالتقاء ، بل إنّهم يستخدمون هناك تقنيّة بلوتوث لإمرار أرقامهم التليفونيّة في ما بينهم. فأحد الشبّان ممن قابلناهم التقى صديقته عبر إرساله لها «بالصدفة» صورة على تليفونها الخلويّ من خلال بلوتوث فيما كانا جالسين على طاولتين متجاورتين في أحد المقاهي. بعد ذاك التقاها فاستبعدت عرضه، لكنّه تبعها على الدرج واعتذر منها وشرح لها أنّ رقم تليفونه صار الآن في حوزتها وقال إنّه يودّ أن «يتحدّث إليها»، وهو تعبير ملطّف عن طلب موعد. ولئن تظاهرت هي في البداية بأنّها لم تلاحظ رسالة البلوتوث، فإنّها ما لبثت أن أرست إليه «missed call» بحيث يغدو هو مَن يتلفن أوّلاً، وهما الآن في علاقة.

مناقشة الشبيبة: نتائج أوّليّة وأسئلة مستمرّة

لقد استعملنا مَثَـل إعادة الشبيبة تشكيلَ الأفكار المتعلّقة بالترفيه الملائم لكي نجادل بأنّ يافعي الضاحية يعملون اليوم وفقاً لمرونة تأويليّة في ما خصّ تغيير المعايير الأخلاقيّة، بينما يبقون داخل إطار التزام دينيّ مقبول. وثمّة، هنا، نقطتان مفتاحيّتان ينبغي توكيدهما في العلاقة بمجادلتنا.

الأولى، أنّ الرغبة القويّة في عيش حياة مؤمنة وأخلاقيّة كما تعبّر عنها الشبيبة تنطوي على الحقّ في ممارسة الترفيه الملائم دينيّاً.

والثانية، أنّ المعيار السائد أن الشبيبة الملتزمة دينيّاً تعيش في سياق من تعدّد مراجعه الأخلاقيّة، وضمن جوار وثيق وتفاعل منتظم مع الشبيبة الأخرى التي تعيش أنماط حياة بالغة الاختلاف[10]. ويتيح لشبيبة يومنا اختلافُ المنظورات ومرونةُ الاختيار من تأويلات وسلطات شتّى البحث عن تأويلات وآراء تعكس رغباتهم وأفكارهم على نحو وثيق جدّاً. وعبر بناء بريكولاج من الخطابات النافذة، وتضمينها إملاءات أصواتهم هم، تتحدّى الشبيبة الصور المسيطرة عن ضاحية حزب الله، معيدةً مفاوضة قيمها وأخلاقها والنظر فيها من خلال وضعيّات ترفيه مسلّعة وعبر حميميّاتها المختارة.

يبقى لنا أن ننظر في كيفيّة التأثير الذي مارسته على الحالة الإسلاميّة أفكار شبيبة اليومِ الشيعيّة الملتزمة دينيّاً وقراراتها، وكيفيّة تشكّله الكامن، على اهتمامات تلك الشبيبة بالحدود الأخلاقيّة في علاقتها بالترفيه. ما هو واضح أنّ هذا جيل يحمل تأويلاته وأذواقه ورغباته إلى الحالة الإسلاميّة.

نقله إلى العربية حازم صاغية.

هذا المقال مأخوذ من موقع مجلّة كلمن ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

—————————

*ترتكز هذه المخطوطة على شغل ميدانيّ تعاونيّ ومتواصل تموّله مؤسّسة Wenner-Gren و American Center for Learned Societies . وقد نشرت أقسام من هذه المخطوطة في: لارا ديب ومنى حرب، 2007، Sanctioned Pleasures: Youth, Piety and Leisure in Beirut، ميدل إيست ريبورت 37(4): 12-19. ونودّ أن نشكر المساهمين في مؤتمر«Marginalization and Mobilization of Youth» في الجامعة الأميركيّة في بيروت في أيّار (مايو) 2008 على تعليقاتهم.

[1] نترجم، هنا، ونعيد نشر دراسة ديب وحرب التي نُشرت بالإنكليزيّة، وللمرّة الأولى، في «باحثات»-الكتاب الرابع عشر 2009-2010، والذي حمل عنوان «الممارسات الثقافيّة للشباب العربيّ». دافعنا إلى ذلك اعتقادنا بأنّها مادّة تستحقّ أوسع النقاش.

[2]تعبير « حالة» نعني كلاًّ من المساحات المادّيّة حيث يعيش الناس أو يفعلون معايير وقيماً معيّنة، والحيّز العامّ حيث تُناقش تلك المعايير والقيم. هكذا فإن المسلمين الشيعة الملتزمين دينيّاً يساهمون على الدوام في تعريف الحالة الإسلاميّة وحدودها. من أجل المزيد أنظر ديب 2008.

[3] في مشروعنا الأكبر نناقش الإنتاج والخلافات والممارسات الحيّزيّة ضمن الحالة الإسلاميّة في علاقتها بقطاع الترفيه المزدهر في الضاحية، وتاريخ قطاع الترفيه الجديد واقتصاده السياسيّ ودور رأس المال والاستثمارات الدوليّة في تنميته، والأفكار المتحوّلة في صدد الذوق بالعلاقة مع التغيّر الطبقيّ في الضاحية.

[4] بدأ العمل بـ«Fantasy World» في 1999 على يد مؤسّسة مقاولات خاصّة قريبة من حزب الله (مجموعة الإنماء) وهو يقدّم «ترفيهاً للعائلات» من خلال بارك كبير ومطاعم ومقاهٍ. أمّا القرية التقليديّة «الساحة» فافتتحتها، في 2001، جمعيّة «المبرّات» الخيريّة التابعة للسيّد فضل الله، وهي تشمل مطاعم ومقاهي وقاعات أعراس وفندقاً صغيراً ومتحفاً (حرب 2005).

[5] معظم هذه المقاهي افتتحها رجال أعمال محليّون صغار، الكثيرون منهم يستثمرون في المقهى أو المطعم بمشاركة قلّة من الأصدقاء أو الأقارب. للمزيد عن هذه المقاهي والمطاعم في الضاحية، أنظر حرب وديب 2009.

[6] للمزيد عن هذا التاريخ وعن مؤسّسات حزب الله، أنظر ديب 2006 وحرب 2010، ونورتون 1987 و2007.

[7] الحركة السياسيّة البارزة الأخرى التي ظهرت من هذه التعبئة هي، طبعاً، حركة أمل. لكنّ أمل ذات اهتمام يكاد لا يُذكر ببناء الحالة الإسلاميّة التي نناقشها، كما أنّ علاقتها بالالتزام الدينيّ أقلّ حزماً من علاقة حزب الله أو فضل الله.

[8] يطرح كول ودورهام مفهوم «الإحياء»regeneration لوصف «التداخل التأسيسيّ المتبادل بين العلاقات الجيليّة في ما بينها والعمليّات التاريخيّة والاجتماعيّة الأعرض» (2007:17).

[9] وهذه خواتم من حجر كبير واحد تحتوي في بعض الأحيان حجابا لحماية حامله، وهو قطعة ورق كتبت عليها آية قرآنيّة. وهي، في لبنان، تردّ إلى إيران وحزب الله.

[10] نحيل هنا إلى أهميّة خصوصيّة لبنان كمجتمع «تعدّديّ»، واختلاط سكّانه بأنماط حياة مختلفة تنوجد في مجالات عدّة بما فيها الجامعات والعمل والترفيه وداخل مجموعات الأصدقاء والعائلات.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.