fbpx

“الحرب العظمى”التي لم تنتهِ في الشرق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يمكن أن يتعلّم البشر من أخطاء ماضيهم، وتصحيح تلك الأخطاء في المستقبل. لكن في هذا الصدد، هناك فرق جوهريّ بين أوروبا والشرق الأوسط. يعرف الأوربيّون تاريخَهم، أمّا في الشرق الأوسط فنحن ننكر التاريخ ونلغيه؛ في أوروبا يتعلّمون من ماضيهم ومن إخفاقاتهم ومن كوارثهم؛ أمّا في الشرق الأوسط فنحن نحتفل بكوارثنا ونعدّها إنجازات بطوليّة عظيمة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الوقت: نهاية عام 2011 أو بدايات عام 2012. كانت الانتفاضة الشعبية في سوريا، والمطالبة بالتغيير السياسيّ، قد تحوّلتا بعد القمع الهائل الذي واجهتهما به الدولة، إلى حربٍ بشعة. اضطر آلاف المدنيّين السوريين إلى ترك منازلهم ومزارعهم وقراهم والأحياء التي يقطنونها، ليجدوا مكاناً للجوء في الشمال. خلّفوا وراءهم مدناً مثل حلب وجرابلس ومنبج والرقّة ودير الزور.

لقد لجأوا إلى المخيّمات التركية للاجئين، جنوب تركيا، وأيضاً في مدن مثل أنطاكية وكيليس وعينتاب وأورفة وماردين وأضنة، وكذلك في مدن بعيدة مثل إزمير وإسطنبول. ومع متابعتي لتكشّف المأساة السورية، تذكرت موجة أخرى من الهجرة القسرية، حدثت منذ مئة عام. ذكّرني هذا بالحرب العالمية الأولى، وعمليات الترحيل ومعسكرات الاعتقال والمجازر بحق الأرمن والسريان العثمانيين والترحيل من الشمال إلى الجنوب. ذكّرتني بعائلتي التي أجبرت على مغادرة عينتاب لتجد ملجأ لها في دير الزور قبل أن يستقرّ بها المقام في حلب.

على رغم مرور مئة عام على هذا، وعلى رغم الاختلاف المهم في السياق، إلّا أنه في عقلي هناك رابط بين الحدثين. فقد رأيت مدنيّين يهربون من عنف الدولة. كانت الدولة تميّز ضدّ جزء من رعاياها (“مواطن” ليست بالكلمة الدقيقة مع فقدان السكّان حقوقهم السياسية) على أساس الهوية العِرقية والدينية. دمّر العنف الجماعي عام 1915 المبادِئَ التي عملت وفقها الإمبراطورية العثمانية قروناً عدّة. دُمّرت تلك المبادئ على يد مجموعة من المنظّرين العقائديين السرّيين الذين أذكى حماسَتهم الحلمُ بإمبراطورية تركية واسعة والخوفُ من فقدان تلك التي حازوها. كانت تكمن وراء تلك الخطابات الأيديولوجية لهفةٌ عارمة للسلطة والثراء الشخصيّ: فقد استولوا على ثروات ضحاياهم.

لاجئون سوريون في مخيم الركبان، تشرين الثاني/نوفمبر 2018

عام 2011، كان العنف الجماعي يهدف إلى الحفاظ على حكم عائلة الأسد، التي تسيطر على السلطة منذ عام 1970، والتي وعدت بغطرسة بتحقيق الوحدة العربية، لكنّها دمّرت حتّى وحدة الشعب السوريّ.

إذا سألتني إن كان هناك رابط بين المهجّرين الذي يسيرون في قيظ عام 1915 في الصحراء السورية، متجهين جنوباً، وبين أولئك اللاجئين عام 2012، هاربين شمالاً من البراميل المتفجّرة، فإنني قد أجيبك بكل بداهة بالإيجاب، فينبغي أن تكون هناك صلة؛ لكنّني كمؤرّخ قد أقول “لا نعرف”. نحن المؤرّخين ببساطة لم نطرح هذا السؤال.

إقرأ أيضاً: الثورة المستمرة في أرمينيا

حين تتصفّح كتاباً عامّاً يروي التاريخ الحديث للشرق الأوسط، أو -بخصوص هذا الأمر- تاريخ الحرب العالمية الأولى، تكاد لا تجد ذِكراً للإبادة الجماعية التي حدثت عام 1915. تكاد لا تجد شيئاً عن تاريخ الأرمن أو السريان أو اليونانيين، كما لو أنّ هذه الشعوب الثلاثة ليست من الشرق الأوسط: لقد نُفي اليونانيون إلى أوروبا، والأرمن إلى القوقاز الجنوبي، ونُسِيَ السريان تماماً. تلك الشعوب الثلاثة -وإن جاز لي القول: حضارات الشرق الأوسط تلك- والتي كانت موجودة في هذه المنطقة الجغرافية لآلاف السنين قبل وصول العرب والترك بكثير، يتم اليوم طردها، لا من الأرض فحسب وإنّما من ذاكرتها الجمعيّة. كان اليونانيون والأرمن ركائز مهمّة في النظام العثماني، وكانوا في العاصمة القسطنطينيّة، لاعبين دوراً مهماً في البلاط العثمانيّ والديبلوماسيّة العثمانية، تماماً كما في إدارة الاقتصاد والمالية والصناعة والثقافة. ما هي العواقب طويلة الأجل لخروجهم من مشهد تاريخ الشرق الأوسط؟ ليس باستطاعتنا سوى التساؤل.

ما زالت أحداث الحرب العالمية الأولى، بعد مضي قرن، تطارِد الشرق الأوسط. وحتّى بعد مئة عام، لم تنتهِ الحرب “العظمى” في الشرق الأوسط. من خلال قولي هذا، لا أعني أنّ الحرب والعنف الجماعيّ والإبادة الجماعية هي أمور متأصلة في الشرق الأوسط، ولا أنّها خصوصية في المجتمعات الإسلامية. فمثل هذا القول لا ينمّ إلا عن جهل قائله. كانت أكثر الحروب والمآسي بشاعةً –هما الحربان العالميتان الأولى والثانية، إبادة يهود أوروبا، وسلسلة من الحروب الاستعمارية، ومجازر بحق الشعوب المُستعمَرة- قد نفّذتها إمبراطوريّات أوروبية استعمارية، وهي نفسها الجامعات التي هي اليوم مصدر الحضارة الحديثة القائمة على الديموقراطية البرلمانية واقتصاد السوق.

“اعتُرِف في الدوائر الأكاديمية بالإبادة الجماعيّة للأرمن في الدولة العثمانية فقط في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة. جاء هذا بعد ما يقرب من نصف قرن من الرقابة والنسيان”

لا يُعدّ التاريخ أمراً حتمياً؛ فليس من الضروريّ أن يعيد نفسه. يمكن أن يتعلّم البشر من أخطاء ماضيهم، وتصحيح تلك الأخطاء في المستقبل. لكن في هذا الصدد، هناك فرق جوهريّ بين أوروبا والشرق الأوسط. يعرف الأوربيّون تاريخَهم، أمّا في الشرق الأوسط فنحن ننكر التاريخ ونلغيه؛ في أوروبا يتعلّمون من ماضيهم ومن إخفاقاتهم ومن كوارثهم؛ أمّا في الشرق الأوسط فنحن نحتفل بكوارثنا ونعدّها إنجازات بطوليّة عظيمة.

اعتُرِف في الدوائر الأكاديمية بالإبادة الجماعيّة للأرمن في الدولة العثمانية فقط في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة. جاء هذا بعد ما يقرب من نصف قرن من الرقابة والنسيان، تلاه عقود من الإنكار الرسميّ. لم يصدر هذا الإنكار عن الدولة التركية فحسب- فقد كان من الممكن مواجهة هذا- وإنّما من أطراف أخرى في تركيا والشرق والأوسط وغيرهما، وهؤلاء دعموا الصمت والإنكار من خلال عدم اكتراثهم. وكانت النتيجة أننا وضعنا سرداً تاريخياً للشرق الأوسط مَشوباً بالبيانات المنقوصة والتصوّرات الخاطئة والثقوب السوداء. شكّلت حقيقة عدم استطاعتنا دراسة العنف العثمانيّ هذا عقبةً كبرى بيننا وبين ماضينا: فقد فشلنا أيضاً في فهم الماضي العثماني المشترك، مع تناقضاته ومحاولات الإصلاح وإخفاقاته المؤلمة.

كيف يمكننا أن نتعلم من التاريخ إذا كنّا لا نعرف التاريخ؟ يمكننا إنكار تاريخنا، كما يمكننا قول الأكاذيب حول ماضينا. وبقيامنا بهذا لا نخدع إلا أنفسنا.

إقرأ أيضاً:
زيارة إلى السجن الذي تحوّل متحفاً للإبادة الجماعية في كمبوديا
موقع العرب من الجينوسايد الأرمني

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!