fbpx

“المدينة للضباط والعتمة إلنا ولأولادنا”..عن الريف السوري الذي كان سنداً للنظام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيلو مترات قليلة هي التي تفصل ريف مدينة اللاذقية عن قلب المدينة، وبالكاد يُصدق ابن المدن الكبرى أن مدينة اللاذقية تملك ريفاً، فهو قريب منها إلى حدٍ كبير. هذا الريف مضافٌ إليه ريف طرطوس

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كيلو مترات قليلة هي التي تفصل ريف مدينة اللاذقية عن قلب المدينة، وبالكاد يُصدق ابن المدن الكبرى أن مدينة اللاذقية تملك ريفاً، فهو قريب منها إلى حدٍ كبير. هذا الريف مضافٌ إليه ريف طرطوس، كان يُشكل الهيمنة الاجتماعية الأولى للنظام في حربه التي قادها ضد الثورة. هذا الريف الذي بالكاد قد شعر بأنه يملك مدينة، ذلك لأنه بات خالياً ويذهب أبناؤه للمدينة ليشاهدوا البشر فلا حياة في أريافهم.
ما أن تصل إلى مدينة جبلة القريبة جداً من مدينة اللاذقية على سبيل المثال، لا الحصر، تواجهك لوحة كبيرة جداً، فيها محاولة من أبناء المدينة لوضع أكبر عدد ممكن من صور “الشهداء” داخل اللوحة التي تواجه زائرها. إنه شيءٌ من نزاع الريف والمدن على اقتناص معنى ما قُدم من مدينة جبلة للوطن، على حساب مدينة اللاذقية وغيرها. وتشهدُ اللوحة صراعاً على إضافة الصور الجديدة لها، و”الشهداء” لا يتوقف عددهم لحدّ اليوم. صوت الأهالي أعلى من أي صوت، محاولة إشهار موتاهم لا تتوقف. بعض الأهالي ينزلون من الريف لقلب المدينة للصق صور أبنائهم القتلى. هناك محاولة حثيثة لاستجداء المجتمع باسم الموت، أو باسم امتلاك ميت.
أهالي الشهداء” يحاولون استجداء مؤسسات النظام باسم قتلاهم. أمام مجلس محافظة اللاذقية أو طرطوس يجتمع الأهالي لتقديم الطلبات، طلبات بسيطة قد لا تتعدى إنارة شارعهم بالكهرباء، أو تعبيد طريق فرعي في الريف.
هذا النزاع في إشهار التضحية والتحدث باسمها، بدأ منذ السنة الأولى للثورة. ولا تخفي شرائح علوية واسعة تصرفاتٍ رافقتهم منذ بداية الثورة، على صراع أبناء القرى الصغيرة على تقديم “الشهداء”. هناك صيغة يومية تشكل بُعداً صراعياً بين الموالين من العلويين، على تأكيد من قدمت قراهم من “الشهداء” للوطن. هذه الأحاديث أخذت طابعاً سجالياً، ولم يتوقف لحدّ اليوم. والكثير من الشبان العلويين، حدثونا كيف كان ذويهم يدفعونهم للقتال في الجيش والدفاع الوطني، وتحويلهم إلى مادة  تفاخر في الجلسات الاجتماعية الخاصة. الكثير من الشبان هربوا من البلاد لكي يتخلصوا من ضغوط آبائهم في دفعهم للقتال.
كان الخوف والعنفوان والقيم المبتذلة التي روجها النظام دافعاً لجعل الموت طريقاً لإثبات وجودهم، وردة فعلهم اتجاه مخاوفهم. في القرى النائية والصغيرة لا كفاءة اقتصادية، لدى عموم المزارعين العلويين، للاحتفال الاشهاري ب”الشهادة” عبر الصورة اللوحية المضاءة، حيث توضع صور صغيرة للقتلى على واجهة البيوت.
في قرية كرسانا، شاهدنا سيدة تضع كُرسياً وتجلس عليه. كانت قابعة أسفل صورة ضخمة لابنها “الشهيد”، ولا تُفارق الكُرسي حتى قدوم الليل. قال لنا ذووها: تجلس تحت صورة ابنها الذي لم تره لمدة سنتين، ثم قُتل في الغوطة الشرقية عام 2016.  ضوء الصورة الضخمة لابنها لا يُطفئ ليلاً نهاراً، على الصورة أن تبقى مضاءة، هذا هو اكتفائها.
أغلب الريف العلوي يلجأ لتغيير صورة “الشهيد” المعلقة على الواجهات المنزلية، هناك هوسٌ في أن تكون صور “الشهداء” بحالة جيدة، ورغم وجود بعض الصور الباهتة بسبب الشمس والأمطار، إلا أن حرصاً عاماً يجعل المجتمع المحلي يسعى للاحتفاظ بأناقة الصور المُعلقة. هذا المعنى الشكلي البحت، يتكرر في كل أرياف الساحل، ووصولاً لأقصى القرى النائية.
لا رقم رسمياً لعدد قتلى ريفي اللاذقية وجبلة وطرطوس، ممن قاتلوا في الجيش النظامي، والمليشيات الأخرى التي شكلها العشرات من الشبيحة. لا النظام يعلن ولا أحد يقبل أن يجيب. لكن، استطعنا عبر مصادر مختلفة معرفة رقمٍ تقريبي هو مئة وخمسين ألف 150،000 ألف مقاتل. مصادرنا كانت متقاربة الأرقام، وأحد هذه المصادر كان من مسؤولي اللجنة الأمنية الدائمة في اللاذقية، وعضو برلماني سابق وقيادي في حزب البعث، أضف إلى ذلك بعض الأرقام التي يتداولها أبناء الأرياف العلوية في أحاديثهم العامة. من الأرقام التي جمعناها من لجان البعث، سقط مثلاً في بلدة بيت ياشوط في قضاء جبلة التي يقدر عدد سكانها ب 18,000 الف نسمة، 680 قتيلاً. أما في قرية مشقيتا القريبة من اللاذقية ويبلغ عدد سكانها 12,000 نسمة، فقد قتل فيها 322 شخصاً، وعلى هذا المنوال تحصي القرى عدد أبنائها القتلى.
لقد شكل إحصاء الوفيات في الأرياف بُعداً صراعياً وهناك تباينٌ صادم يظهر ما أن تُصارح أهالي القتلى بالرقم، والنتائج التي يستخلصونها لما مروا فيه. لجأنا كصحافيين في زيارتنا لريفي جبلة واللاذقية الى التحدث مع أهالي القتلى، ولاحظنا تبايناً هائلاً في تصورهم للحدث السوري حالياً، الملاحظات الأولى تُظهر استغراب الأهالي للنتائج التي ترتبت على فورة عنفوانهم في تقديم أبنائهم للموت. ورغم ردة الفعل العامة في أوساط العائلات العلوية تجاه إرسال الأبناء للتطوع في الجيش أو المليشيات ومحاولة الامتناع عنها، حيث توقف الحماس العلوي منذ بداية عام 2016 باتجاه القتال مع النظام، إلا أن شعوراً واضحاً يظهر في كلام كثيرين هنا، وهو كلام لم يكن سيظهر في بداية الثورة وهذا مؤكد. “أبناؤنا ماتوا من أجلنا فقط”، هذه الجملة باتت مكررة في الريف، لقد اختفت عائلة الأسد من يوميات الصراخ والاحتفال والشهادة، وحتى صور القتلى باتت لهم وحدهم، يُوضع العلم السوري فقط دون أي صورة كهنوتية لحافظ أو بشار أو ماهر الذين عوملوا كتميمة إلهية في السنوات الأولى للحرب. ولم تعد مواكب “الشهداء” تضج بجملٍ تبناها العلويون هوسياً “بالروح بالدم نفديك يا بشار” ، “بالروح بالدم نفديك يا ماهر” هناك انسحاب عالي المستوى عند العلويين في الريف من السلوك المرضي، الذي يبدو سلوكاً ايمانياً بالعائلة الحاكمة.
والأهالي الذين جلسنا معهم أصبحوا وحيدين، لم يجدوا معنى مكتسباً من موت أبنائهم سوى خسارة الأبناء، خاصة أن تردي الحالة الاقتصادية لهم جعلهم يرفضون الاعتبارات القيمية، التي يحاول النظام تعويضها لهم عاجزاً. حيث أغلب أهالي الضحايا اشتكوا لنا بكل صراحة عن قلة التعويض المالي لأهالي “الشهداء”، وعن عدم التقدير الاجتماعي لهؤلاء الأهالي، الذي خدعوا فيه في السنوات الأولى للحرب.  هذا مرده، التحول القيمي الذي لم يقدمه النظام لأهالي القتلى، حيث يبدو الريف موحشاً، وكل الريف العلوي فقد الأبناء فلا تميز لأحد على أحد، ولم تعد المفاخرة بالموت شأناً هاماً، حيث يسود شعور بالندم، على تبني الموت وثقافته من أجل النظام الذي لم يقدم للريف العلوي شيئاً. حتى الكهرباء تُقطع لوقت يزيد عن فترة الانقطاع في المدينة، والتي حسب أم قتيلين في الجيش النظامي: “المدينة للضباط الكبار وولادهم يلي ما بيرحوا عالجيش والعتمة إلنا ولولادنا”، وتُكمل الأم سردها القاسي لنا،” أنا ببيت ياشوط ضيعة فيها أكثر 500 “شهيد”، راحوا ولادي الاتنين بالغوطة الشرقية شو اجاني أنا الا الموت! بالزور لعطونا التعويض وشو بدي اعمل بالتعويض ما بيكفي مصروف ولاد ابني الثلاثة”.
موجات الاحتجاج هادئة، من كون شعور أغلب أهالي القتلى بأن لا طريق للعودة ولا طريق للوصول إلى قيمة لما وصلت إليه سوريا. بعض الأهالي لم يعد يتجرع أي مرارة في لعن الأسد الأب والابن وتحميلهم مسوولية ما وصلوا إليه. لم يعد بشار الأسد ذو بُعدٍ صنمي، بات إنساناً متاحاً للسباب والشتيمة الواضحة. لا شيء يملكه أبناء الريف العلوي سوى نظافة الصور التي ينزعون عنها صور الأسد. أبناؤهم أبطال لهم، وأبطالٌ لعلم بلدهم الصغير، في الصورة. لن تؤدي هذه الردة سوى لنقمة هادئة على المدن ذات الأغلبية العلوية التي تعيش دون وحشة الفقد واختفاء الأنُس. الريف موحش في فراغه، وخطابات الأسد في النصر أزعجت العلويين أكثر من اسعادهم، النصر الذي يكتمل في خطاب الأسد خالٍ من أي انعكاس اجتماعي له. يبدو أن ثمن انتصار الأسد فقدانه لهيبته ولداعميه. استفاقة الأهالي المتأخرة غير مجدية، حجم التورط واضح في الريف وصور القتلى أعلى من البيوت، وأكثر إضاءة من الأشجار التي لم يبق أي أحد لزراعتها.
[video_player link=””][/video_player]