fbpx

“سي آي أي” تقاوم قصة ترامب عن الجريمة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

مثلما تتصرف “واشنطن بوست” بصفتها أم القتيل، يشعر الرئيس بأنه “أم القاتل”، وأميركا والحال هذه تتخبط بجريمة وقعت على بعد آلاف الأميال منها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أما وقد قالت “سي آي أي” لـ “واشنطن بوست” إنها مقتنعة بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هو من أعطى الأمر بقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، فما علينا، نحن من شرعنا بمشاهدة العرض المتواصل للجريمة المعلنة، سوى أن ننتظر حلول الصباح في واشنطن لكي  تصلنا تغريدة الرئيس. فمثلما تتصرف “واشنطن بوست” بصفتها أم القتيل، يشعر الرئيس بأنه “أم القاتل”، وأميركا والحال هذه تتخبط بجريمة وقعت على بعد آلاف الأميال منها. لكن ما يصنع الفارق هذه المرة هو أن أميركا (غير الترامبية) تشعر بأن الجريمة أصابت نظام قيمها، وأن قبولها بها سيجعلها مكشوفة أمام احتمالات تكرارها على أرضها.

أما نحن، الأم البيولوجية للقتيل وللقاتل، فليس بيدنا حيلة سوى أن نراقب معركة أخلاقية تدور بعيداً منا، موضوعها “نحن”. وبالأمس تماماً عرفنا عبر بيان المدعي العام السعودي أن جثة قتيلنا تمت “تجزئتها”، وطلب الرجل للقتلة الخمسة حكم “القتل”. ونحن اذ لسنا موضوع هذا السجال، فهو ولد خارج وجداناتنا، نجد أنفسنا مرة أخرى عاجزين عن التأثير في مساراته. وهنا علينا أن نعيد تركيب القصة من عناصر السجال كما هي متاحة لنا. قالت “سي آي أي” إنها مقتنعة بأن ولي العهد هو من أعطى الأمر بقتل خاشقجي، وأكد المدعي العام السعودي أن الجثة تمت “تجزئتها”. علينا هنا أن نستعيد بعض الوقائع التي سُرِّبت منذ اليوم الأول للجريمة. تركيا قالت منذ البداية إن الجثة تمت تجزئتها، واعتبرت أن ثمة أمراً صادراً من موقع سعودي رفيع قضى بقتل خاشقجي. نحن نشك بتركيا، ذلك أن رجب طيب أردوغان لم يسبق أن أبدى حرصاً على حياة الصحافيين في بلده، فما بالك بصحافيينا. لكن بيان المدعي العام السعودي أكد جزءاً من الرواية التركية، ثم عادت “سي آي أي” وتبنت جزءاً آخر منها. أما تتمة الرواية السعودية عن أن الجريمة لم تقع بفعل قرار من ولي العهد، فهذا ما لم يُقرن بإثبات، ثم صار بلا قيمة بعد كشف وكالة المخابرات الأميركية، التي استمعت رئيستها إلى تسجيلات في إسطنبول، ما كشفته.

صلاح جمال خاشقجي يتلقى العزاء بوالده

علينا إذاً أن ننتظر تغريدة دونالد ترامب، ذاك أن ما تشهده الإدارة الأميركية من تخبط حيال جريمة إسطنبول، يضعف قدرتنا على توقع رد فعل الإدارة الأميركية على ما قالته وكالة مخابراتها. الهاتف بيد ترامب أسرع من أن ينتظر فريقه لكي يتشاور معه في الموقف الذي يجب اتخاذه. هذه ليست مبالغة، فالرجل أقدم أكثر من مرة على توجيه رسائل غير منسجمة مع توجهات فريقه. لقد أوقف هجوماً روسياً على إدلب في سوريا لمجرد أن ناشطة سورية معارضة تمكنت من الوصول إليه في حفل عشاء، وأقنعته بأن الهجوم سيؤدي إلى كارثة إنسانية، وفي حينها أطلق الرئيس تغريدته الشهيرة، وغبطنا أنفسنا على نجاحنا في توظيف “رشاقته” على “تويتر” في حماية المدنيين في إدلب. لكن في المقابل، ذُهلت أميركا جراء سهولة اختراق وعي رئيسها، على رغم أن الاختراق كان إيجابي النتائج.

مشهد جريمة إسطنبول صار اليوم شبه مكتملٍ، ويمكن لمبتدئ في تأليف القصص من عناصر متاحة أن يرسم المشهد بكل عناصره. لكن هذا لا يبدو كافياً، فترامب أعلن منذ اليوم الأول من الجريمة أنه سيقايض عقود الأسلحة مع المملكة العربية السعودية بجريمة إسطنبول. والأرجح أن المعركة في واشنطن تحصل هنا، بين أن يعلن الرئيس عن ذلك، وبين مستهولي الإجهار بهذه الحقيقة. “واشنطن بوست” و”سي آي أي” تخوضان معركة كبرى مع الرئيس على هذه القاعدة، وهي معركة تتجاوز جريمة خاشقجي، التي إذا أتيح لترامب أن يكسبها، فإن أميركا ستكف عن كونها أميركا. “البوست” نفسها لن تتمكن من مواصلة مهمتها، و”سي آي أي” لن تتمكن من حماية أميركا وستتحول إلي أداة بيد الرئيس واستثماراته وعلاقاته. فكرة مقايضة القيم والسياسات بالعقود والتبرعات تقلق جزءاً كبيراً من أميركا. والسياسة بالنسبة إلى دونالد ترامب هي هذه المعادلة ولا شيء غيرها.

 

بالأمس، أشادت الإدارة ببيان المدعي العام السعودي الذي يعفي القيادة من المسؤولية عن الجريمة، وها هي اليوم تستيقظ على ما كشفته “سي آي أي”. إذاً ثمة مقاومة للمعادلة التي رسمها ترامب منذ اليوم الأول للجريمة. أي معادلة الجريمة في مقابل عقود السلاح.

 

القول بأن أميركا لطالما قدمت مصالحها وصفقات الأسلحة على مصالح الدول والمجتمعات المعنية بهذه الصفقات، صحيح، والرياض هي الزبون الأكبر على هذا الصعيد، لكننا هذه المرة أمام حقيقة مصالح أميركا في أميركا. “واشنطن بوست” و”سي آي أي” تمثلان هذه المرة قيماً يمكن أن تراوغ أميركا فيها خارج حدودها، لكن ليس في داخلها. قصة خاشقجي قصة أميركية داخلية، وخوف أميركا على قيمها في الداخل صار جزءاً من من الحملة على إدارة ترامب، وأن ينتصر الأخير في معركة خاشقجي، فهذا يعني أنه انتصر على أميركا. أما القائلين بأن عقود السلاح أقوى من القيم في أميركا فعليهم أن يجيبوا عن أسباب فشل ترامب في وقف قصة الجريمة عند حدود ما تعرضه السعودية من أثمان. وبالأمس انضمت “فوكس نيوز” إلى ترسانة وسائل الإعلام الأميركية في مواجهة الرئيس. المحطة المعبرة عن أقصى المزاج اليميني في أميركا أعلنت عن تضامنها مع “سي أن أن” في الدعوى التي يقيمها ترامب عليها. “فوكس نيوز” شعرت أنها ستكون وحيدة اذا لم تلتحق بقطار المعترضين على الموقع الذي اختاره ترامب لأميركا.

لا شك في أن إعلان “سي آي أي” الأخير سيكون منعطفاً مختلفاً في مسار قصة مقتل جمال خاشقجي. وهو منعطف أميركي قبل أن يكون منعطفاً شرق أوسطي. أما ارتدادات الإعلان علينا فلن تزيد عن محاولات توظيف في مزيد من الانقسامات، ذاك أن مسار الحكاية يتحرك في ظل مشهد للسعودية موقع شديد الحساسية فيه. فطهران المختنقة بحزمة العقوبات الأميركية تشعر في ظل تخبط الرياض بأن مزيداً من فرص الالتفاف على العقوبات صارت متاحة، فتتولى تعطيل تشكيل حكومتي بيروت وبغداد، وتشعر بأن الفرصة متاحة أكثر لاستعادة حماس من يد أنقرة، وتعزز من طموحاتها في سوريا في ظل غياب أي دور عربي عن رعاية أي تسوية محتملة هناك.

وجريمة إسطنبول لم تبقِ على سرٍ مستورٍ لجهة كشفها عن شراهة أنظمة الحكم في المنطقة كلها، فالقيم الترامبية كانت سبقت صاحبها إلى وعي أهل السلطة في بلادنا. في ظلها كشفت إسرائيل عدم اكتراثها للشر المقيم في جوارها طالما أنه يؤمن مصالحها، فتولى بنيامين نتانياهو حملة ترويج للحد من ارتدادات الجريمة على الوعي الغربي مستعيناً بكل ادعاءات “دولة الناجين”.

لكن وعلى رغم هذا المشهد القاتم، يمكن أن يستعين المرء على يأسه بما تبديه القيم المضادة من مقاومة ضارية. الجريمة تحولت إلى كرة ثلج لم يتمكن أحد من وقفها. القوى الراغبة في أن تنتهي حكاية خاشقجي هائلة، وإذا ما استعرضها المرء سيشعر باليأس. لكن القصة لم تقف عند حدود الأثمان التي تعرضها السعودية، والتي يسعى ترامب إلى ملاقاتها عندها. بالأمس، أشادت الإدارة ببيان المدعي العام السعودي الذي يعفي القيادة من المسؤولية عن الجريمة، وها هي اليوم تستيقظ على ما كشفته “سي آي أي”. إذاً ثمة مقاومة للمعادلة التي رسمها ترامب منذ اليوم الأول للجريمة. أي معادلة الجريمة في مقابل عقود السلاح. ونحن ربما يصلنا بعض من ثمرات هذه المقاومة.   

 

مجتمع التحقق العربي | 25.04.2024

الضربات الإيرانيّة والإسرائيليّة بين حملات تهويل وتهوين ممنهجة

بينما تصاعدت حدّة التوترات الإقليمية بعدما قصفت إيران إسرائيل للمرة الأولى منتصف نيسان/ أبريل، كان الفضاء الافتراضي مشتعلاً مع تباين المواقف تجاه أطراف التصعيد غير المسبوق.