fbpx

دمشق وحلب وبينهما أوهامٌ عن أطباق جدتي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنا أكتب منذ سبع سنوات عن دمشق كما عرفتها، أو ربما بشكل أدق، كما سمعت عنها من أمي ومن جدتي. أكتب عن حلب التي لم أعش فيها رغم أن والدي منها، لذا فأنا أقرب إلى حكواتية منه إلى شاهدة، إذ أن كثيراً ممن أشتاق إليه منذ توقفت عن زيارة سوريا لم يعد فعلياً موجوداً

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سمعت هذا الأسبوع أن صديقاً معروفاً بحدة ذكائه ولسانه فقد ذاكرته تماماً إثر جلطة أصابت دماغه ونجا منها بأعجوبة. وقد نقلت لي صديقتي، قريبته، قول الأطباء المتابعين لحالته أنه، وبفضل قدراته العقلية السابقة على الحادث قد يتمكن من استرجاع بعض ما فقد وبشكل أسرع ممن يقلّون عنه ذكاء.

تخيل أن يعود العقل إلى ما سماه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك لوحة فارغة، أو باللاتيني (تابولا رازا): “لوح أبيض لم يكتب عليه شيء بعد، صفيحة مسطحة لا أثر للزمن عليها، لم تلونها قصص الحب بالأحمر ولا الموت بالأسود ولا الأفراح بالأصفر والوردي ولا السياسة بذلك المزيج الذي يصبح رماديا في الآخر بسبب اختلاط ألوان كثيرة”.

في تمارين التأمل التي ينتظر منها أن تصفي الذهن لا سيما في فترات التوتر والقلق، يحاول المتأمل أن يركز على حركة تنفسه. شهيق، زفير، ويطلب منه، أي من المتأمل، أن يتخيل أن ثمة عين ثالثة تتوسط وجهه فوق الأنف تماما وتحت الجبين، يسميها البوذيون عين بوذا وهي تنظر إلى داخل الشخص بدل أن تتفحص ما حوله.

أظن أنه من شبه المستحيل على أكثر الناس أن يصفوا أذهانهم تماماً من أي فكرة أو إحساس لمدة عدة دقائق متواصلة.  فمن الصعب كبت دقات ساعة تخترق الصمت لتذكر بموعد خروج الأطفال من المدرسة، ثم سرعان ما تظهر في مقدمة الدماغ فكرة أن والدهم سوف يستلمهم فلا داعي للهلع. هل الغداء جاهز؟ ها هو موسم الباذنجان قد بدأ ويجب أن نصنع المكدوس. كانت الجدة تكبس الباذنجان مع الجوز والثوم والفلفل الأحمر في زيت الزيتون وتوزعه على أفراد العائلة. في مطبخ جدتي أدخلت يدي مرة في قدر كبير فيه مؤنة الزيتون الأخضر السنوية، فجلست أكل زيتونة تلو الأخرى دون أن يلحظني أحد إذ كانت جدتي يومها في استقبال صديقاتها.

 

كثيراً ممن أشتاق إليه منذ توقفت عن زيارة سوريا لم يعد فعلياً موجوداً منذ توفيت جدتي عام 2003، أي قبل انقطاعي عن الزيارة بسنوات. هي ذهبت وأخذت معها حياة دمشقية تكاد تكون اندثرت تماماً مع جيلها أصلاً.

 

ها هي إذا دقائق التأمل التي أحاول كل أسبوع أن أمارسها، أحاول أن يكون تعبير وجهي حيادي، دون أي تعبير لأنني أسعى إلى إفراغ رأسي، أو لوحتي كما يسميها الفيلسوف. للأمانة، لا “لوحة فارغة” إنما موج يرتطم على أطراف رأسي الداخلية وكأنه شاطئ صخري في يوم العاصفة. أعود إلى الصديق فاقد الذاكرة، وهو المعروف بحسّه السياسي العالي وقدرته على التعبير بدقة عن مفاهيم معقدة.

ماذا لو فقدت الذاكرة وعاد ذهني لوحة فارغة، مساحة بيضاء لي خيار ملؤها بما يحلو لي؟ ها أنا أمام فرصة ذهبية لإعادة ترتيب البيت من الداخل، أرمي ما أتعبني في السنوات الماضية وأحتفظ بما أحب. أنا أكتب منذ سبع سنوات عن دمشق كما عرفتها، أو ربما بشكل أدق، كما سمعت عنها من أمي ومن جدتي. أكتب عن حلب التي لم أعش فيها رغم أن والدي منها، لذا فأنا أقرب إلى حكواتية منه إلى شاهدة، إذ أن كثيراً ممن أشتاق إليه منذ توقفت عن زيارة سوريا لم يعد فعلياً موجوداً منذ توفيت جدتي عام 2003، أي قبل انقطاعي عن الزيارة بسنوات. هي ذهبت وأخذت معها حياة دمشقية تكاد تكون اندثرت تماماً مع جيلها أصلاً.

كيف أفسر إذا أنني أشتاق إلى أشياء لم أكن بالضرورة أشتاق إليها في السنوات التي فصلت موت جدتي عن عام 2011، العام الذي توقفت فيه عن زيارة دمشق، وفعلياً العام الذي بدأت أعبر فيه عن انتمائي لسوريا ولدمشق تحديداً. في الحقيقة، فإن السنوات السبعة الأخيرة بلورت في داخلي أشياء لم أكن أدركها من قبل، بل ربما كنت أتنصل منها أحيانا. اللهجة الدمشقية مثلا كنت أخفف منها بعض الشيء أثناء دراستي في بيروت في تسعينيات القرن الماضي، لا سيما بعد أن سألتني مرة إحدى الزميلات بعفوية “أنت سورية؟ بس مرتبة وبتحكي لغات!” أعترف أنني صعقت لملاحظتها، ثم تذكرت أنها من جيل يعرف بجيل الحرب، لم ير من سوريا سوى جنود بائسين أو متعالين يقفون على حواجز أثناء سيطرة الجيش السوري على مناطق في بيروت. لذا فرغم قرون من علاقات أسرية وسياسية ربطت بين البلدين، إلا أنه بالنسبة لتلك الزميلة، فإن شابة سورية تشبهها في الشكل والتصرفات بدت لها ظاهرة غريبة.

ها أنا إذا حصيلة زواج حلبي بدمشقية، أعيش في نيويورك سنة 2011 ويأخذ كلامي “مطة” إضافية فلا يخطئ من يسمعني أتكلم العربية حين يسألني “انت من الشام؟”. ها أنا أتفنن بإعادة اكتشاف أطباق لم أحضرها من قبل، أبحث على مواقع الطبخ العربي عن أسماء كنت أسمعها في طفولتي ومراهقتي لكني لم أعرها انتباهاً يذكر في وقتها، بل ربما كنت أتعالى عليها وأصف أمي بالتقليدية بالمقارنة مع أمهات حولي اعتمدن أطباقاً أسرع في التحضير وأكثر تواجداً على قوائم المطاعم الغربية.

 

منذ عام 2011، رسمت لنفسي قالبا دون قرار واع، أصبحت حكواتية تحركني رغبة لا حد لها بنشر قصص تدل على أننا، أي السوريين، استثنائيين في المطبخ والضيافة والحفاوة والموسيقى العربية، بل وبالحرف اليدوية والمفارش المطرزة وخشب الليمون حين يطعم بالصدف على طريقة “حفر وتنزيل” وليس من خلال لصق الصدف.

 

منذ عام 2011، رسمت لنفسي قالبا دون قرار واع، أصبحت حكواتية تحركني رغبة لا حد لها بنشر قصص تدل على أننا، أي السوريين، استثنائيين في المطبخ والضيافة والحفاوة والموسيقى العربية، بل وبالحرف اليدوية والمفارش المطرزة وخشب الليمون حين يطعم بالصدف على طريقة “حفر وتنزيل” وليس من خلال لصق الصدف. دخلت في رأس جدتي حين تضع على خديها رشة حمرة خفيفة “بخة حمرة” كما كانت تقول، ثم صرت أستقبل ضيوفي كما تفعل أمي “يا مية (أي مئة) أهلين وسهلين فيكن”. مفارش الطاولة من الطراز الأغباني حصراً لا أستعمل غيرها وأصناف الطعام تشي بساعات طويلة من التحضير لطالما كنت أسخر منها حين كنت أزور دمشق. “كل هالتحضير مشان بالأخير سفرة؟” كنت أقول لأمي.

لنعد إلى الصفحة البيضاء، لن أكتب عليها اسم سوريا، ففي شوقي إلى البلد ألمٌ لا أريد أن أحمله معي إلى الصفحة الجديدة. هو ألمٌ يتعدى السبع سنوات الماضية لأنه مبنيٌ على كثيرٍ مما حدث قبلها، أي قبل 2011. هي يدٌ تقبض على قلبي حين أخرج من مطعم في القسم الشرقي من دمشق وأقود سيارتي حول جدار المدينة القديمة باتجاه الغرب حيث بيتي. أتوقف عند دوار أعرف أن على ناصيته فرع للأمن يتم فيه استجواب الناس باستخدام أساليب غير آدمية. أنظر باتجاه المبنى وأشعر بالخجل من سهرتي في المطعم. هو شعورٌ خانق بعبثية أن تصلني كل يوم جرائد محلية لا تخبرني شيئا يذكر عم يحدث في العالم، وعالم افتراضي لا أصل إلى عدة مواقع عليه بسبب الحجب. هو حنق يلبسني من رأسي إلى أخمص قدمي حين أسمع أحدهم يتحدث عن التعليم وخدمات الصحة المجانية وكأنها جميل من الدولة إلى المواطن وليس واجباً أساسياً على الدولة. وطبعا من يتحدث لا يمكن أن تطأ قدمه مدرسة أو مستشفى حكومي.

لا أعرف ما يشعر به صديقي فاقد الذاكرة الآن لأنني لم أره منذ أن فقدها. لا أعرف إن كان يغضب لأسباب لا يستطيع أن يفكفكها بعقله الحاضر إنما هي شياطين تنخزه من عقله الباطن. تلك الصفيحة البيضاء التي أتمناها لنفسي غالباً ما سوف تكون على السطح فقط. أتخيل أنني لو شممت رائحة ماء الزهر فإن شيئاً بداخلي سيخترق تلك الصفيحة البيضاء ليكتب عليها باللون الفيروزي اشتقت إلى هناك. عندها ستظهر سفرة مدتها جدتي يوم العيد واجتمع حولها أربعة أجيال من طرفي العائلة، في أعمار من غير المنطقي أن تجتمع، فجدتي من أمي في أوجها ووالدي مخطوبان، أما أنا فطفلة وفي الوقت ذاته أم مع أولادي الثلاثة، وزوجي أيضا موجود، يجلس قرب جدي لأبي بأناقته ورقته وجدتي لأبي بجمالها الصارخ هي الأخرى كما رأيتها في الصور إذ أنني أتذكرها في مرحلة متقدمة من العمر وليس كما بدت لي في تلك اللقطة.

لم يجتمع أفراد العائلتين قط كما ظهروا لي حين وصلتني رائحة ماء زهر البرتقال، الصورة أقرب إلى “كولاج” أو تقنية الفن التصويري التي تعتمد على لصق مواد مختلفة في لوحة تخلد حياةً بأكلمها. هي في الواقع عدة حيوات عشت بعضا منها مباشرة والبعض الآخر بالوكالة، إلا أنني، ومع سنوات البعد، قد اشتقت إليها كلها واختلطت علي أوجهها وأصواتها فعاشت فيها جدتي وهي شابة معي وأنا في عمر قريب منها بحضور أولادها وأحفادها وأولادي. الصورة تتفشى على الصفيحة البيضاء كلطخة دم على قماش التضميد. هي علاقة مع مكان أصبح افتراضياً وأعدت تشكيله كما أريد مستفيدة من ذلك الحنين الذي يشتد حين يطول الفراق. أحاول أن أركز كل تفكيري على عملية الشهيق والزفير كما تعلمت في تمارين التأمل. تباً لرائحة ماء الزهر، لا تريد أن تفارقني.