fbpx

اندثار المشرق العربيّ…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قام توازن القوى في منطقة المشرق العربيّ في الخمسينات والنصف الأوّل من الستينات على تنازع القطبين المصريّ والعراقيّ ومحاولة كل منهما استمالة سوريا. اليوم، بات المشرق ملحقاً بالمواجهة الإيرانيّة السعوديّة، فكيف حصل ذلك؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في كتابه الشهير “الصراع على سوريّا”، صاغ الكاتب البريطانيّ باتريك سيل المعادلة التي تحكم توازن القوى في منطقة المشرق العربيّ من زاويتها الجغرافيّة – السياسيّة. تلك المعادلة، التي صحّت خصوصاً في الخمسينات والنصف الأوّل من الستينات، قامت على تنازع القطبين المصريّ (الناصريّ) والعراقيّ (الملكيّ ثمّ القاسميّ). في هذا التنازع، كان الطرف الذي يستميل إليه سوريّا هو الذي يقوى على الطرف الآخر. في غالب الأحيان، كانت مصر هي التي تستميل إليها سوريّا فتقوى على العراق. إبّان 1958 – 1961، بلغت الاستمالة حدّ الاندماج في دولة واحدة عُرفت بـ “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة”.

مع أواسط الستينات، شرعت هذه المعادلة تترنّح: فجمال عبد الناصر، على رغم الجرحين الكبيرين – جرح الانفصال السوريّ وجرح حرب اليمن – تحوّل قوّةً شعبيّة كاسحة لا تُقاوَم في العالم العربيّ. أمّا العراق، في المقابل، فبدأ دوره الإقليميّ يضيع ويتبدّد مع الانقلاب البعثيّ على عبد الكريم قاسم في 1963، ثمّ مع نظام العارفين، عبد السلام وعبد الرحمن، الذي كان نظام التحاق – وإنْ متعثّر ومضطرب – بمصر. في الأحوال جميعاً، جاءت هزيمة 67 لتطيح النفوذ والدور المصريّين وتكسر عمود عبد الناصر الفقريّ. في هذه الغضون، كانت سوريّا تعيش تجاربها المَرَضيّة مع حزب البعث وعسكره: انقلاب في 1963. انقلاب في 1966. وأخيراً، انقلاب “الحركة التصحيحيّة” لحافظ الأسد في 1970.

مع 1970، ووفاة عبد الناصر، شرعت الناصريّة، كقوّة وخطاب إيديولوجيّين، تتفتّت تحت وطأة التنافس بين الورثة والطامحين الصغار. ففضلاً عن الهزيمة الكبرى قبل ثلاث سنوات، راح يتجاذب التركة الناصريّة كلٌّ من أنور السادات في مصر ومعمّر القذّافي في ليبيا، ولكنْ أيضاً: حافظ الأسد في سوريّا و”نائب الرئيس” صدّام حسين في العراق، وصولاً إلى جعفر نميري – الناصريّ يومذاك – في السودان.

حرب تشرين الأوّل (أكتوبر) 1973 رسمت الحدود التي يمكن أن يبلغها، بشقّ النفس، “نظام” الورثة المتنازعين على التركة: بيّنتْ مدى قدرتهم على “التحرير” ومدى قدرتهم على “الوحدة”، لا سيّما وقد عجزت مصر السادات وسوريّا الأسد عن اعتماد استراتيجيّة موحّدة لحربهما المشتركة.

لكنّ السبعينات أُقفلت على حدثين عربيّين كبيرين: في 1977 – 8 وقّعت مصر معاهدتي كامب ديفيد فأُخرجت من الجامعة العربيّة وتقلّصت نوعيّاً قدرتها على التأثير في العالم العربيّ. في 1980، وبعد أشهر من الانشغال الدمويّ بإحلال صدّام حسين محلّ أحمد حسن البكر، انخرط العراق في حرب مدمّرة ضدّ النظام الخمينيّ الناشىء في إيران. هذا التطوّر قضى بدوره على إمكان استعادة بغداد أدوارها القديمة في السياسة العربيّة.

الضمور المزدوج للدورين المصريّ والعراقيّ، اللذين بنى باتريك سيل نظريّته عليهما، سمح لسوريّا الأسد بأن تتحوّل “من ملعب إلى لاعب”، بحسب تعبير شاع إلى درجة مبتذلة في سنوات لاحقة، كما عُزي إلى “عبقريّة الأسد الاستراتيجيّة”. والحال أنّ تلك “العبقريّة”، التي استطاعت أن تواكب التحوّل، اقتصرت على توطيد النظام السلطويّ وتصليبه، ما بلغ ذروته، وذروة الإعلان عنه، في سحق انتفاضة حماة في 1982 (للتذكير، فالعام نفسه شهد الغزو الإسرائيليّ واحتلال بيروت اللذين انكفأ الأسد أمامهما متخلّياً عن “رعايته” للبنان).

 

الاندثار السياسيّ للمنطقة الأبكر عربيّاً في التعلّم والتقدّم والاحتكاك بالغرب والحداثة، أي المشرق، سيبقى لسنوات طويلة، المصدر الأبرز للشقاء العربيّ.    

 

عناصر أخرى أعانت الأسد على دوره: تدفّق المساعدات الخليجيّة، لا سيّما منذ حرب 73. التمدّد إلى لبنان في 1976. وصول مناحيم بيغن إلى رئاسة الحكومة الإسرائيليّة في 1977 الذي أعاد توتير المنطقة. هذه الوجهة “المفيدة” استمرّت في الثمانينات على شكل “حرب على العرفاتيّة” بالاستفادة من نتائج الغزو الإسرائيليّ للبنان. الفلسطينيّون أُبعدوا إلى تونس. “فلسطين” باتت في جيب الأسد.

“دور سوريا الأسد” استمرّ ينمو في موازاة تطوّرات أخرى عصفت بالمنطقة: فالسعوديّة تحوّلت، منذ رحيل عبد الناصر ولكنْ خصوصاً منذ ارتفاع عائدات النفط في 1974 أربعة أضعاف ما كانته قبلاً، إلى لاعب سياسيّ بارز في المنطقة. كذلك، ومنذ الحرب مع العراق، تمكّنت إيران من تصليب نظامها وموقعها الإقليميّ، كما استحوذت، من خلال “حزب الله” اللبنانيّ، على حصّة الأسد في الصراع مع إسرائيل. ولئن تمكّن الأسد من التوافق مع العامل الأوّل (السعوديّة)، فقد أقام “تحالفاً استراتيجيّاً” مع العامل الثاني (إيران)، عمّده بالوقوف مع طهران ضدّ بغداد في حربهما إبّان الثمانينات.

في المقابل، انكسرت عزلة مصر مع حسني مبارك. لكنْ رغم أنّ الحرب العراقيّة – الإيرانيّة لعبت الدور الأكبر في كسر تلك العزلة عربيّاً، إلاّ أنّها اختارت لنفسها البقاء لاعباً ثانويّاً وبعيداً، يتعايش مع الدور السوريّ بقدر من التوتّر قابل للضبط والاستيعاب. أمّا العراق فراح يتدحرج من مأساة إلى أخرى، احتلالاً للكويت وتحريراً لها، وانفصالاً عمليّاً لشماله الكرديّ عن المركز الجائر، وحصاراً دوليّاً خانقاً وظالماً للسكّان، ثمّ أخيراً، سقوطاً لنظامه الطغيانيّ على يد الجيش الأميركيّ.

كلّ شيء إذاً كان يسير بما تشتهي سفن الأسد. لكنْ في 2000، سنة رحيل الأسد الأب، انسحب الإسرائيليّون من طرف واحد من لبنان، فبدأت أكثريّة لبنانيّة تتململ من الوصاية السوريّة. وفي 2003، مع الحرب الأميركيّة التي أطاحت صدّام حسين، انتابت الأسدَ الابن مخاوف جدّيّة تأكّدت مع انتفاضة القامشلي/قامشلو الكرديّة في 2004. ثمّ في 2005، تعرّض “دور سوريّا الأسد” لضربة موجعة تمثّلت في انسحاب الجيش السوريّ من لبنان. لقد قضى بشّار خمس سنوات بعد ذاك وهو يحاول أن يرمّم ما أنزلته به الهزيمة اللبنانيّة، إلاّ أنّ الثورة التي انفجرت في بلده نفسه، من ضمن سياق الثورات العربيّة،

هي التي استنزفت سلطته ودفعته إلى الانكفاء على الداخل. ومع هزيمة الثورة وتوسّع الحرب الأهليّة – الإقليميّة، في ظلّ التقاسم الواسع للمساحة السوريّة، ارتدّت سوريّا إلى “ملعب” لاعبوه الأساسيّون قوى أجنبيّة. أمّا مصر فعادت بانقلاب عبد الفتّاح السيسي، وتفاقم المشكلات التي انفجرت بسببها ثورة يناير، إلى مجرّد تابع كبير لكتلة الدولة الخليجيّة، لا سيّما السعوديّة. وأمّا العراق الذي تتزايد القناعة بأنّه لن ينصلح في القريب العاجل، فكلّ ما يستطيعه، بعدما تلاشى كحاجز إقليميّ، تعجيلُ الالتحام المباشر بين إيران والدول العربيّة في الخليج.

هكذا، وفي انتظار أن تتّضح نتائج قتل الصحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي على السلطة السعوديّة وعلاقاتها الخارجيّة، يمكن القول إنّ المشرق بات ملحقاً بالمواجهة الإيرانيّة – السعوديّة. والحال أنّ الاندثار السياسيّ للمنطقة الأبكر عربيّاً في التعلّم والتقدّم والاحتكاك بالغرب والحداثة، أي المشرق، سيبقى لسنوات طويلة، المصدر الأبرز للشقاء العربيّ.    

 

إقرأ أيضاً:

أوروبا التي يفتك بها الغموض والحيرة

مقتل خاشقجي وعصرية الأنظمة