fbpx

ازدواجيات الجزائر من خلال تجربة شخصية مع نساء غير محجّبات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صحيحٌ أنّه في اﻷيّام اﻷولى لاستكشافي الجزائر العاصمة، شعرت بأنني في إحدى المدن الفرنسية المُطِلَّة على البحر المتوسّط، إذ إنّ العُمران مشابهٌ جداً والتكلّم باللغة الفرنسية رائجٌ إلى حدٍّ فاق تصوّري، وصحيحٌ أنّ نسبة النساء المُحجّبات كانت أقلّ ممّا كنت أتوقّع، إلاّ أنّه بعد مرور أسابيع، شرَعَتْ تستوقفني ظواهر عدّة، نبّهتني إلى أنّ فرنسا بعيدةٌ جداً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في اﻷيّام اﻷولى لزيارتي اليمن قبل أكثر من 13 عاماً، وعلى رغم اطّلاعي المُسبَق على صُوَرٍ لهذا البلد وعلى الخطوط العريضة لتاريخه السياسي والاجتماعي، أُصِبْتُ بالذهول أمام فرادة البيئة الجديدة التي أحاطتني: شكل مباني صنعاء القديمة وعُمران المدينة ككلّ؛ الانتشار الواسع عند الرجال للملابس التقليدية المتنوّعة بتنوّع أصولها المناطقية؛ اختفاء معظم وجوه النساء خلف النقاب ذي اللّون اﻷسود الحالك؛ وطبعاً جلسات تخزين نبتة القات.

غير أنني بعد أسبوعين أو ثلاثة، رأيتُني منسجماً مع ميدان دراستي، إذ استطعت بسهولة تكوين علاقات تحوّل قسمٌ منها في ما بعد إلى صداقات، كما صارت شوارع العاصمة أليفةً على تنزّهاتي الليلية. وفيما كنت أتأقلم في فترة ما بعض الظهر مع أجواء المَقايِل الرجالية فأتعلّم مَضْغ أوراق القات وتخزينها في فمي قبل بصقها في المَتافِل، كان لزيارةٍ قامت بها باحثة يمنية مُنَقَّبة قبل ظهر أحد اﻷيّام للمعهد الفرنسي حيث كنت أقيم، وَقْعٌ مُهمٌّ عليَّ، إذ ساهمت في تقبلي هذا الرداء وفي تقصير المسافة من هذه الظاهرة من دون أن يعني ذلك تقديم تبريرٍ لها.

قد يسأل قارئٌ بحقّ: لِمَ الكلام عن اليمن في مستهلّ مقالٍ يقتصر عنوانه على الجزائر؟

لن أطيل عليه اﻹجابة: باختصار، إنّ الدرس المنهجي الذي استخلصته من تجربتي في الجزائر، هو في وجه من وجوهه، عكس الدرس المنهجي الذي استخلصته من تجربتي في اليمن. فلئن أتاح لي اليمن إدراك حدود النظرة الاكزوتيكيّة التي تُفْرِط في التركيز على الاختلاف بين الفضاء الثقافي الغربي والفضاء الثقافي العربي- الإسلامي، شكّلت الجزائر فرصةً ﻹدراك حدود النظرة النقيضة التي تعتمد مبدأ تَتْفيه الاختلاف بين هذين الفضاءين.

صحيحٌ أنّه في اﻷيّام اﻷولى لاستكشافي الجزائر العاصمة، شعرت بأنني في إحدى المدن الفرنسية المُطِلَّة على البحر المتوسّط، إذ إنّ العُمران مشابهٌ جداً والتكلّم باللغة الفرنسية رائجٌ إلى حدٍّ فاق تصوّري، وصحيحٌ أنّ نسبة النساء المُحجّبات كانت أقلّ ممّا كنت أتوقّع، إلاّ أنّه بعد مرور أسابيع، شرَعَتْ تستوقفني ظواهر عدّة، نبّهتني إلى أنّ فرنسا بعيدةٌ جداً.

طبعاً في مقال سابق، قمت بإبراز التناقض بين التغييب الرسمي للأسماء الفرنسية السابقة لمعظم الشوارع العريضة في العاصمة والاستعادة الشفهية لتلك اﻷسماء الفرنسية على لسان الناس العاديين، ما يقرّب المسافة الرمزيّة إلى البلد المستعمِر السابق. ولكن، ما يصحّ في المسائل المتعلّقة بالمشاهد العمرانية لا يصحّ بالضرورة في المسائل المتعلّقة بأنماط الحياة الاجتماعية،

إذا حاكت قلّة استخدام زمور السيّارات مُقتضيات تَمَدُّنٍ قد يكون منبعه فرنسيّاً، فإنّ تأدية التحيّة بين الشباب والشابّات تختلف عمّا هو متّبع عادةً في فرنسا، أي تبادل قبلتين في كلّ مرّة يتمّ فيها اللقاء. في الجزائر، يُكْتَفى عموماً بالتحيّة الشفهية من دون إرفاقها بالسلام اليدوي. وفي رغبة منّي للتعبير عن اختلافي من دون أن أثير بلبلة في مكان العمل، كنت أُقْدِمُ منهجياً على مصافحة زميلاتي ولم تكن تفوتني علامات الإرباك على وجوه الزملاء. ما كنت أعتبره تنازلاً عن عادة التقبيل التلقائي التي اكتسبتُها في فرنسا، كانوا يرونه جرأةً غير مستحبّة. إلاّ أنّ أحدهم فاجأني في يوم من اﻷيام  وهو يتبادل القبلات مع إحدى الزائرات. ولم يُكتب لدهشتي أن تستمرّ أكثر من أربع وعشرين ساعة إذ إنّهما اكتفيا في اليوم التالي بتأدية التحيّة الشفهيّة. فأدركت حينها أنّ تلك القبلتين اليتيمتين جاءتا بعد فترة غياب طويلة وقد لا تبصران النور مجدّداً إلا بعد غياب أطول.

ويوم عادت إحدى الزميلات إلى العمل بعد نقاهة طويلة نسبيّاً. ظننت أن المصافحة لن تكون كافيةً للتعبير عن تهنئتي لها بالسلامة. وفيما كنت أتوجّه إليها مسرعاً الخطى ومُبدياً فرحتي برجوعها، مدّت يدها أقصى ما بإمكانها المدّ تفادياً لتلقّي قُبْلتين على وجنتيها. ولا يُفسَّر ذلك بالحرص على عدم نقل العدوى إليَّ، فمرض تلك الزميلة كان من الصنف الذي لا يُعدي. إنّما في اﻷمر تفادٍ لحرج اجتماعي قد يسبّبه تبادل القبلات تحت أنظار عددٍ من المُوَظّفات والمُوَظّفين.

 غالباً ما كانت تلك الزميلة غير المُحَجَّبة تشاركني وزملاء آخرين تناول وجبة الغداء في مطاعم العاصمة، إلاّ أنّها كانت تمتنع امتناعاً منهجياً عن دخول المقاهي معنا، إذ إنّ المقاهي للرجال فحسب. وكان منظر تلك الزميلة وهي تنتظرنا بصمتٍ في الخارج، بالغ التعبير عن الإقرار بالخضوع الرمزي لمستلزمات المجتمع الذكوري، خضوعٌ بدت قوّة شخصيّتها المعهودة عاجزةً في هذه الحالة عن مقاومته.

وإلى الامتناع عن دخول المقاهي، تمتنع نساء الجزائر عموماً، المحجبات وغير المحجبات، عن التدخين في اﻷماكن العامة.

ويبدو أنّهن بالكاد يجرؤْنَ على التدخين أمام أهاليهنّ داخل بيوتهنّ. وربّما فَسّرت هذه الظاهرة اهتمام الكثيرين بفيلم صدر منذ عام ونصف العام على شاشات السينما في فرنسا وحمل عنوان “في عمري ما زلت نْتْخْبى باشْ نْتْكْيّْف” أي في العمر الذي وصلت إليه، لا أزال أختبئ كي أدخّن.

لا شكّ في أن هذا الفيلم الذي تمّ تصوير معظمه في حمّام عثماني باليونان والذي تعيش أبرز الممثلات فيه خارج الجزائر، تبسيطيٌّ إلى حدّ بعيد ومُفْرِطٌ في تبنّي ثنائية مختزلة لواقع التسعينات الفعلي، إذ لم تكن كلّ النساء الأصوليّات من أنصار اللجوء إلى العنف، كما لم تكن جميع مناهضاتهن “الاستئصاليّات” من أنصار العلمانية بالضرورة. ولكن، مهما يكن من أمر الطابع التبسيطي لفيلم المخرجة ريحانة، يُحسب لهذا العمل – المسرحي أصلاً – إطلاقه العنان لكلامٍ كاسرٍ للمحظورات الاجتماعية، كلام من شبه المستحيل سماعه علناً على لسان نساء الجزائر اليوم، ليس في المجال العام فحسب، بل ربّما في المجال الخاص أيضاً

ولئن كان هذا النمط من الازدواجيات وارداً في مجتمعات أخرى، فإنّه يأخذ نكهة خاصة في المجتمع الجزائري، وحديث معظم المثقفين المحليين عنه، سواء لتبريره أو لنقده، يُجانب التحديد الدقيق لماهيّته. فمثلاً، في سياق الكلام عن الحياة الجنسيّة قبل الزواج، بحضور أفراد ينتمون إلى المجتمعات الغربيّة، غالباً ما يشار إلى أنّ تلك الحياة مزدهرة في الحيّز الخاص خلافاً لما يدلّ عليه العفاف النسبي للحيّز العام.

وقد يكون الروائي كمال داود من القلائل الذين يدحضون هذا الخطاب المُنطوي على عقدة دونية بالكاد تكون مستورة. فمن خلال تركيزه في أكثر من تصريح على مسألة الكبت الجنسي عند شابّات الجزائر وشبابها، يوحي هذا الكاتب الجريء بأنّ الازدواجية الفعلية لا تكمن في الفرق بين مظهر اجتماعي محافظ وجوهر جنسي منتعش، إنّما في الهوّة بين مظهر يُحاكي بعض السمات الغربية وحياة جنسية شبه معدومة قبل الزواج؛ وإن لم تُعْدَم  وحدث أن فقد الحبيبان السيطرة، فنادراً ما يُسْتَدْرَك اﻷمر عبر جراحة “ترقيعيّة” ذات طابع سرّي وذات الكلفة المرتفعة نسبيّاً، وغالباً ما يُسْتَدْرَك اﻷمر ذاته عبر إدراجه في مسارٍ يؤدّي إلى الزواج بعد المرور بمراحل الخطبة وقطيع الشرط والفاتحة.

والزواج طبعاً لا يكون إلاّ من داخل الملّة. وأنا لا أنسى كيف ابتعدت منّي بشكل فُجائي تلك الشابّة لحظة عَلِمَتْ بتعجّب كاد يتحوّل إلى صدمة أنني وليد زواجٍ بين أمٍّ مسلمة وأبٍ غير مسلم. فبعد ثلاث ساعات من حديث متواصل تخلّلته نظرات وابتسامات  واعدة، خاب أمل تلك الشابّة، التي لا تمزح في موضوع العلاقات مع الشباب، بالوقوع على ضالّتها في إطار تلك الرحلة في الحافلة التي قادتنا من وسط الجزائر العاصمة إلى “محطّة” تِكْجدة الجبليّة ذات المنظر الطبيعي الباهر.

والشابّة تلك غير محجّبة ولعلّها في ذلك وفي تصرّفها المذكور تعبّر عمّا يُسَمّى “الاسلام العادي” أو “الاسلام اليومي”.  

في الواقع، من خلال تسليط الضوء على هذا الصنف من الإسلام  والتذكير بأنّه اﻷكثر رواجاً بين الناس، يُراد عادةً تمييزه عن الإسلام السياسي أو الايديولوجي وتبيان الطابع المنفتح  للمجتمع بشكل عام. إلاّ أنّ هذا الطرح لا يصمد أمام حقائق عدّة. فبموجب “الإسلام اليومي” هذا، أي بموافقة شرائح واسعة من المجتمع ورضاها، يكاد يستحيل على غير المسلم أن يأكل أو يشرب في اﻷماكن العامة طيلة نهارات شهر رمضان. وبموجب “الإسلام اليومي” عينه، يكاد يستحيل على أجنبي غير مسلم يوّد الزواج من جزائرية مسلمة ألاّ يعتنق الدين الحنيف إذا ما أراد العيش معها داخل البلاد، لا خارجها. وبموجب “الإسلام اليومي” جزئيّاً (وجزئيّاً فقط)، يغدو من الصعوبة بمكان على شباب الجزائر وشابّاتها تصوّر علاقة غراميّة معزولة عن مسار الزواج اﻵنف الذكر.

أمثلة كثيرة أخرى تمكن إضافتها لتفنيد طرح الروح المنفتحة ﻷتباع “الإسلام اليومي” إلاّ أنّ تعدادها أقلّ أهميّة ربّما من لفت النظر إلى مساهمتها في بلورة ازدواجية قد تمثّلها الهوّة بين مضمون بعض الكتابات الروائيّة والواقع، إلاّ أنّها تبلغ أعلى درجاتها مع موقع “المنشار” الإلكتروني. بالفعل، إنّ هذا الموقع الجزائري الساخر والمختصّ في مجال “اﻷخبار الكاذبة” يحتوي في نسخته الفرنكوفونية –  وهي النسخة الرئيسية – على مقالات من الصعب أن تتوافق مع معايير “الإسلام اليومي”. فأنّى لفُكاهة ينطوي عليها مقال يَنسب إلى أحد السياسيين الجزائريين طرح صوم ثلاثة عشر يوماً فقط من شهر رمضان في فصل الصيف – وذلك بعد عملية حسابية دقيقة تأخذ في الاعتبار الفرق بين عدد ساعات الصوم في فصل الشتاء وعددها في فصل الصيف – أن تلقى قبولاً في الواقع الاجتماعي اليومي الملموس؟ الجواب معروفٌ بشكل مسبق في ما يتعلّق بمضامين “فكاهية” أخرى قد لا يتقبّلها الذوق العام لغير المؤمنين أصلاً.

هذه الهوّة بين ما يمكننا أن نشاهده في بعض اﻷفلام المعروضة ضمن إطار مهرجانات سينمائية عابرة أو أن نقرأه في بعض الروايات وعلى صفحات بعض المواقع الالكترونية، من جهة،  والواقع الاجتماعي اليومي الملموس، من جهة أخرى، لم تقلصّها قطّ جارتي في البناية التي سكنتُها طيلة 10 أشهر منذ أكثر من عامين.

في مساء اليوم اﻷوّل من دخولي الشقّة، تنبّهتُ إلى عدم وجود عود كبريت أو قدّاحة ﻹشعال الغاز بغية تسخين وجبة الطعام، فتوجّهتُ إلى الشقّة المقابلة وطرقتُ بابها وإذا بامرأة غير محجّبة تفتح الباب وإلى جانبها ابنها الصغير. وعندما طلبتُ منها ما أحتاج إليه، قالت لي بلغة فرنسيّة منمّقة إنها سوف تبحث عن ذلك ثمّ أغلقت الباب. بعد خمس دقائق تقريباً، رُنَّ جرس شقّتي ففتحت، وإذا بالولد الصغير يناولني مجموعة من أعواد الكبريت. وبعد نحو الساعة، رُنَّ الجرس مجدّداً وإذا بالزوج العائد لتوّه من العمل يناولني طبقاً شهيّاً متمنّياً لي، بلغة فرنسية لا تقلّ تنميقاً، طيب اﻹقامة في الجزائر. لقد عاود الزوج تصرّفه اللطيف والخدوم عندما ساعدني بعد أسبوع في ربط شقّتي بشبكة الانترنت. وقتها، كنت على يقين بأنّ علاقة الجيرة هذه ستتطوّر إلى صداقة، بخاصّة بعدما علمتُ أنّ الجارة من العاملات في إحدى المجالات الفنّية الإبداعية. إلاّ أنّ ذلك لم يحصل. فطيلة مدّة إقامتي، لم أتخطّ قطّ عتبة الشقّة المجاورة، حتى ولو طرقت بابها أكثر من عشرين مرّة للاستفسار تارةً عن عطل في المصعد وطوراً عن مشكلة في مياه الصرف الصحيّ. وفي المرّات التي كانت الزوجة تسأل “من”، بالفرنسية دائماً، من خلف الباب وأجيب “الجار”، كان فتح ذلك الباب يستغرق مدّة أطول من المتوقَّع، إذ كان الزوج هو الذي يقوم بهذه المهّمة بينما تختفي الزوجة عن أنظار الغريب اﻷعزب الذي كنته. أمّا في المرّات التي اضْطُّرَت هي إلى فتح الباب بسبب غياب زوجها وبسبب إصراري على الرنّ، فكانت علامات الإرباك تبدو على محيّاها وإن لم ينعكس ذلك في مضمون كلامها. إلاّ أنّ المفارقة الكبرى تجسّدت خير تجسيد عندما اضْطرَّتْ مرّةً إلى استخدام المصعد معي بعدما صدف أنّ فتحنا بابَي شقّتَيْنا في الوقت نفسه وبغية الإقدام على الغرض نفسه، أي نزول طبقات عدة، وهي مسافة تكفي لتبادل حديث ليس بقصير، بخاصّة  أنّ حركة المصعد بطيئة نسبيّاً. ففي بداية نزولنا، أبدت لي باتّزان أسفها الشديد لعدم دعوتي، ولو مرّة واحدة، إلى مأدبة عشاء عندهما. أماّ حين اقتربنا من الوصول إلى الطبقة اﻷرضية، شرعَتْ تتكلّم بوتيرة سريعة متمنيّة لي نهاراً سعيداً، ثمّ فتحت باب المصعد ومشت بوتيرة أسرع، متفادية بذلك مرافقتي إيّاها في باحة البناية الخارجية الفسيحة.

وأنا لا ألوم تلك الجارة وأتفهّم حرصها على حماية أسرتها من كلام الناس المزعج. لكن ذلك لا يمنعني من التساؤل حول  كيفية إدارتها الهوّة المُعْتَبَرة بين تصرّفها الذي تذعن بموجبه لقواعد المجتمع التقليدي والذكوري وخطابها النسوي التحرّري في مجال عملها والذي تسنّى لي الاطِّلاع عليه من خلال بعض المقتطفات المنشورة على الشبكة.

 

صحيحٌ أنّه في اﻷيّام اﻷولى لاستكشافي الجزائر العاصمة، شعرت بأنني في إحدى المدن الفرنسية المُطِلَّة على البحر المتوسّط، إذ إنّ العُمران مشابهٌ جداً والتكلّم باللغة الفرنسية رائجٌ إلى حدٍّ فاق تصوّري، وصحيحٌ أنّ نسبة النساء المُحجّبات كانت أقلّ ممّا كنت أتوقّع، إلاّ أنّه بعد مرور أسابيع، شرَعَتْ تستوقفني ظواهر عدّة، نبّهتني إلى أنّ فرنسا بعيدةٌ جداً.

 

ويبدو أنّ الخشية من كلام الناس لا مفرّ منها حتى ضمن إطار  مُخَيَّمٍ شبابيٍّ في عمق الصحراء الكبرى شارفت مدّته اﻷسبوع. فمن بين الذين تعرّفت إليهم هناك، انسجمت تحديداً مع شقيقتين تعملان في المجال اﻷكاديمي. وفي سياق حديثنا المتشعّب، بَصَمَت الشقيقتان غير المحجّبتين لي بالعشرة على كلامي عن ضحالة الحريّات الاجتماعية في الجزائر على رغم الحضور اللافت، ولو غير الفعّال، لبعض النساء في الحقل السياسي، كلويزة حنون مثلاً. ولكن، عندما لبيّت دعوتهما إلى التوجّه نحو خيمتهما، فوجئت بوجود شخص طاعن في السنّ نوعاً ما وفوجئت أكثر حين علمت أنّه والدهما!

هذا الرجل الذي توجّه من بلدته الكائنة على الحدود الساحليّة مع تونس إلى الجزائر العاصمة ثم ركب الحافلة التي أقلّتنا إلى جنوب غربي البلاد في منطقة تضمّها خرائط القرن التاسع عشر إلى سلطنة المغرب، فقطع بذلك عرض البلاد وطولها حفاظاً على سمعة ابنتيه البالغتين من العمر… 25 و27!

والحفاظ على السمعة هذا رافقته على اﻷرجح رغبة في الوقوع على صهرين مستقبليّين، أو أقلّه على صهرٍ واحدٍ. وعبر تعامله اللطيف معي، خلت أنّه رشحّني إلى هذا الموقع. إلاّ أنّه لم يتأخّر في ترسيبي ﻷنّ تحديد هويّتي الدينية بدا أمراً عصيّاً عليه. وهو كان،  والحقّ يُقال، مرهفاً بما فيه الكفاية لكي لا يطرح سؤالاً مباشراً عليَّ في هذا المجال. فلم يبق له سوى التفتيش عن شاب آخر من بين المشتركين الذين كانوا يذكرون اللّه عند كلّ محطّة كلامٍ (معظمه بالفرنسية طبعاً)، وذلك ربّما من باب التكفير عن ذنب اتّباعهم نمط عيش ريعي. وكم كان معبّراً مشهد هؤلاء الشباب وهم يقطعون رقصهم على إيقاع أردأ ما أنتجته الموسيقى الغربية بغية أداء صلاة العشاء.

والصلوات الخمس اليوميّة أمرٌ مهمٌّ جدّاً عند شرائح واسعة من شباب الجزائر وشابّاتها، حتى عند اﻷكثر ميلاً بينهم إلى التغريب. وقد تُشكِّل إحدى زميلاتي التعبير اﻷوضح لهذه الحالة التي يوفّق بموجبها المرء بين استعدادٍ شبه تام للاصغاء إلى خطاب يُطيح بالمحرّمات، والاحترام، شبه التام بدوره، لمقتضيات العيش بسلام  وأمان في مجتمع تقليدي وذكوري. ففي بداية إقامتي في البلاد، غالباً ما كانت تلك الزميلة غير المحجّبة تتناول معي وجبة الغداء وقت الاستراحة في مطاعم وسط العاصمة. كانت تستمع إليّ بفضول وأنا أشرح لها طروحات الفهم المادي للدين، حتى ولو كانت من الذين يؤدّون الصلوات الخمس. وفي البدايات أيضاً، كانت لا تجد غضاضة في زيارتي بشقّتي لاحتساء الشاي ولا في مرافقتي مشياً على رصيف كورنيش الجزائر الرائع ولا حتى في إمضائها وإيّاي نصف نهارٍ في بلدة تيبازة ذات اﻵثار الرومانية والطلّة الجميلة على البحر. وأذكر تماماً كيف أنّها، في إحدى نزهاتنا، شاركتني الاستنكار بعدما رويت لها قصّة أحد اﻷشخاص الذي لامني على إبدائي  رأياً إيجابيّاً في كتابات بنجامان ستورا (بنيامين سطورا)، لا لشيء إلاّ ﻷنّ اﻷخير يهودي اﻷصل. ولكن، مع مرور الزمن، وفيما كانت تلك الزميلة تتقدّم في مسيرة زواجها، كانت تلبيتها لاقتراحي إمضاء وقت الاستراحة سويّاً خارج مكان العمل تندر. وفي المرّات القليلة التي كانت تقبل فيها دعوتي إلى أحد المطاعم، كانت دائماً تخترع حجّتين: اﻷولى تجعلني أخرج من مكان العمل قبلها بعشر دقائق والثانية تجعلها تعود إليه بعدي بعشر دقائق. هكذا، لا نمشي جنباً إلى جنب في شوارع المدينة وتتجنّب هي بالتالي كلام الناس والتعليقات الثقيلة لبعض الموظّفات، بخاصّة أنّ إحداهنّ كانت تهوى “رؤية القشّة في عين غيرها ولا تبالي بالخشبة التي في عينها”. ويوم أفصحتُ لتلك الزميلة ممازحاً، وكنت جادّاً في الوقت عينه، عن نيّتي بنسف تلك الصيغة الضمنيّة، رمقتني بنظرة حزينة اعترفت من خلالها بمدى استدخال تصرّفها عنف المجتمع الرمزي.

عندما عدتُ من اليمن إلى فرنسا، لم  يخطر في بالي إجراء أيّ مقارنة بين المجتمعين حتّى ولو، كما ذكرتُ أعلاه، ساهم عملي الميداني في تقريب المسافة الثقافية بينهما. أمّا عندما عدتُ من الجزائر، شَرَعَتْ تستوقفني مشاهد لم أكن أكترث لها قبل سفري إلى ذلك البلد، كمشهد امرأة تدخّن على رصيف أحد المقاهي ومشهد أخرى تعانق حبيبها وتقبّله وسط إحدى الساحات.

إنّ التفاوت الملحوظ بين رواج اللّغة الفرنسية في الجزائر -أقلّه في المدن الكبرى- ونمط العيش السائد في فرنسا، يساهم في نزع صفة “غنيمة الحرب” التي أطلقها الروائي كاتب ياسين في الماضي على ذلك الرواج؛ وقد تكون صفة “المُمْتَلَكة الشاغرة” التي يميل الروائي كمال داود إلى اعتمادها اليوم، اﻷكثر تعبيراً عن الواقع الحالي. ولكن، نظراً إلى هميّتها، تستحقّ مسألة وضعية اللّغة الفرنسية في الجزائر والسجالات المتعدّدة اﻷبعاد التي تثيرها، مبحثاً آخر مستقلاًّ.

ما لم أقله أعلاه عندما أتيتُ على ذكر  الشابّة التي ابْتَعَدَتْ منّي لحظة عَلِمَتْ بتعدّد أصلي الديني، هو أنني تذكرّت حينها طرابلس (لبنان) حيث وُلدتُ وترعرعت. هناك، عقب دخول بنات بعض “أصحاب” أهلي مرحلة المراهقة، أعْرَضَ هؤلاء تدريجياً عن اصطحابهنّ معهم عند زياراتهم إيانا في بيتنا. آنذاك، استغربتُ ذلك التطوّر من دون معرفة سببه. وأميل اليوم إلى فهمه من باب إعراب هؤلاء “اﻷصحاب” الضمني عن أنّ وليد الزواج المختلط والمدني الذي كنته يشكّل نموذج تربية وتنشئة لا يناسب بناتهم… في كلّ حال، لمجتمعَي الجزائر العاصمة وطرابلس نقاط مشتركة عدة، ممّا يخوّلني افتراض المعادلتين التاليتين: الجزائر تساوي طرابلس ناقِص الوجود المسيحي المحلّي، وطرابلس تساوي الجزائر ناقِص رواج اللّغة الفرنسيّة.

 وهذا أيضاً يستحقّ مبحثاً منفصلاً.

 

إقرأ أيضاً:

مفارقات الجزائر في مشاهد عمرانية