fbpx

السلم… فكرةٌ ليست من أفكارنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كثيرة هي الأسباب التي عُرضت، مرّةً بعد مرّة، في تفسير “الاستثناء التونسيّ”: الانسجام الدينيّ والمذهبيّ بين التونسيّين. نُسب التعليم المرتفعة. وضع المرأة المتقدّم. الصلابة النسبيّة للطبقة الوسطى. القرب من أوروبا…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كثيرة هي الأسباب التي عُرضت، مرّةً بعد مرّة، في تفسير “الاستثناء التونسيّ”: الانسجام الدينيّ والمذهبيّ بين التونسيّين. نُسب التعليم المرتفعة. وضع المرأة المتقدّم. الصلابة النسبيّة للطبقة الوسطى. القرب من أوروبا…
بسبب هذه العناصر التي أرسيت في عهد الحبيب بورقيبة، نجحت الثورة هناك على رغم مصاعبها الكثيرة، وتمكّنت من إنشاء ديمقراطيّة سياسيّة أنقذت البلد من خياري الحرب الأهليّة والحكم العسكريّ: الأولى ابتلعت الثورة في سوريّا وليبيا واليمن. الثاني صادر الثورة في مصر.
قد يقال إنّ الخضّة الاجتماعيّة العميقة التي تعيشها تونس راهناً، والتي عُرفت بشعارها: “ماذا تنتظر؟”، تهديدٌ لهذه الديمقراطيّة الناشئة، لكنْ قد يقال أيضاً إنّها دليل على تجاوز التحدّي الوجوديّ والانتقال إلى مرحلة أخرى يحكمها الصراع الاجتماعيّ، مصحوباً بالبحث عن أدوات سياسيّة وتنظيميّة غير تلك التي عرفتها الحقبة السابقة (“نداء تونس” و”النهضة” إلخ…).
الاحتمالان واردان، والأيّام المقبلة كفيلة بتوضيح الصورة.
في غضون ذلك، يتوقّف جوزيف ساسّون في كتابه “تشريح السلطويّة في الجمهوريّات العربيّة” (دار نشر جامعة كامبريدج) عند سبب قليلاً ما يُذكر وراء “الاستثناء التونسيّ”، بل يمنحه الأولويّة على سائر الأسباب: إنّه “حياد الجيش، وهو حياد حوفظ عليه قرابة نصف قرن، على رغم بعض الأحداث المضطربة والتغيير في قيادة البلد” (من بورقيبة إلى زين العابدين). ويمضي الكاتب شارحاً: “لقد كانت تونس البلد الوحيد بين الجمهوريّات [العربيّة] الثماني الذي لم يتورّط في نزاع عسكريّ كامل، أكان في الداخل أو في الخارج”.
والحال أنّ هذا التقدير، وهو على الأرجح صائب، إنّما ينبّهنا إلى نقص كبير عانته الثقافة السياسيّة العربيّة، ناتج بدوره عن ضعف الوعيين الديمقراطيّ والليبراليّ. والمقصود هنا: مركزيّة مسألة السلام في التقدّم الديمقراطيّ. فثقافتنا العربيّة الحديثة تأثّرت بأوجه كثيرة من الثقافة الغربيّة، لكنْ خانها التأثّر بهذا الوجه تحديداً، علماً بحضوره القويّ، بل التأسيسيّ، في الميراث الأوروبيّ: من جان جاك روسّو الذي طرح فكرة “السلم الدائم” إلى عمانوئيل كانط الذي طوّرها ونشر مشروعاً لإقرار هذا السلم بين الدول الأوروبيّة (على أن تكون الدول المتّحدة جمهوريّة)، وإلى سان سيمون الذي دعا، في تصوّره لـ “إعادة تنظيم المجتمع الأوروبيّ”، إنكلترا وفرنسا المتنازعتين  إلى تجاوز خلافاتهما (على أن تنضمّ إليهما ألمانيا وتعاود أوروبا صياغة نفسها في سلم دائم). وهذا من دون أن نذكر برتراند راسل بانكبابه فكراً ونشاطاً على موضوعة السلام.
إذاً، إبّان الحروب فكّر بعض كبار الأوروبيّين بالسلم. في المقابل، تندر الإشارة إلى هذه المسألة في تحليلات طويلة عريضة عن أحوال بلداننا واتّجاهاتها، ويكاد الاهتمام بها يقتصر على توكيد استحالتها بسبب الحروب!، مع التوكيد الذي لا يتزحزح بأنّ العدوّ غير راغب بالسلام. لهذا لا نجد في خزانتنا العربيّة حين نفكّر بالمسألة هذه سوى بضعة أبيات شعر قديمة، أغلبها جاهليّ، تندّد بسفك الدماء، فضلاً عمّا جاء في سورة الأنفال “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” (بتأنيث السلم!).
وإذا صحّ أنّ الشيوعيّين كانوا استثناءً بانضمامهم، في الخمسينات، إلى حركة “أنصار السلم” السوفياتيّة المنشأ والغرض، فإنّ صلة ذاك “السلم” بالسلام لا تختلف عن صلة “الديمقراطيّات الشعبيّة” لأوروبا الشرقيّة بالديمقراطيّة.
لقد بلغ حبّ الشيوعيّين العراقيّين لهذا “السلام” أن أرسلوا إلى الموصل، في آذار (مارس) 1959، القطارات المسمّاة “قطارات السلام”، لكنّ مُستقلّيها كانوا مزوّدين بالرشّاشات والهراوات والسكاكين. هكذا شهدت المدينة العراقيّة الثانية مقتلة شهيرة في تاريخ العراق الحديث.
أمّا البيئات القوميّة، وهي دائماً أوسع تمثيلاً من الشيوعيّين، فأتحفتنا بأطنان من الكتابات التي حاولت إقناعنا، ضدّاً على مئات التجارب الحيّة، بأنّ الديمقراطيّة صنو القتال والحروب، وأنّ الديمقراطيّة “الحقيقيّة” إنّما تُصنع عبر إطلاق الحرّيّة لـ “الجماهير” كي تخوض المعارك الموصوفة بالمصيريّة والقداسة.
والحال أنّ “حرّيّة” “تسليح الجماهير” تُنتج من الحروب الأهليّة و/أو الاستبداد أكثر بكثير ممّا تُنتجه من الديمقراطيّة.
هكذا، وعلى عكس التجربة التونسيّة، مالت بضع جمهوريّات عربيّة إلى إنشاء “جيوش عقائديّة” و”جيوش شعبيّة” ترتّبَ على بنائها تحكيم قبضة من العسكريّين والأمنيّين بسلطات بلدانهم، مقابل تسريح معظم الكفاءات العسكريّة التي تتباهى الجيوش بمهنيّتها.
لقد تصاحب منع السياسة، في هذه الأنظمة، مع تعميم التسييس الذي اخترق المؤسّسة العسكريّة، مثلها مثل سائر المؤسّسات، فانتشر في المجتمع قدر من السمّ كفيل بتسميم المستقبل بعد تسميم الحاضر.
بلغة أخرى، نحن أمام ثنائيّة فاتنا التقاطها: إمّا الحروب والقضايا المقدّسة وإمّا الديمقراطيّة. وحتّى في البلدان العريقة ديمقراطيّاً، تفضي الحروب إلى تراجع في الأداء الديمقراطيّ، فيختلّ التوازن بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة لصالح الأولى، ويغدو شيوع الأخبار والمعلومات مقيّداً بالاعتبارات الأمنيّة. إنّ فيلم ستيفن سبيلبرغ “البوست”، الذي أثار لغطاً كبيراً في موازاة عرضه في بيروت، يضيء على بعض الكذب والتعتيم اللذين تنحطّ إليهما الديمقراطيّة في أزمنة الحروب.
أمّا لماذا فاتنا التقاط هذه العلاقة فهذا أمر مفهوم: ماذا نفعل بالعدوات التي تشارَكنا، نحن والأعداء، في صناعتها وفي نفخها جيلاً بعد جيل، هي التي نهضت فوقها أنظمة ومصالح وتأليه قادة معصومين؟ وكيف نقول بمركزيّة السلام، وهي مقولة غريبة عن عدّتنا الفكريّة القوميّة – اليساريّة – الإسلاميّة، ولا تُخفي تأثّرها بالفكر “البورجوازيّ” و”الغربيّ”؟
هكذا ما إن هبّت رياح الديمقراطيّة في التسعينات، وصارت اللاديمقراطيّة أشبه بعيب أخلاقيّ يستحي به صاحبه، حتّى ألصقنا هذه بتلك، فراحت تتدفّق “نظريّات” عن “ديمقراطيّة غابة البنادق” وما شاكلها. أمّا الأكثر حذلقة وتذاكياً بيننا فتحدّثوا عن الديمقراطيّة بوصفها أداة مفيدة لـ “تحصين” جبهتنا وتحسين شروطنا في “التصدّي للعدوّ”.
والحقّ أنّ الديمقراطيّة لا تحصّن شيئاً، بل تفتّت أشياء كثيرة. إلاّ أنّها تؤسّس لطريقة حياة مهمومة بخفض العنف، لا بتمجيده أو التحريض عليه أو إيجاد الذرائع لتبريره.
وهذا الربط بين السلم والديمقراطيّة ليس اختراعاً بأيّ حال. فمنذ كانط، بدأت تشيع الحجّة القائلة بأنّ القادة الديمقراطيّين، وبالضبط لأنّهم مُنتَخَبون، يعلمون أنّ اتّباعهم سياسات غير شعبيّة يهدّد بعدم انتخابهم. والحروب غير شعبيّة عادةً بسبب ما تكبّده من أكلاف في الدم وفي الضرائب. أمّا الديكتاتوريّون فلا يعبأون بهذا كلّه، مدركين أنّ في وسعهم بالقهر إسكات شعوبهم ونقّادهم.
وقد تبدو هذه الحجّة مُستغربة قليلاً بسبب الموجة الشعبويّة الضاربة راهناً، إلاّ أنّ ذلك لا يغيّر في المبدأ الذي لا يُختبر إلاّ في مجتمعات صحّيّة وفي أطوار صحيّة.
لقد بات ممّا يشبه الإجماع اليوم أنّ السلام يصنع الديمقراطيّة أكثر مما تستطيع الديمقراطيّة أن تصنع السلام. لكنّ المؤكد، مع هذا، أنّها تصنع السلام بين الديمقراطيّات نفسها على الأقلّ.
لكنْ على العكس تماماً، فإنّ قارىء تاريخنا الحديث لن يخطىء ذاك التوازي بين الحروب والديكتاتوريّة المصحوبة بعبادة الشخصيّة كما تجسّدت في جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وصدّام حسين: الأوّل بنى مجده على “الانتصار” في 1956، والثاني على “الانتصار” في 1973، والثالث على جملة من “الانتصارات” لا تُعدّ انتهت بسقوطه واختبائه وإعدامه.
أمّا نقد هؤلاء بوصفهم “وسطيّين” و”متذبذبين”، من موقع أشدّ راديكاليّة وتطرّفاً، فيستبطن طاقة عنفيّة لا تقلّ خطورة. هكذا أُخذ على جمال عبد الناصر، في البيئة هذه، “تفريطه” الناجم عن موافقته على قرار مجلس الأمن 242 وعلى مشروع روجرز. يومها شاع وصف “السلام” بأنّه “استسلام” على ما قال الشعار والهتاف الشهيران:
“لا سلام ولا استسلام حتّى تحرير فلسطين”
كذلك أُخذ على الأسد أنّه لم يحارب “كما يجب”، بل أبدى استعدادات للمساومة والمسالمة كما في لبنان عامي 1976-77. والأسوأ أنّ المدافعين عن عبد الناصر والأسد كانوا، في الحالتين، ينفون التهم مؤكّدين على جدّيّة الزعيمين في طلب القتال.
وقد دار الغزل دائماً، ويدور، بتجارب بائسة سكبت الدم المجانيّ بلا حساب، من اشتراكيّي اليمن الجنوبيّ إلى خمينيّي إيران. وإذا عرضت لأحد المتغزّلين تجارب كالثورة الفلسطينيّة وحزب الله، تركّز النقد على “نقص الجذريّة” في هذا الجانب أو ذاك، وفي هذا السلوك أو ذاك، أو على افتقار الحياة الداخليّة للتنظيم (الذي يشكّل العنف علّة وجوده) إلى الديمقراطيّة!ّ
وهو درس يعرفه، من بين شعوب كثيرة أخرى، كثيرون من اللبنانيّين. ذاك أنّ مُريدي حروب المصير لم يجدوا مادّة للسخرية كما وجدوها في ضعف الجيش اللبنانيّ وعدم تسيّسه. فما إن حضر التسيّس مصحوباً بأوهام القوّة حتّى نزفت تلك الديمقراطيّة فيما فقد الجيش قدرته على أن يكون الطرف الذي يحتكر حمل السلاح.
لقد أطلق كوميديّ جزائريّ يعيش في فرنسا نكتة أرادها تفسيراً للحرب الأهليّة في بلده: “طردنا الفرنسيّين ورحنا ننتظر أن يأتينا غازٍ آخر كي نطرده. انتظرنا سنة بعد سنة بعد سنة ولم يأت هذا الغازي، فيما نحن نزداد هيجاناً وغضباً. ماذا نفعل إذاً؟ كان لا بدّ، والحال هذه، أن نفجّر هذه الطاقة ونبدأ الحرب في ما بيننا”.
هنا، وعلى عكس فرانس فانون، يستحيل أن يكون العنف علاجيّاً وشافياً. إنّ النكتة، والحال هذه، أبلغ من التحليل الشهير وأشدّ حكمة بلا قياس.
[video_player link=””][/video_player]