fbpx

مذكرات كيس نفايات لبناني

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

رفع نفاياتنا من أمام أعيننا وتواريها، لا يعني إختفائها، سواء أعيد تدويرها، طمرها، أو أفرغت في البحر. إذ ستظل بطريقة أم بأخرى شاهدةً على حقبات وحضارات تاريخية. وغالباً ما شكلت أدلة توثيقية عن الوجود البشري فيها. قديماً، وقبل إكتشاف الحرف، شكّلت نفايات أترابنا مفتاحاً لكشف أسرار عن مأكلهم ومسكنهم وصناعاتهم. ويختزن كيس القمامة ضمناً، خبايا وحكايا انسانية واجتماعية. إنه، بكلمات أخرى، يخبر قصتنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

رنين عواد
نشر هذا التحقيق في موقع Synaps

رفع نفاياتنا من أمام أعيننا وتواريها، لا يعني إختفائها، سواء أعيد تدويرها، طمرها، أو أفرغت في البحر. إذ ستظل بطريقة أم بأخرى شاهدةً على حقبات وحضارات تاريخية. وغالباً ما شكلت أدلة توثيقية عن الوجود البشري فيها. قديماً، وقبل إكتشاف الحرف، شكّلت نفايات أترابنا مفتاحاً لكشف أسرار عن مأكلهم ومسكنهم وصناعاتهم. ويختزن كيس القمامة ضمناً، خبايا وحكايا  انسانية واجتماعية. إنه، بكلمات أخرى، يخبر قصتنا.
إن كلفة النفايات في لبنان ربّما هي الأغلى في العالم. هذا البلد الصغير، يضمّ نسبة مرتفعة من النفايات ذات المكونات الخطرة. نفاياتُ لبنان تسرد قصة مجتمع استهلاكي، فشل منذ عقود، في أن يضع خطة وطنية شاملة لإدارة النفايات. ويُعزى ذلك إلى انتقال المسؤولين من إصلاحات مجتزئة إلى حلول موقتة، ومن خطط طوارئ إلى خطط أساسيّة لم تدخل حيّز التّنفيذ.
للأزمة الحالية جذور عميقة، تعود إلى ما قبل الحرب الأهلية (ما بين الـ ١٩٧٥و١٩٩٠)، حيث كانت البنية التحتية لإدارة النفايات في مستويات دنيا. وتعاملت البلدات والقرى الواقعة خارج نطاق محافظتي بيروت وجبل لبنان مع المشكلة عشوائياً. وترجم الأمر عبر إقامة مكبات عشوائية، تحرق نفاياتها بين الحين والآخر. واستعانت بيروت بمحرقة شيّدت في العمروسية، أما نتائجها فكانت غير مرضية لا بل غير فعالة. واستمر الأمر على هذا النحو حتى العام ١٩٧٢ حين شُيّد معمل فرز وتسبيخ النفايات في الكرنتينا. في العام ١٩٧٤، كانت النقلة النوعية بإقرار الحكومة قانون المحافظة على النظافة العامة الذي يمنع رمي النفايات على الساحل، وتفريغ مياه الصرف الصحي في الأنهر والبحر، ويلزم بجمع النفايات في أماكن محددة. لكن اندلاع الحرب عام ١٩٧٥، كسر كل الجهود المبذولة لإرساء النُّظُم. ومذ ذاك الوقت، تُرك كيس القمامة وحيداً، يتدبر أموره، وشكل بداية ظهور المكبات والمطامر العشوائية وعصارتها المتسربة.
“إن كلفة النفايات في لبنان ربّما هي الأغلى في العالم”
عام ٢٠١٧، وفي قرية جبلية في محافظة جبل لبنان، استوقفتنا لافتة بعبارة: “لا ترمِ النفايات هنا”. أما في الجهة السفلى، فكانت الكارثة: نهر يتدفقّ وسط أكياس من النفايات، تحوّل مكباً عشوائيّاً. وعلى بعد كيلومترات قليلة، يتجاهل السكان حاويات النفايات الموجودة في الشارع،  في حين يرفض صاحب أحد المباني وضع حاوية قمامة بالقرب من مبناه لكونها تشوّه المنظر على حدّ تعبيره. ويؤكد أحد السكان القاطنين إلى جانب النهر “أن البلدية ستنظفه قريباً”. وتشاركنا إمرأة مسنة تجربتها بكل ثقة فتقول: “لا أربط كيس النفايات قبل رميه في النهر، وإلا سوف يعلق وسط الحجارة. هذا سيساعد التيار المائي على سحب القمامة”. ويتساءل ذلك الكرسي الذي يقف وسط المياه، ماذا يمكن أن يفعل به مجرى نهر صغير سوى غسل أقدامه؟
قد يميل سكان المدن إلى القول إن هذه الممارسات إثبات على تخلّف المجتمع الريفي. ولكن، ويا للأسف، الوضع ليس أفضل حالاً في المدينة. فبعد رفع النّفايات من الشوارع، قلّة هي الأسئلة المطروحة حول كيفيّة التخلص منها. وبالعودة إلى العام ٢٠١٥، تسببت قضية إقفال مطمر الناعمة بتراكم النفايات في أحياء الطبقات الغنية والمتوسطة من العاصمة بيروت. ورداً على ذلك، شهدت العاصمة تظاهرات حاشدة لكن لفترة قصيرة، تلاشت بعد إخفاء الحكومة القمامة تحت الجسور أو في الأودية البعيدة. وفي صيف ٢٠١٧، أفرغت جبالٌ من النفايات غير المفرزة  المكدسة في مطمر برج حمود شمال العاصمة بيروت في البحر المتوسط وأدت إلى تلوث الشاطئ، ومن دون وقفة احتجاج تذكر. وبالطبع، تمكن رواد الشاطئ من تجاهل القمامة العائمة ومن إيجاد وسيلة للتحدث عن زمن ماضٍ للمكان باعتقادهم أنه أنظف مقارنة بغيره من الأماكن. في الجنوب استند هؤلاء إلى التيارات الساحلية، شمالاً إلى “فوارات المياه العذبة”، وفي باقي أنحاء البلاد إلى اختبارات روتينية وفحوص مخبريّة سطحية للمياه. وقد تمت التعمية على النتائج مع إصرار على عدم تلوّثها.
إن موقف اللبنانيين السائد تجاه أزمة النّفايات هو موقف مألوف، راضخ لسلطة فاسدة وغير كفوءة. لكن الفارق أن ملف إدارة النّفايات الصلبة، مقارنة بملفات أخرى، استثنائي وحسّاس. وهذه النفايات تراكمية وسامّة، وهي ذات تأثير سلبي على التربة، الدورة المائية والإنتاج الزراعي في لبنان. ظهور تأثيرها إلى الواجهة وتكراره حتميّ، أما كلفتها فإلى ارتفاع مرة بعد مرة. لا يسرد كيس القمامة أحداثاً من الماضي، إنما يتوقع، ينذر، ويكتب المستقبل. وبالنسبة إلى الذين يريدون الاستماع إليه، نؤكد: “وجوب الإنتقال إلى الفعل الآن”.

تراكم النّفايات
ينتج لبنان منذ عقود كميات كبيرة من النّفايات يصعب التّعامل معها، أما الأرقام والإحصائيات الدقيقة الموثوق بها فغير متوافرة. لكن تشير البيانات الموجودة إلى أنها تصاعدية بشكل ملحوظ. عشيّة الحرب الأهلية، كان إنتاج بيروت من النفايات الصلبة يساوي ٦٠٠ – ٧٠٠ طن، وهي قمامة غير خطرة تراوح بين قشور الفواكه فصناديق من الورق وصولاً إلى الآلات الصناعية. وفي العام ٢٠١٥، تضاعفت هذه النسبة إلى نحو ١٥٥٠ طناً. ويرجح الارتفاع المطرد في نسب إنتاج النفايات في لبنان، إلى تقارير تقنيّة مختلفة تناولت الظروف في محافظتي بيروت وجبل لبنان، إذ أسندت عام ١٩٩٢ شؤون إدارة النفايات ضمن نطاقهما إلى مجلس الإنماء والإعمار (جهاز حكومي مركزي أنشأ عام ١٩٧٧ لتنفيذ مشاريع البنى التحتيّة). وتقدر نسبة إنتاج النفايات في المحافظتين المذكورتين  بأكثر من نصفإجمالي إنتاج النفايات الصلبة في لبنان*.
هذه النسب المتزايدة من إنتاج النفايات لم تكن لتشكل مشكلة، لكن المعضلة تمثلت في تقاعس السلطات اللبنانية عن تشييد البنى التحتية والإدارية للحد من المشكلة ومواكبتها. وقد يكون مطمر الناعمة، الذي افتتح عام ١٩٩٧، أكبر مثال على ذلك. فكان من المقرر أن يستوعب ٢ مليون طن من النفايات الصلبة كحد أقصى، في مدة أقصاها ٧ سنوات. لكن بحلول عام ٢٠١٥، وبعد بلوغ عمر الموقع ١٨عاماً، قدرت كمية النفايات التي يحويها بـ ١٥مليون طن، ما أجبر على إقفاله. في البداية، صمم مطمر الناعمة ضمن مخطط متطور للفرز اليدوي والميكانيكي، التّسبيخ والتّغليف. وانتهى الأمر باستخدامه كمخزن ضخم لـ ٨٥% من نفايات محافظتي بيروت وجبل لبنان.
إن فكرة زيادة إنتاج النفايات وتشييد البنية التحتية اللازمة وغياب التناغم في ما بينها قد سلط الضوء على فكرة مغلوطة مفادها تحمل أكثر من نصف مليون لاجئ سوري اللوم جراء أزمة النفايات الحالية. وخلال لقاء مع أحد أعضاء المجلس البلدي في قرية جنوبية أوضح: “التّحدي الأكبر الذي نواجهه على المستويين البيئي والصحي سببه السوريون الذين استضفناهم في قريتنا”.
فلنكن منصفين! لتدفّق النّازحين تأثير إيجابي على بعض المناطق من البلاد. لكن غالباً ما عانت البلدات من نقص في الخدمات، حتى ما قبل إيواء اللاجئين السوريين. وتشير الأرقام إلى أن حجم تأثير أزمة النّازحين مبالغ فيه. فقد أظهرت دراسة أجراها كل من الإتحاد الأوروبي، وزارة البيئة اللبنانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام ٢٠١٤، أن حجم النفايات الذي ينتجها النّازحون السوريون قاربت الـ ٩٠٠ طن في اليوم- أو ما يعادل ١٥% من مجمل النفايات المنتجة من اللبنانيين عام٢٠١١. وعلى الرغم من أن الرقم لافت، وارتفاعه متوقّع مذ العام   ٢٠١٤ إلا أنه لا يفسّر نطاق الأزمة الحاصلة قبل النزوح السوري.
“للنازحين السوريين تأثيرات إيجابية”
للنازحين السوريين تأثيرات إيجابية على عملية إدارة النفايات. وفي هذا الصدد، برز دور الاستثمارات الدولية إلى جانب شركاء لبنانيين دوليين في المناطق التي أهملتها الحكومة منذ عقود. وقدم الاتحاد الأوروبي، منفرداً، مبلغاً قدره ٣٥ مليون أورو ما بين عامي ٢٠١٤ و ٢٠١٥ لتحسين بنية قطاع النفايات الصلبة على مستوى البلاد ككل. وتضمن المشروع تشييد  ٦ معامل فرز وتسبيخ للنفايات الصلبة و ٨ مطامر صحيّة، ولا سيما تأمين حاويات وشاحنات ومكابس/ ضاغطات نفايات. وهدف البرنامج هو استفادة نحو ٢.9 مليون لبناني من الخدمات بحلول عام٢٠٢٠. وعلى هذا الصعيد، شاركت ألمانيا عام ٢٠١٦ في تمويل شراء معدات لجمع النّفايات بقيمة ١.8 مليون أورو. واستهدف المشروع الألماني حيال إدارة النفايات الصلبة ٢٥ بلديّة لبنانية. في حين موّلت كندا حملة “الفرز من المصدر” التي أطلقتها جمعيّة الأرض.
مقابل هذا النشاط الدولي الرامي إلى تحسين إدارة النفايات الصلبة في لبنان، فشلت الدولة اللبنانية في وضع إطار فعال لإدارة النفايات. وإن كان مطمر الناعمة خير مثيل على ذلك، فقد تم التعامل مع كميات كبيرة من النفايات في لبنان بطرق أقلّ تنظيماً، فأضحت في مكبّات عشوائيّة، غير صحيّة. ويقول مسؤول في الاتحاد الأوروبي: ” أحصينا عدد المكبّات في لبنان وقد لامست الـ ٨٠٠ مكب عشوائي. وهذا يعني أن لكل قرية مكباً”. إذاً، يمكننا القول إن هناك مكباً عشوائياً في نطاق عمل كل بلدية من البلديات اللبنانية البالغ عددها ١٠٣٧. إن تزايد عدد المكبات العشوائية في البلاد أشبه بنسخة مكبرة عن المشكلة. فهي مطامر غير صحية، أي تفتقد للطبقات العازلة والمرافق المعالجة للسوائل السّامة.
وفي حين أن معالجة النفايات الصلبة تستحوذ اهتماماً كبيراً من الجميع، فالبنية التحتيّة المختصّة بمعالجة المياه الآسنة سيئة للغاية. وأشار خبير أوروبي إلى أن عدداً من شبكات الصرف الصحي في العاصمة بيروت يعود إلى الثلاثينيات، وتالياً لا يمكن استبعاد انفجار الشبكات غير المحدثة جرّاء الضغط الناجم عن المباني الشاهقة التي لم تكن مصممة لها. ومع العلم أن الوضع قد تطور لاحقاً، غير أنه ظل دون المطلوب ونتائجه مخيّبة. ومن بين ١١ محطة تكرير مياه بُنيت منذ الحرب الأهلية، تعمل محطتان ما دون قدرتها، و ٧ منها لم تعمل على الإطلاق ذلك لأنها لم تكن متصلة بشبكة المجارير.
يتطور المجتمع اللبناني سريعاً، في حين تبقى سياسات إدارة النفايات الصلبة مجمدة. فلبنان مجتمع استهلاكي، وينتج تالياً أطناناً متزايدة من النفايات. وتشير إدارة الإحصاء المركزي إلى أن الأسر اللبنانية اشترت المواد الغذائية والمنسوجات والأثاث والأجهزة والسلع المصنعة – التي تستورد بمعظمها- بمبلغ ١٢مليار ليرة لبنانية في العام ١٩٩٧. وفي العام ٢٠١٠، ارتفعت هذه القيمة لتلامس حدود الـ ١٨مليار دولار (بالنسبة إلى الأسعار الثابتة لعام ١٩٩٧). قصة “كيس القمامة”، هي واحدة من أهم القصص، حيث إن النفايات بالكاد تتحول أو يعاد تدويرها فاستخدامها. ببساطة إنها قصة تراكم وتخزين.
“قصة النفايات في لبنان هي واحدة من أهم قصص التراكم”
وإضافة إلى زيادة كميات النفايات المنتجة في المجتمع اللبناني، يجدر الإشارة إلى تبدل نوعيتها. ويشرح صاحب أحد المطامر إنه “لم يسبق لأجدادنا أن أنتجوا هذا الكم من النفايات. ولطالما شكلت معظم نفاياتهم العضوية طعاماً للدجاج والماشية”. جمع النفايات القابلة لإعادة التدوير أمر ليس جديداً، ويستذكر البعض صوت الباعة المتجولين: “حديد للبيع! بطاريات للبيع”! اشترى هؤلاء الأدوات المنزلية غير الصالحة للاستعمال أو القابلة للكسر كالبرادات والغسالات. وقد أصبحت هذه الحلول أقل قابلية للتنفيذ مع زيادة كمية النفايات، خصوصاً تلك العضوية التي تشكل ما يقارب ٥٣% من مجمل النفايات في البلاد.
عام ٢٠١٥، وضمن دراسته، أكد باحث لبناني إعادة تدوير٩% فقط من النفايات وتسبيخ ١٠% منها على مستوى البلاد ككل. ويجدر الإشارة إلى  أن نصف نفايات البلاد عضوية، وتالياً قابلة للتّسبيخ. وإن وجدت مصانع إعادة التّدوير والتّسبيخ، فمصيرها الحالي التّهميش. شمالاً، وفي إحدى المناطق العكاريّة، مشهد يوثق التوازن الحالي بين إعادة التّدوير والطمر العشوائي، إذ يستوقفك مشهد قطيع من الأبقار يأكل محتويات أكياس النفايات العضوية منها. ويعلّق صاحب المطمر على المشهد قائلاً: “نحن نبيع المواد القابلة لإعادة التدوير. أما النفايات العضوية فتساعدنا الأبقار في التخلص منها”.

السمّ
في لبنان، وكما في باقي الأماكن من العالم، تسلط الأضواء على النفايات الظّاهرة للعيان. أي تلك القبيحة، والتي تفوح منها رائحة كريهة تنتقل بالهواء إلى المناطق المجاورة. فعلياً، يعتبر مشهد وجود النفايات على الطرقات مثيراً للقلق. إنها تؤثر على الأرض والتربة والهواء، من دون أن ننسى المواد الكيميائية التي تنتج بفعل اختلاط النفايات في المكبّات العشوائية. تأثيراتها ليست مباشرة إلا انها تظهر على المدى البعيد.
وتمثل عصارة النفايات أحد الأمثلة الواضحة عن الآثار المميتة للتخلص العشوائي. وتتكوّن العصارة بفعل تسرّب مياه الشتاء إلى المطمر، وتحلّل المواد العضوية. ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأن بقايا الأطعمة والبراز، هي مواد صديقة للبيئة وتالياً يمكن تسبيخها. لكنها في الواقع، مصادر تلوث خطيرة. ففي غياب عملية الفرز، تختلط هذه النفايات مع أنواع أخرى (مثل الورق والكرتون والبطاريات إلخ…). وينتج من تكدّس أكياس النفايات في المطامر والمكبّات، تفاعلات كيميائيّة معقّدة، ناتجة من الرطوبة.
تتسرّب العصارة إلى التربة والجداول والمائية، ويتجاوز تأثيرها المنطقة فحسب. وتعتبر التأثيرات البيئية والصحية الناتجة من العصارة سبباً رئيسياً لوجوب اعتماد مطامر صحية. في لبنان، لا يوجد سوى مطمرين صحيين، الناعمة وزحلة. والأول يعاني خللاً لأنه فاق قدرته الاستيعابية.
ولعلّ المثال الأبرز لمخاطر عصارة النفايات هي تلك المتغلغلة في مطمر الكوستابرافا- القريب من مطار رفيق الحريري الدولي. والكوستابرافا هذا، مطمر افتتح أبوابه في العام ٢٠١٥، خلفاً لمطمر الناعمة. وبما أنه غير مجهز لاحتواء العصارة، فإنها تصبّ في البحر المتوسط بعد عملية معالجة دنيا في محطة الغدير. وجذبت هذه السوائل أعداداً هائلة من الأسماك التي أتت بدورها بأسراب من طيور النّورس هددت حركة الطيران، الأمر الذي حفّز إقفال المطمر أوائل عام ٢٠١٧. ومن جهة أخرى، تتمركز المطامر العشوائية، في غالبية المناطق اللبنانيّة على مرتفعات قد تؤدي إلى تلوث المصادر المائية، وحتى الجوفية منها. وللأسف يربط العديد من اللبنانيين المناطق التي تتساقط فيها الثلوج وحيث توجود الينابيع الطبيعية بالنقاوة. لكن يبرز ضمن نطاقها خطر بقايا الرماد السام الناجم عن عملية حرق النفايات.
لا تكمن المشكلة في إدارة النفايات الصلبة وحسب بل تتعداها إلى مشكلة الصرف الصحي. وعلى الرغم من أن ثلثي الأسر (المنازل) باتت مياهها الآسنة موصولة بشبكات الصرف الصحي (مقارنة بثلثها عام ١٩٩٦)، فلا تخضع سوى نسبة ٨% من هذه المياه للمعالجة. وتسرب النسب الأكبر من المياه الآسنة إلى التربة، أو تفرغ بواسطة ما يقارب ٥٣ مصب نهر في البحر المتوسط. وقدرت كمية المياه الآسنة المفرغة في الطبيعة بـ ٤٩٤مليون متر مكعب عام  ٢٠١٥ مقابل ٢٢٧ مليون متر مكعب عام ٢٠٠٠. والأسوأ أن ما يعالج من هذه المياه يخلّف بقايا، عالية الخطورة، ترمى بدورها في الطبيعة بسبب غياب طرائق لمعالجتها. ويعرب خبير أوروبي عن سعادته بذلك قائلاً: أنا سعيد بمعالجة هذه النسبة فقط لأن آثار الصرف الصحي على الطبيعة هي أقل خطورة من ” بقاياها”.”
“المجاري المائية في لبنان: خطوط للصرف الصحي”
وتُشَبّه المجاري المائية في لبنان بخطوط الصرف الصحي إذ إنها معقل للنفايات أكانت صلبة أم آسنة. ويوجد في كل نهر جارٍ في لبنان بكتيريا قولونيّة برازيّة، أو بعبارة أخرى بقايا براز بشري. ويعاني نهر الليطاني، أكبر الأنهر الموجودة في لبنان، من هذه المخلّفات إذا يجتمع فيه نحو٤ ملايين م٣ من مياه الصرف الصناعي المسرّبة من ٢٩٤ مصنعاً إلى جانب ٦٣ مليون م٣ من مياه الصرف المنزلي و ٢٣٧٢٥٠طناً من النفايات الصلبة في السنة. زد على ذلك، فإنه يحتوي كميات مجهولة من مياه الرّي المحمّلة بأسمدة ومبيدات رخيصة غير قابلة للتحلل، لا سيما بقايا الماشية التي تخلّفها المسالخ المحليّة. ويمكنك بالعين المجرّدة رؤية العظام في مصبّ النهر جنوب الشاطئ اللبناني.
ملفّ تلوّث المياه في لبنان قد دخل في دوّامة تراجيديّة مقلقة. غالباً ما تفرغ القرى الجبلية مياهها الآسنة غير المعالجة فى برك محفورة تحت المنازل- في حين أنها تضخّ مياه الشرب من الآبار الجوفية. الحمرا- من أشهر الأحياء السّاهرة في بيروت الغربية، تعاني الحالة ذاتها. تضخ معظم المباني مياه الشرب من آبار إرتوازية حفرت إبّان الحرب الأهلية. في المقابل، تصرف مبانٍ أخرى مياهها الآسنة في الآبار عينها. وتمتزج المياه المستخدمة في العاصمة بمياه البحر المالحة التي تحتوي على المياه الجوفية الملوثة. ويشكو السكان من الأمر دون معرفة الأسباب الكامنة وراء رداءة نوعيّة المياه التي يستحمّون بها.

كل شيء على ما يرام
يجزم عدد كبير من اللبنانيين أن منطقتهم مستقلة عن مناطق أخرى. مع ذلك، فإن سوء إدارة النفايات في البلاد يعكس التعادل الأمثل بين جميع المناطق. ذلك لأن القمامة لها انعكاسات سلبية على المياه التي تتخطى كافة الحدود الجغرافية، والطائفية بما فيها الطبقات الاجتماعية. إنها ببساطة تطال الجميع، والأهم عبر الغذاء. وعلى الرغم من تكاثر الأدلة حول مشاكل الأنظمة المعتمدة في لبنان، فإن الإنكار وانعدام الشّفافية ما زالا سيدَي الموقف. وقد أجرت بعض المنتجعات الساحلية اختبارات لنوعية مياهها، فيما سقطت سهواً اختبارات المعادن الثقيلة. ويلقي الأطباء اللّوم على أزمة النفايات ويعتبرونها السبب الرئيس لانتشار الأكزيما وأنواع عديدة من الأمراض الجلدية، مشاكل الإسهال، حساسية التنفس والأمراض الرئوية. ويتذمرون من غياب قاعدة للبيانات صادرة عن وزارة الصحة، ويؤكدون أن تجاربهم الشخصية مع مرضاهم لا يُبنى عليها. وحتى الآن، لم تنشر دراسة حول نوعية المياه في جميع أنحاء البلاد، مع العلم أنه وفي العام ٢٠١٦، أجريت دراسة ممولة من اليونيسيف بالتنسيق مع وزارة الطاقة والمياه، وهي جزء من استبيان عن الوضع المعيشي للأسر. وبعد أشهر عدة من انتهائها، لم يتسنَّ لـ “كيس القمامة” أن يحصل على نسخة منها.
“الشائعات كفيلة بدق ناقوس الخطر، لكن تأثيرها لا يلقى صدىً”
الشائعات كفيلة بدق ناقوس الخطر، لكن غالباً ما لا تسمع أو لا يلقى تأثيرها صدىً. وينقل أحد رؤساء البلديات في محافظة جبل لبنان تجربته قائلاً: “أجريت تحليلات لنوعية المياه، على مدى فصول عدة، لكنني لم أستطع أن أصرح بنتائجها إلى السكان. فما فائدة نشر النتائج دون أن أحمل في جعبتي حلولاً لها”؟ وعلى نقيض ذلك، تنشر إحدى بلدات الجنوب، سنة بعد سنة، نتائج رديئة لنوعية المياه. فهي تحتوي على مستويات عالية من الإيشريشيا كولي والمُكوّرات القولونية والعقديّات البرازية. وفي عام ٢٠١٤، ونقلاً عن رئيس البلدية، أصيب نحو ١٢٠ شخصاً من أصل ٢٠٠٠ بمرض الصفيرة. أي إن واحداً من بين ٢٠ شخصاً اعتله الداء الذي ينقل بواسطة المياه الملوثة ببراز شخص مريض. ولم يرق الأمر لشابة فقالت: “المياه ليست ملوثة وإلا فلكنا توفينا”.
في العام ٢٠١٧، أجرى معهد البحوث العلمية الزراعية التابع لوزارة الزراعة اختبارات على النعنع والبقدونس وهما مكونان رئيسيان من مكونات الطبق اللبناني الشهير “التبولة”. هذه المحاصيل المروية من مياه نهري الليطاني والغزيّل جاءت ملوثة بالرصاص (بنسبة أعلى بـ ٢ إلى ١٢مرة من المعايير المسموح بها من الاتحاد الأوروبي). وقد يؤدي التعرض لهذا المعدن إلى ارتفاع ضغط الدم، الفشل الكلوي، كما إنه يؤثر على تطور الدّماغ عند الأطفال.
وبغض النظر عن الآثار القصيرة الأمد لتلوث الغذاء، فقد تنتج من المخاطر الصحية المرتبطة به عواقب اقتصادية. قد يختار اللبنانيون عدم المبالاة، فيما يتخذ المستهلكون إجراءات وقائيّة. في أيار عام ٢٠١٧، حظرت الإمارات العربيّة المتحدة استيراد التفاح اللبناني، أحد أهم الصّادرات اللبنانية، نتيجة الاستخدام المفرط للمبيدات. وعلى الرغم من عدم ارتباط القرار بأزمة النفايات إلا أنه ينذر بقيود مستقبلية ناجمة عن تلوث المزروعات في البلاد. وفي المحصلة، سيتجه لبنان إلى الاستيراد بكميات أكبر في حين ستتراجع صادراته. بعبارة أخرى، سوف يضحى لبنان مستعمراً من “كيس النفايات”.

ذرائع متوارثة
ثمّة سؤال بديهي يطرح نفسه، كيف يعقل لأحد البلدان المتوسطة الدخل كلبنان أن يذهب بسمعته حيال إدارة النّفايات إلى هذا الحد من الرّيبة؟ وكما أشرنا في السابق، هناك من يلقي اللّوم على اللاجئين السوريين في ملف إدارة النفايات، فيما آخرون يلقون اللّوم على الحرب الأهلية وغيرهم قد يتذرّع بشبح الفساد الغامض المنتشر. هذه الأسباب مجتمعةً لا تقدّم شرحاً وافياً للقضية المطروحة.
وللبحث عن جذور الأزمة، يجب العودة إلى الفترة ما بين ١٩٧٥- ١٩٩٠، فترة الحرب الأهلية والتي أدّت إلى دمار البنى التحتية. ولكن، ليس ثمة أي صلة واضحة بين هذا الصراع والحالة الرّديئة للخدمات. ويجب تسليط الضوء على الكمّ الهائل من الأموال المستثمرة طوال فترة ما بعد الحرب. ويقدر مجلس الإنماء والأعمار الأموال المنفقة على تحسين إدارة النفايات الصلبة في الفترة الممتدة ما بين ١٩٩٢و ٢٠١٥، بـ ٦٧٥ مليون دولار. أما النتائج فلم تكن قدر التّوقعات.
وقد أثيرت تساؤلات عن إمكان إهدار وفساد، ولكن من غير إثبات فعليّ على علاقتهما بالأزمة الحالية. وتعرّض العقد الذي أبرم بين الحكومة وشركة خاصة- سوكلين- لإدارة النفايات الصلبة في بيروت وجبل لبنان في الفترة الممتدة بين العام  ١٩٩٤ ومنتصف عام ٢٠١٧ إلى سيل من الإنتقادات. العقد كان رائعاً** على الورق، لكن اعترته شوائب وطرحت حوله علامات استفهام عديدة، لا سيما تلك المتعلقة بالتّقارب ما بين شركة سوكلين والأطراف السّياسيين. زد على ذلك المناقصات غير القابلة للمنافسة بحيث لم تطبق باستمرار المعايير المتعلقة بالفرز، التّسبيخ وإعادة التّدوير. والنقطة الأهم التي سلّط عليها الضوء هي التكلفة المرتفعة لإدارة النفايات، إذ لامست حدود الـ ١٣٠ دولاراً أميركياً للطن الواحد. وتعتبر هذه التسعيرة الأعلى في  الشرق الأوسط، ونوقشت أوجه التّقصير من ديوان المحاسبة وسوكلين نفسها التي تقول إنها كانت قد أرسلت ما لا يقل عن ٣٢٣ رسالة شكوى إلى الحكومات المتعاقبة. والمفارقة أنه لم يؤخذ بهذه الانتقادات إلا في العام ٢٠١٥ مع إنتهاء فعالية الإتفاق ونهاية عقدين عنوانهما
الفوضى الشفافة نسبياً.
وتتّخذ المضاربات العقارية منحىً ملموساً من مناحي استغلال النفايات لنواحٍ اقتصادية. وقد شيّدت مكبات عشوائية على طول الساحل اللبناني خلافاً لتشريعات العام ١٩٧٤. ولعل مكبّ النّورماندي الذي افتتح إبّان الحرب الأهلية في وسط بيروت وأقفل في العام ١٩٩٤خير شاهد على ذلك. في بداية العام ٢٠٠٠، تمت معالجة ٥ ملايين م٣ من نفاياته وأعيد تدوير ما يقارب الـ ٢٠% منها فقط قبل تحديث المنطقة لتتحول إلى حمامات للسباحة، مطاعم فاخرة، نادٍ لليخوت باسم: “الزيتونة باي”.
ويبدو أن خطط الخصخصة قد وصلت إلى العاصمة الشّمالية طرابلس أيضاً بحيث من الممكن أن تبصر “المارينا” ومجمع سكني النور مكان المكب الساحلي والشاطئ العام. ومن المتوقع أيضاً أن تتبع منطقة برج حمود الخطة عينها. ففي منتصف عام ٢٠١٧ تم رمي ما يقارب ٦ ملايين م٣ من النّفايات في البحر لكن من دون إمعان النظر في مخاطرها المحتملة على البيئة كما بدا واضحاً إبّان استحداث مكبّ النورماندي. وتسلط هذه الخطط*** الضوء على الاستغلال المتمادي بغية تحقيق الأرباح، وهي ممارسات تظهر جليةً في الاقتصاد اللبناني. إلا أن هذا الأمر لا يقدم أي رؤية حقيقية بشأن ملف إدارة النفايات الصلبة في لبنان ككل.

بيروت في عنق الزجاجة
إن جذور أزمة اليوم هي أعمق من كل التّفسيرات التي أتينا على ذكرها سابقاً. فهي تلامس حدود بعض الآفات الأكثر ترسخاً واضطراباً الذي يعانيها النّظام القائم على الجمود حتى في مواجهة الأمور الطارئة، أي الكوارث الجليّة. وتشكل خطط المياه والنفايات في لبنان مثالاً على ميل بيروت إلى رؤى مكلفة منفّذة عشوائياً أم مجمّدة. إنّها مثال للإهدار وضعف المتابعة. وعلى سبيل المثال فإن محطات معالجة المياه الآسنة البالغ عددها ١١المذكورة أعلاه كانت جزءاً من “المخطط الرّئيسي لمياه الصّرف الصّحي” الذي وضعته وزارة الطاقة والمياه عام ١٩٩٤والرّامي إلى بناء ٥٤ محطّة مماثلة.
في العام ٢٠٠٦ وضع مجلس الإنماء والإعمار خطة لإدارة النفايات الصلبة لمدّة عشر سنوات. الخطة تقتضي بإنشاء ٦ مطامر صحية للنفايات و ١٤مركز تسبيخ وإعادة تدوير. لم تموّل الخطة، لكنها حُدّثت في العام  ٢٠١٠وأضيف لها مخطط “تحويل النفايات إلى طاقة” الذي يقضي بتحويل نفايات المدن الكبرى إلى وقود. أما في  العام ٢٠١٢، وضع مجلس الإنماء والإعمار خطة رئيسية، بالتّعاون مع وزارة البيئة، لإجراء مسح شامل للمكبّات العشوائيّة في البلاد بغية إعادة تأهيلها. وأكد مسؤول في وزارة التنمية الإدارية “أن هذا المشروع لم يبصر النور بسبب نقص التمويل”.
الفشل في المتابعة هو إلى حد كبير نتيجة لسياسة البلد المجتزأة، حيث تؤدي إتفاقيات تقاسم السّلطة إلى نزاعات داخليّة وتعديلات في تقاسم الحقائب الوزارية. ومنذ العام ١٩٩٣، بلغ متوسط مدة تسلم الوزير لحقيبة وزارية ١٩شهراً. ويقول أحد المسؤولين في المجلس الأعلى للخصخصة: “دعونا نتصوّر أن الوزير يتمتع بقدر عالٍ من الصّدقية والنّوايا الحسنة. سوف يطلب ستّة أشهر ليدرس الملف. وعندما يصبح قادراً على تقديم اقتراحاته، تستقيل الحكومة وترانا ننتظر ٩ أشهر أخرى للإتّفاق وتشكيل حكومة جديدة. وبذلك تبقى معظم المشاريع مجمّدة في الأدراج”.
غالباً ما يكون التّقدم موقتاً، مجتزأ، وقصير الأجل. إنه نابع من تمويل أجنبي، من أزمة كبرى أم من الاثنين معاً. ففي السنوات القليلة الماضية، دفعت الجهتان بمجموعة مشاريع عشوائيّة لا تضيف شيئاً على السّياسات البيئيّة العامة. ولوحظ أن الجهات الأجنبية قد اختارت الابتعاد عن محافظتي بيروت وجبل لبنان وتسليط الضوء على المناطق الأخرى. وكانت النتيجة عدداً مهماً من المشاريع لكنها أتت مشتتة.
واستند برنامج الأمم المتحدة، ما بين عامي ١٩٩٦و١٩٩٨، إلى حملات التّوعية وبناء معامل فرز النفايات. في الوقت عينه، مول البنك الدولي عملية تشييد مطمر زحلة الذي أصبح نموذجاً بحدّ ذاته. وبرز دور الاتحاد الأوروبي في العام ٢٠٠٣ الذي استثمر المال والخبرة في الإصلاحات الإدارية وتحسين قدرة البلديات. في حين ركزت وكالة التنمية الأميركية جهودها على عمليات التّسبيخ. من ثمّ، تحوّلت الأنظار إلى التلوث الناجم عن صناعة زيت الزيتون. وما لبث أن حط العدوان الإسرائيلي رحاله في تموز ٢٠٠٦، ليحفز الدّمار الذي أحرزه نوعاً جديداً من المشاريع، ناهيك بعدّة ملايين أورو استفادت منها البلديات لتحسين إدارة النفايات الصلبة.
” التقدم المحرز موقت، مجتزأ وقصير الأجل”
التغيير الذي تحدثه تلك التدابير، رغم أهميّته، ليس كافياً وأساسيّاً. وكما هو الحال اليوم، فإن الجهات المانحة الأجنبية غير قادرة على تغيير الديناميات الأساسية لمأزق النفايات في لبنان. أي، الأزمة الدورية التي يتم التصدي لها باستحداث خطط الطوارئ الفاشلة. وقد نسي اللبنانيون أو تناسوا أن أزمة ٢٠١٥هي الثانية بعد تلك التي حصلت عام ١٩٩٧عندما اضطرت الحكومة حينها إلى إغلاق مطمر برج حمود. وها هو التاريخ يعيد نفسه، إذ إن مطمر الناعمة الموقت أقفل بعد ١٨سنة ليعاد إفتتاح مطمر برج حمود، الذي يعتبر مكباً موقتاً منذ عام١٩٧٥.
وأقر الوزير أكرم شهيّب خطة الطوارئ في ١٢آذار ٢٠١٦، وهو الذي أبرم خطة عام ١٩٩٧. وكما هو الحال دائماً، فإن خطة شهيّب ليست سوى خطة قصيرة الأمد إلى حين تنفيذ الحكومة وعدها بإنجاز حل على المدى البعيد. الخطة المرتقبة عبارة عن محرقة ضخمة بسعة ٢٠٠٠طنّ في اليوم. وليس من شأن المحرقة تعميم التلوث في أرجاء بيروت وحسب، إنما إمداد المدينة بالتيار الكهربائي عبر تقنية “تحويل النفايات إلى طاقة”. وقد ولى الزمن على الموعد النهائي الذي فرضته الحكومة للتوصل إلى اتفاق بشأن تقنية المحارق منذ أيار ٢٠١٧. قصة “كيس القمامة” هي بالطبع واحدة من أهم قصص الوعود التي لم تنفذ إلى حد كبير.

الفوضى اللامركزية
تعكس أزمة النفايات في لبنان وجهاً آخر من وجوه مشاكل السلطة، ويترجم ذلك بخلل في العلاقة بين السلطات المحلية والسلطات المركزية في البلاد. على المستوى النّظري، تعتبر إدارة النفايات الصلبة قطاعاً يحتمل حلولاً على المستوى المحلي. ويشاد بقدرة البلديات واتحاداتها على تقييم القضايا على أرض الواقع والتّصدي لها بأفضل حال من السلطات الوطنية. وينصّ قانون البلديات على أن مسؤولية إدارة النفايات الصلبة هي من شأن البلديات.
تشوب النظام اللبناني سمات غير كفوءة. وقد خلقت الأخيرة سلسلة من التحديات التي تنقل واقع البنية الإدارية بصورة عامة. الخاصية الأكثر وضوحاً لناحية ملف إدارة النفايات الصلبة في البلاد هي انفصال محافظتي بيروت وجبل لبنان عن باقي المناطق. وقد ترأست الحكومات المتعاقبة منذ فترة طويلة عملية إدارة النفايات الصلبة في بيروت وجبل لبنان، وتوقيع عقد منقوص بين كل من مجلس الإنماء والإعمار وسوكلين. يشوب هذا العقد خللاً في التنفيذ ناهيك بغياب قدرته التنافسية.
وفي حين أن البلديات قادرة على تحرير نفسها من هذه العلاقة المختلة، فإن غياب التمويل المحلي يجعل الاحتمال الأول محفوفاً بالمخاطر. ويؤكّد رئيس البرنامج البيئي في منظمة غير حكومية لبنانية “إنه ومن النّاحية القانونية يستطيع رئيس البلدية اتخاذ قرار التّحرر من سوكلين عبر إرسال رسالة رسمية إلى مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الداخلية والبلديات. ولكن تتقاضى سوكلين جميع مستحقاتها من الدولة وتفتقد البلديات لميزانيات يمكن الاعتماد عليها،  لذلك فإنها تخشى أن تعوم القرى بالنفايات إذا ما إتخذت قراراً كهذا “.
“تشوب النظام اللبناني سمات عدم الكفاءة حيال أزمة النفايات”
تقع مسؤولية إدارة النفايات الصلبة خارج محافظتي بيروت وجبل لبنان على عاتق البلديات التي عجزت عن أداء واجبها على أكمل وجه لقلة الكفاءة وغياب الإمكانيات حسبما يشير المسؤول في المنظمة غير الحكومية المذكور أعلاه.
وتحصل البلديات على مبالغ لا بأس بها من الإيرادات الخاصة، وهي ضرائب محلية ورسوم إضافية  تجمعها الحكومة لمصلحتها ولاتحاداتها – كما هو الحال مثلاً لعائدات الهاتف الخلوي. ويشير مرسوم صادر عام ٢٠١٦عن وزارة الداخلية والبلديات، والذي يحدد عائدات الصندوق البلدي المستقل لعام ٢٠١٥، إلى إنه تم توزيع  ٤٤٠ مليار ليرة لبنانية أو ما يعادل ٣٠٠ مليون دولار. وغالباً ما تكون هذه العائدات غير كافية لدعم الخدمات والاستثمارات الجديدة، وتوزّع بنحو غير متسق. وتجمع السلطة المركزية العادات ضمن حساب مصرفي يعرف باسم “الصندوق البلدي المستقل” وفقاً لصيغة معقدة محتملة التأجيل. مثلاً تظهر التسجيلات الرسمية أن أموال الصندوق البلدي المستقل لعام ٢٠٠٦ لم توزع للبلديات إلى حين شهر تشرين الأوّل من العام ٢٠٠٨ .
ويستعرض أحد رؤساء البلديات في الجنوب مثالاً توضيحيّاً موجزاً للمشكلة، فيقول: “نحن ندفع رواتب ٣عمال، إضافة إلى مستحقات الشركة التي تعاقدنا معها لإدارة النفايات الصلبة في نطاق البلدة وهذا يقدر بـ ٧٢ مليون ليرة لبنانيّة أو ما يوازي ٤٧٦٨٧ دولاراً في السنة. وبما أننا لا نحصل سوى على ١٢٠ مليون ليرة لبنانيّة من عائدات الصّندوق البلدي المستقل، فإن إدارة النفايات الصلبة تقضي على جزء كبير من العائدات ولا يبقى سوى القليل القليل لباقي الوظائف الأساسية في نطاق البلدية”. وليس بالأمر الغريب والنادر التوجه إلى الاستدانة في لبنان، ففي العام ٢٠١٧ استدانت بلدية من بلديات عكار مبلغاً قدره ٦٦ ألف دولار أميركي من رئيسها لسدّ فجوى التّمويل. وقال رئيس بلدية أخرى في عكار: ” نحن ندفع مستحقّات لسوكلين علماً أننا لم نرها البتّة”. لا يوجد تفسيرات  لممارسات كهذه في قرى بعيدة كل البعد عن محافظتي بيروت وجبل لبنان- نطاق عقد عمل شركة سوكلين. لكنها تعكس انتشاراً واسع النطاق للالتباس الحاصل في ما يخص تقاسم الأعمال والمسؤوليات. وعلى ما يبدو، فإن الصّندوق البلدي المستقل، وفي غالبية الأحيان، يمتصّ أموال البلديات دون إعادة توزيعها عليها أو  حتى تقديم أي خدمة تذكر.
في حين، يرى أصحاب المصالح في لبنان أن تواتر الفجوات حيال أموال الصّندوق البلدي المستقل يعود إلى غياب الكفاءة على مستوى البلديات. وفي الواقع، البلديات مرهونة بأشخاص موالين لأقطاب سياسيين، ويفتقد هؤلاء إلى الخبرة اللازمة لإدارة مسائل تقنية كملف النفايات. وفي هذا السياق، قامت جمعيات مثل “آركنسيال” وجمعية “نحن” بمجموعة من البرامج المموّلة من جهات أجنبية، وهي عبارة عن دورات تدريبيّة واستشارات مجانيّة. بيد أن العائق المتكرر هو عدم رغبة صانعي القرار المحليين في إحداث أي تغيير. وينقل مدير البرنامج البيئي في إحدى الجمعيات الأهلية لتجربتهم قائلاً: ” لقد قدمنا مشروعاً مهماً لإدارة النفايات الصلبة لرئيس إحدى أضخم البلديات في جبل لبنان. وكان بدوره مهتمّاً بالمشروع إلا إنه رفض تبنيه في نطاق البلديّة لأنه بكل بساطة غير مستعد لتحمل المسؤولية”.
” يفتخر لبنان بقصص نجاحات بلديات استطاعت
أن تضع نظماً مستدامة وفعالة لإدارة نفاياتها الصلبة رغم عقبات عدّة ”
يرتبط غياب التّحفيز في المجالس البلدية بطبيعة السّياسة المحلية فالتّصويت في الإنتخابات البلدية يتمّ على أساس محل القيد، وتُجمع الأصوات في غالبية الأحيان من أشخاص لم يسبق لهم أن أقاموا في القرية عينها ممّا يقلل من فرصة المساءلة والمحاسبة استناداً إلى تجارب السكان الذين يرون مشاهدات غير مستحبّة، يشتمّون روائح كريهة ويعانون من المخاطر الصحية للمياه الآسنة وحرق المطامر.
تشكل التشريعات والقوانين التي تفرضها الحكومة عامل ردع يتطلّب حلاً ومجهوداً من القادة المحليين الذين يطمحون إلى التّغيير. ويشير أحد رؤساء بلديّات الجنوب، الذي نجح حقاً في بناء مرفق مستقل لإعادة التّدوير في قريته، إلى أنه اضطر إلى الحصول على موافقة أربع وزارات لبناءه. وهي عمليّة استغرقت شهوراً من العمل المتواصل. ونجاح مشاريع كهذه، في أي منطقة من المناطق اللبنانية، مرهون بمدى قوة العلاقات مع الطبقة السياسية الحاكمة.
يفتخر لبنان بقصص نجاحات بلديات استطاعت أن تضع نظماً مستدامة وفعّالة لإدارة نفاياتها الصلبة رغم عقبات عدّة. وتعد هذه الانتصارات نادرة نسبياً ولا يمكن استنساخها، إذ إنها مشروطة بالثّروات المحلية ونفوذ الشخصيات السياسيّة. ويوضح مسؤول في البرلمان اللبناني “أنه من الصعب تطبيق مبدأ اللامركزية”. وقد أوجد النائب سامي الجميل في قريته  بكفيا- شمال مدينة بيروت- برنامج ” بي- كلين”، وهو عبارة عن معمل فرز للنفايات بسعة ٢٠ طناً في اليوم. ويجدر الإشارة إلى أن تكلفة معالجة الطن الواحد في هذا المرفق هي  ٦٦.٥٠ دولاراً، أي أقل من ثلث ما كانت تدفعه البلدية لشركة سوكلين. أما مشاريع “صفر نفايات”، فقد حطت رحالها في بيت مري وعينطورة، وترتكز على فرز أوّلي من المصدر وثانٍ في معامل الفرز، التّسبيخ، بيع المواد التي يمكن إعادة تدويرها، وأخيراً كبس المرفوضات على شكل ألواح “إيكوبورد”.

ليس في عقر داري
تبدو الدولة اللبنانية عاجزة عن تحمل أبسط مسؤولياتها، ومنها أزمة النفايات، في ظل طبقة سياسيّة تحوم حولها شبهات الفساد والمحاصصة. لكن لا يكفي اللّوم وتوجيه أصابع الإتهام إلى مسؤولين بل تترتب على المواطن واجبات لناحية التّخلص من نفاياته بطريقة علميّة والإكتراث لحجم المشكلة. وكشف صحافي من مدينة طرابلس الشمالية، عن انخراط الجميع في مأزق القمامة في المنطقة موضحاً أن “الكل معني في المشكلة. البلدية غير فعّالة، تفتقد الشركة التي تم التّعاقد معها إلى المعدات، يرمي المواطنون نفاياتهم في الشّوارع. هذا لا يجدي نفعاً”. ويقابل المواطنون أزمة النفايات بعدم المبالاة المطلقة. فبمجرد التّطرق إلى الموضوع يفعلون كل ما بوسعهم لتغيير منحى الحديث بجملة استباقية “يعطيك العافية”. وليس من المستبعد أن تجتاح نفحة من النفايات السائلة صالة خارجية لمطعم فاخر في أكثر المناطق رقياً من البلاد من دون أن تقابل بردة فعل تذكر.
في نهاية المطاف، لا تستحوذ أزمة النفايات على ردود فعل ذات مغزى إلا في ظرفين اثنين. الأول عندما تتراكم القمامة أمام أبواب اللبنانيين، كما كان الحال سائداً عشية إقفال مطمر الناعمة. الثاني، هو ظرف طائفي محزن. قد يتسامح اللبنانيون مع نفاياتهم بطريقة مذهلة، إلا إنهم ينفجرون احتجاجاً إذا ما سمعوا عن احتمال تلقي قمامة منطقة أخرى. وتذكر هذه العقيدة  بحادثة ١٩٩٧عندما أضرمت النيران في محرقة العمروسية مع ما رافقها من ملابسات غاضمة. وعلى الأرجح كان الخوف سائداً لاحتمال نقل نفايات بيروت الشرقية إلى بيروت الغربية. وفي عام ٢٠١٥، طرحت فكرة نقل نفايات بيروت وجبل لبنان إلى مطمر قرية سرار العكارية. عندها احتج السكان، حملوا الأسلحة، طوقوا المكان واحتجوا على تلوّث المياه في المنطقة. والأمر الغريب هو أنه لم تلحظ أي وقفة احتجاجية ضد المطمر مذ اعتماده منذ العام١٩٩٦.
“يقابل المواطنون الأزمة باللامبالاة المطلقة”
“ليس في عقر داري”، عقلية استند إليها السّياسيون كحجّة ممتازة استجابة لأزمة سوكلين. في تموز٢٠١٥، اقترح وزير البيئة محمد المشنوق خطة تصدير النفايات إلى تركيا. وبحلول كانون الثّاني ٢٠١٦، تحدّث البعض عن إمكانية تصديرها إلى روسيا. وبرزت خطة ترمي إلى إنشاء مطمر في منطقة قاحلة على طول الحدود اللبنانية- السورية. ويبدو أن أياً من هذه الأفكار الخياليّة قد أخذت بعين الاعتبار التّكاليف الباهظة لنقل هذا الكم من النفايات غير المعالجة إلى مناطق بعيدة. وتعكس هذه الأمور رغبة شعبية في رؤية النفايات تختفي في الأفق. سوكلين، لم تنسحب من القضية لكونها حققت إرادة اللبنانيين: القمامة بعيدة من الأنظار. ولا تختلف عملية طمر النفايات في البحر التي بدأت منتصف عام ٢٠١٧ بكثير عما تحدثنا عنه في السابق. وطالما أن النفايات بعيدة من أنظار المواطنين، فإن أحداً منهم لايحرك ساكناً.

الفرز من المصدر
يشهد “كيس القمامة” على وجود حلول علمية للأزمة، وهي في متناول الجميع. ومن الضروري الاعتراف بأن التطور، إن حصل على مدى طويل، يتطلب خطوات جدية من الحكومة. ولا يمكن لأي حلول أن تطبق إلا بمشاركة أوسع شريحة من المواطنين مما هي عليه الآن.
ونقطة البداية، هي عملية الفرز من المصدر. وهذا يعني قيام الأسر بوضع كل من المواد العضوية، المواد التي يمكن إعادة تدويرها وغيرها كلّ على حدة. تساعد عملية الفرز من المصدر، ضمن الأنظمة الفعالة، على التخفيف من المتطلبات الماليّة واللوجيستية لإدارة النفايات. ويساعد ذلك على تعظيم قيمة النفايات (مثلاً إعادة التّدوير أو التّسبيخ). والأهم من كل ما سبق، التخفيف من حدة الآثار الجانبيّة السّامة للتّخلص العشوائي من النفايات. ويطبق هذا المفهوم  بنسبة ضئيلة في لبنان. وتقع أي خطوة من خطوات الفرز من المصدر على عاتق السلطات، التي أثبتت بدورها أنها غير مهتمة أو مستعدة لتحمل مسؤولية كهذه. وعلى الرغم من إمكانية مسائلة اللبنانيين حكومتهم لا بل حتميتها، فإن أي حل مستدام سيتوقف عند زيادة الوعي والمشاركة بين المواطنين أنفسهم.
المحارق خير مثال على ضرورية عملية الفرز من المصدر. يتصوّر البعض أن آلية حرق النفايات آلية غير باهظة، وفعالة في التخلص من جميع أنواعها. لكن الأمر ليس في غاية السهولة، بل هي معقدة فعلاً. أولاً، وللأسف، لا يمكن حرق جميع أنواع النفايات، لا سيّما المعادن والزجاج والمرفوضات الأخرى. ثانياً، تتوافر المياه بنسب مرتفعة في النفايات، وهذا يعود إلى ارتفاع نسبة النفايات العضوية. تتسبب الرطوبة في انخفاض في درجة حرارة الفرن وبالتالي ترتفع معدلات العوادم/الرماد والانبعاثات السامة. ثالثاً، ينتج من حرق أنواع خاطئة من النفايات كميات مفرطة من الرّماد والسوائل السامة التي يصعب معالجتها وترتفع كلفة تصديرها. وفي حين أن المسألة لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعملية الفرز من المصدر، فإن تقنية المحارق غير فعالة لناحية إدارة النفايات الصلبة. ترتفع تكاليف تقنية حرق النفايات بأكثر من أربع مرات من الحلول البديلة، إضافة إلى إنها تقضي على المواد التي  يمكن تسبيخها وإعادة تدويرها وتالياً تقتضي موارد مالية أكبر. ويشرح مؤسّس جمعية بيئية محليّة عن قيمة حرارية للجينز والأنسجة إضافة إلى الحفاضات بالقول “لا تجدي عملية  حرق النفايات العضويّة نفعاً، وتالياً فمن الضروري تسبيخها”. باختصار، للمحارق عيوب في أفضل الأوقات، لكنها ترتفع بارتفاع كميات النفايات.
الفرز من المصدر عملية حاسمة لنجاح تقنية التّسبيخ، أما تحويل النفايات العضويّة إلى أسمدة صالحة للاستخدام فهي عملية تقنيّة معقدة. ونجاح تقنية التّسبيخ مرهونة بنوعيّة وكميّة وطريقة مزج المكونات، درجة الحرارة، التّقليب المتكرر والوقت- عادة ما يستغرق أسابيع. وتفتقر إدارة النفايات الصلبة في لبنان إلى مبادئ توجيهية لتوحيد تقنية التسبيخ ناهيك بإنتاج سماد دون المستوى المطلوب، إذ إن تقنية التسبيخ قد تقتل النباتات. وفي معمل لتسبيخ النفايات في الجنوب شاركنا أحد العمال وصفة السّماد التي من الممكن أن تصيب أحواض زهورك بالمرض، “الوصفة عبارة عن فاكهة، خضار، ورق، كرتون وحفاضات. وتخضع المكونات جميعها لعملية دوران في برميل لمدة ٣ أو ٤ أيام فقط”. عام ٢٠١٧، تحولت سوبرماركت “سبينيس” الشهيرة إلى بيع السماد العضوي الفرنسي، ويعتبر هذا التحول انعكاساً قاسياً لمشكلة السّباخ اللبناني. وأضحى لبنان يستورد القمامة علماً إنه فشل في التّخلص من نفاياته الخاصة. وتؤكد أشكال مختلفة من إعادة التّدوير على الحاجة إلى الفرز المنهجي. في الواقع، تصبح القيمة المستخرجة من النفايات أقل جدوى من الناحية الإقتصادية كلما دعت الحاجة إلى مزيد من الموارد لتوجيه إعادة إستخدامها. في غياب عملية الفرز من المصدر، يتطلب نقل النفايات إلى مراكز ثم فرزها. الأمر يرفع من تكلفة إدارة النفايات، عملاً بأن أطناناً منها ستنقل دون حاجة إلى ذلك، وتلقائيّاً زيادة عدد العمال في الموقع.
وعلاوة على ذلك، تتلوّث كميات كبيرة من المواد القابلة لإعادة التّدوير جراء النفايات العضويّة. وقال موظف في إحدى البلديات في الجنوب: “إننا كنا ننفق ٦ملايين ليرة لبنانية أو ما يعادل ٤٠٠٠ دولار أميركي شهرياً لتشغيل معمل فرز وتسبيخ النفايات. أما اليوم فنرمي النفايات في مكب بنصف تلك القيمة. هذا الحل هو أكثر إستدامة”. واللافت  إلى أن العديد من مراكز فرز وتسبيخ النفايات التي شيّدت بمساعدات خارجية على مستوى البلاد، قد أقفلت أبوابها. (في العام ٢٠١٦، أضرمت النّيران في مركزي فرز النفايات الشوف وبعلبك. ويرجح أن يكون الفاعل أشخاصاً وجدوا فيها منافسة غير عادلة، وفقاً للممثل عن وزارة التنمية الإدارية).
وأخيراً تؤكد النشاطات المتعلقة بالمنحى الاقتصادي لقطاع النفايات فكرة خاطئة مفادها أنه قطاع من ذهب. وقد ساهم مفهوم “تحويل النفايات إلى طاقة” إلى جانب مضاعفة شركات ومبادرات إعادة التّدوير النّاجحة، في نشر هذه الأفكار. إن “كيس القمامة” يأسف لخيبة الأمل هذه. لكنه يطرح استثناءات قليلة، إذ إن الأرباح مرتبطة بمدى استعداد السّكان والبلديّات لدفع مبالغ للتّخلص من نفاياتها. وبالنادر ما تغطي القيمة الجوهرية لهذه الأخيرة تكاليف المعالجة.
إنّ تحويل النفايات إلى شيء قابل للاستخدام ليس بالأمر الهنيّ. وتعتبر الأجسام المعدنية إستثنائية إذ إنها غير ضارة بالبيئة ويمكن إعادة تدويرها وصهرها إلى أجل غير مسمّى، وبالتّالي تدر علينا الأموال بمجرد إعادة بيعها. وتنطبق الحكاية نفسها على الزّجاج، على الرغم من أنه يعقد عملية إعادة التّدوير ملوناً. أما إعادة تدوير البلاستيك فتقنيّة غير مجدية أو غير مستدامة إقتصادياً. ومثال على ذلك قنينة المياه المعدنية، فلا يوجد قيمة إلا لأغطيتها. تضمحل نوعية الورق بسرعة بفعل إعادة التّدوير. ويجدر الإشارة إلى أن ليس من قيمة محددة شاملة لأسعار المواد المعاد تدويرها. فهي تخضع لعوامل عدّة منها الطلب المحلي، المرافق الموجودة والتسعيرات الدولية. إلا أن سعر الكيلوغرام الواحد منها قد لا يتعدى الدولار الواحد في أفضل الحالات. وفي هذا السياق، رفض أحد رؤساء بلديات جبل لبنان مشروع مركز إعادة التّدوير بعد سماعه أن البلدية ستكون ملزمة بدفع رسوم للمعمل وليس العكس.
مشكلة النفايات في لبنان مشكلة متعددة الجوانب، وكل واحدة منها أكثر تعقيداً من الأخرى. وسيتطلب تحسين إدارة المياه الآسنة مثلاً استثمارات كبيرة في الهياكل الأساسية إلى جانب إصلاحات متعددة على مستوى المؤسسات. في لبنان، يتطلب التقدم بعضاً من الوقت- إن حصل. وينطبق الأمر عينه على الإصلاحات الهيكلية المطلوبة لناحية تفعيل الحلول الجذرية لإدارة النفايات الصلبة. ففي حين ناقش المجتمع المدني والسياسيون في لبنان الحاجة إلى نوع من اللامكزية الإدارية منذ زمن طويل، لا أمل في أن تلوح قريباً في الأفق. ولذلك، فإن أفضل فرصة لإحراز التّقدم هي اتباع نهج أكثر جدية على الصّعيد الوطني إن لناحية الفرز أو إعادة التّدوير. وهذا الأمر يعزز عبر تدفق أموال المانحين لناحية تحسين إدارة النفايات الصلبة بواسطة المبادرات التي يقوم بها المجتمع المدني، وكلتاهما تسعى لإحداث فرق على الهوامش.
يحتاج لبنان إضافة إلى كل ما سبق: حلول طويلة الأمد وتدابير عاجلة لحل أزمة القمامة. وإذا استمر البلد في الإخفاق لناحية هذا الملف، فإن الوضع سيزداد سوءاً وقد يصل إلى حد الانفجار، سواء بالمعنى المجازي أو الحرفي. ويصرّح مسؤول في الاتحاد الأوروبي بأن مطمر الناعمة كان على وشك الإنفجار في السنوات الأخيرة نتيجة عدم استخراج غاز الميتان المتجمع تحت طبقات من القمامة المتعفنة”. وبرأيه، فإن التدخل الأوروبي قد ساهم في إنقاذ الوضع.
ويشير أحد أعضاء بلدية المينا الساحلية المتاخمة لطرابلس الشمالية، التي تستقبل مكباً محاذياً للبحر المتوسط والمشار إليه بـ “جبل النفايات”، إلى أن “إرتفاعه قد لامس الـ ٣٦ متراً في حين أن جدار الدعم ٢٠ متراً فقط. وهذا يعني إمكانية انهياره بسهولة. عندها ستعوم النفايات في البحر”. من ناحية أخرى، توقفت الآلات المستخرجة للغاز عن عملها منذ عام ٢٠١٣. وهذا يعني أن انفجاراً قد يحدث في أية لحظة. نحن في وسط المدينة، وستكون العواقب كارثية”.
إن غالبية الحلول المقترحة كارثية بحدّ ذاتها، ومن الواضح أن السياسيين في بيروت يعلقون آمالاً في حل أزمة النفايات في المدينة عبر تشييد محرقة كبيرة، رغم التحذيرات التي قدمها الخبراء لكون المشروع يخلق مشاكل أكثر فظاعةً. ويعتقد خبير أوروبي بأن الناس غير مدركين لخبايا هذه التكنولوجيا، ويقول إنها “منشأة غير مستقرة”، مضيفاً “إنها تتطلب إجراءات حماية وصيانة متطورة تماماً كالمحطات النووية الموجودة في الخارج. يمكن استيراد محرقة للنفايات من الدانمارك، لكن لبنان ليس الدانمارك”. وتشير دراسة أعدتها الجامعة الأميركية في بيروت إنه ولضيق المساحة قد تشيد هذه المحرقة في منطقة قريبة من البحر، بعبارة أخرى في قلب العاصمة.
“لا يحتاج لبنان لمزيد من المكبات، المطامر أو حتى المحارق
التي ستأخذ به في نهاية المطاف إلى المسار المدمر ذاته”
“لا يحتاج لبنان لمزيد من المكبات، المطامر أو حتى المحارق . فإنها ستحمله في نهاية المطاف إلى المسار المدمر ذاته”. ويحتاج لبنان قبل كل شيء، إلى تقليص حجم النفايات، وسيتطلب ذلك حقاً تحولاً كبيراً على مستوى الدولة. وعلى الجهات المانحة أن تعمل على حلّ المشكلة من جذورها، مجدداً عبر الإصلاحات الإدارية الضرورية لنظام فعال.
للبنانيين دور أساسي في إحداث التّغيير. فالأغلبية السّاحقة منهم شجعت الحكومات المتعاقبة ولا تزال على السّير في اتجاه خاطئ، عبر إيجاد فرص للتغلب على المشكلة ولو على حساب البيئة. وبغياب الوعي على المستوى الشعبي، وإن أتى تدريجياً، لن تتغير الأمور على الإطلاق. لا يمكنك فقط إبعاد كيس القمامة أم طمره، عليك الاعتراف به والعمل معه، خشية من أن يتمرد عليك ويخطّ نصّ وصيتك!
رنين عوّاد باحثة مع سينابس
مع جزيل الشكر للسيدة أمل غندور، التي بادرت بالمشروع فكرةً وتمويلاً.
الصّور: سينابس ©
*على الصعيد الوطني، أشارت دراسة أجرتها كل من وزارة البيئة والوكالة الألمانية للتّنمية إلى إنه من المتوقع أن يرتفع المتوسط اليومي لإنتاج النفايات من ٤٣٠٠ طن عام ٢٠٠٩إلى ٦٥٠٠ طن بحلول عام ٢٠٣٥، على أساس زيادة سنوية بنسبة ١.65%. وتشير المناقصة العامة التي قدمت عام ٢٠١٥ إلى أن كمية النفايات المنتجة في البلاد قد بلغت هذه العتبة، ليصل بذلك الرقم إلى  ٦٤٥٥ طناً. في حين ارتفعت كمية النفايات التي تنتجها المستشفيات، مع ما ترافقها من تحديات بيئية وصحية، من ٥٤ طناً عام ١٩٩٨إلى نحو ٧٠ طناً عام ٢٠١٠.
** عقد سوكلين: كان العقد الذي جرى توقيعه بين كل من مجلس الإنماء والإعمار وسوكلين عام ١٩٩٤مناسباً بحيث يتم جمع ١٧٠٠طن من النفايات يومياً من مساحة ٢٠٤٣كم٢. وينصّ العقد على  فرز النفايات بشكل صحيح في الكرنتينا (بسعة ١١٠٠طن)  والعمروسيّة (بسعة ٦٠٠طن). والهدف إنتاج ٣٠٠ طن من السّماد، تخزين المواد القابلة لإعادة التّدوير في برج حمود، طمر المواد غير القابلة للتحلل البيولوجي في بصاليم، وطمر النفايات العضوية في الناعمة. وبحلول عام ٢٠١٠، كان مطمر الناعمة يستقبل ٢٣٠٠طن من النفايات في اليوم.
***في صيدا، حولت وزارة البيئة بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي المكب العشوائي إلى حديقة عامة. المنطقة هذه المحاذية للبحر المتوسط، كانت عبارة عن جبل نفايات خطر يحوي ٥.١ مليون م٣ من النفايات.
لقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
http://www.synaps.network/diaries-of-a-garbage-bag[video_player link=””][/video_player]

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!