fbpx

الصراع على الزعامة المارونيّة في لبنان (1/ 3)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في 1960، السنة الأولى للعهد الشهابيّ، بدا أنّ الرئيس السابق كميل شمعون، الذي قامت في وجهه “ثورة 1958″، سيكون الرأس المطلوب: إنّه الأُضحية التي سيقدّمها فؤاد شهاب لكي يستقرّ عهده. الآخرون أتيح لهم أن يوجدوا، على نحو أو آخر، في صحن الزعامة، وإن بترتيب متفاوت و”مدروس”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 1960، السنة الأولى للعهد الشهابيّ، بدا أنّ الرئيس السابق كميل شمعون، الذي قامت في وجهه “ثورة 1958″، سيكون الرأس المطلوب: إنّه الأُضحية التي سيقدّمها فؤاد شهاب لكي يستقرّ عهده. الآخرون أتيح لهم أن يوجدوا، على نحو أو آخر، في صحن الزعامة، وإن بترتيب متفاوت و”مدروس”.

فالحكومة الرباعيّة، التي شُكّلت بعد “الثورة المضادّة” الكتائبيّة، رسمتْ ريمون إدّه وبيار الجميّل بوصفهما وجهي الدرجة الأولى: هما وحدهما يمثّلان المسيحيّين، لا الموارنة فحسب، إلى جانب رئيس الحكومة رشيد كرامي والوجيه – المليونير حسين العويني اللذين يمثّلان المسلمين، لا السنّة فقط. مع هذا، رُسمت لكلّ منهما حدوده ووظيفته: ففي العام نفسه، 1960، خيضت معركة انتخابيّة تنافس فيها، في بيروت الأولى، بيار الجميّل وبيار إدّه، شقيق ريمون، ففاز الأوّل ومعه كامل لائحته. هذه النتيجة رأى فيها الأخَوان إدّه “اختلاساً” للمقعد ضمنتْه للجميّل مداخلات “الشعبة الثانية” أو “المكتب الثاني” وفق التسمية الشعبيّة. هنا، مع هذا “التحجيم”، بدأ الافتراق بين ريمون إدّه والعهد الشهابيّ. السنوات اللاحقة وسّعت المسافة بينهما وحوّلت نزاعهما واحداً من عناوين الحياة السياسيّة للستينات.

إدّه والجميّل وفرنجيّة

إدّه كان الأقرب إلى السياسيّ البرلمانيّ الذي يشرّع ويحاسب السلطة التنفيذيّة من دون أن تستغرقه مطالب القضاء الخدماتيّة من ماء وكهرباء وطرق ومدارس. كان محبوباً على نطاق وطنيّ بوصفه أمل الفئات الحديثة التي عوّلت على النزاهة والكفاءة ومواكبة الانتقال إلى رأسماليّة أشدّ انفتاحاً على الخارج وأكثر اندماجاً فيه. هؤلاء رأوا فيه رمز التوجّه “العصريّ” هذا، ولم تستوقفْهم حماسته لحكم الإعدام أو للسرّيّة المصرفيّة، بل اعتبروهما، على العكس، حاجةً وضرورةً لما بعد “فوضى 58”. ومع أنّ قاعدة قوّته، قضاء جبيل، صغيرة وطَرَفيّة قياساً بالعمق الجبليّ، فريمون إدّه ورث أيضاً بقايا زعامة أبيه، الرئيس الراحل إميل إدّه، ما وفّر له كتلة تضمّ نوّاباً من أقضية أخرى، كنهاد بويز في كسروان وإدوار حنين في المتن الجنوبيّ. والحال أنّه منذ منافسات إميل إدّه وبشارة الخوري، وتالياً “الكتلة الوطنيّة” و”الكتلة الدستوريّة”، بات وجود “الكتلة” شرطاً لبلوغ السياسيّ المارونيّ سدّة الرئاسة.

بيار الجميّل كان شيئاً آخر: فهو يوفّر لشهاب الغطاء المارونيّ في مواجهة شمعون وإدّه، فيما يستخدمه الجنرال – الرئيس بوصفه ممثّل الاعتراض المارونيّ على التنازلات المقدّمة للزعماء المسلمين ولجمال عبد الناصر. إنّه حدود التنازل الممكن. ومؤسّس حزب الكتائب هو الأكفأ لأداء دور كهذا: ففي 1958، قاتلَ حزبه، بقدراته المحدودة حينذاك، إلى جانب شمعون ضدّ “الثوّار”، ثمّ انتقل إلى تأييد شهاب بوصفه رمز التسوية الوحيدة الممكنة والمقبولة عربيّاً ودوليّاً، والقادر، من خلال الجيش، على إدامة السلم الأهليّ في ظلّ رجحان مسيحيّ.

وبعدما كان لـ “الكتائب اللبنانيّة” نائب واحد في البرلمان، بدأ الحزب يتوسّع، عام 1960، على نطاق وطنيّ يتعدّى الجبل. فإلى الجميّل وجوزيف شادر في بيروت، وعبده صعب في المتن الجنوبيّ وموريس الجميّل في المتن الشماليّ، صار للكتائب نائب في جزّين هو بازيل عبّود، قبل أن يصبح لها نائب في الزهراني هو راشد الخوري، ثمّ نوّاب في مناطق طرفيّة أخرى. لقد واكبت الكتائب، في نموّها، صناعة الوطن على النحو الذي سعت فيه الشهابيّة: توسيعاً للخدمات وربطاً للمناطق وتوليداً لطريقة حياة وثقافة لبنانيّتين.

ريمون إده

على مقربة من إدّه والجميّل، كان هناك سليمان فرنجيّة في زغرتا. فهو الزعيم الأوّل في بلدته وقضائه، والوجه الأوّل لموارنة الشمال الذي لا يُعدَم حلفاء مجاورين، ككميل عقل في البترون وحبيب كيروز في بشرّي. لكنّ نقاط الضعف كانت كثيرة: ففرنجيّة حلّ في الزعامة مكان شقيقه حميد بعدما كان “شيخَ شبابه” ومُدبّرَ علاقاته الأهليّة، وهو ما لم يكن ليحصل لولا مرض حميد الذي أقعده فيما أبناؤه صغار السنّ. ولئن كان الأخير، وهو محامٍ، من نجوم السياسة اللبنانيّة والصالون البيروتيّ لحقبة ما بعد الاستقلال، فإنّ سليمان، الذي نفر مبكراً من المدارس، هو مَن اقتصر حضوره على زغرتا وجوارها. إلى هذا بدت الزعامة الشماليّة عموماً، في قيامها على الملكيّات الزراعيّة، شيئاً من ماضي الجبليّين ينظرون إليه من أعلى. ففي الجبل شرعت تنكسر تلك الملكيّات منذ ستينات القرن التاسع عشر، وراحت السياسة تعكس المهن الحديثة، خصوصاً المحاماة والصحافة، لفئات اجتماعيّة حديثة.

فؤاد شهاب، قائد الجيش السابق والرئيس التحديثيّ، لم يكن يكنّ لهذا الصنف من سياسيّي الأطراف كبير تقدير.

لكنّ الطعن الأبرز بسليمان فرنجيّة نشأ عن دوره المباشر في مذبحة كنيسة مزيارة عام 1957 التي أُنزلت بآل الدويهي. لقد بدا هذا السجلّ الشخصيّ عبئاً فضائحيّاً على صاحبه. أمّا الذين بدوا مستعدّين أن يغفروا له دوره ذاك، وهو غفران صعب، فلم يغفروا لجوءه اللاحق إلى “الإقليم الشماليّ للجمهوريّة العربيّة المتّحدة”. ذاك أنّه إبّان الاستنفار غير المسبوق الذي استنفرتْه العصبيّة المارونيّة ضدّ الناصريّة المهاجمة من الخارج، استقرّ فرنجيّة في اللاذقيّة.

فؤاد شهاب “الأب” 

في مقابل الزعماء الموروثين، عمل شهاب على تخليق سياسيّين جدد، كلّهم متعلّمون وكلّهم ذوو حيثيّات أهليّة أو شعبيّة في مناطقهم: جون عزيز في جزّين وفؤاد نفّاع في كسروان ورينيه معوّض في زغرتا وأنطوان سعيد في جبيل… الرهان هذا الذي حقّق، بين الموارنة على الأقلّ، نجاحات مُعتبرة، نمّ عن استعداد تعدّديّ يتّسع لخليط طبقيّ ولحراك ديناميّ في داخله، حراكٍ يُرجَّح أنّه شغل المخيّلة الأبويّة لفؤاد شهاب فتَـفَـنّـنَتْ فيه.

فهو، كـ “أمير” ورئيس جمهوريّة وزعيم وطنيّ، رسم لنفسه صورة “القدّيس”، بحسب الوصف الذي أطلقه مناصروه وموظّفو أجهزته. هكذا وقف فوق السياسة وفوق الأحزاب، مُطبّقاً ما يفترضه سيناريو نظريّ، أو شرط دستوريّ، في رئاسةٍ متعاليةٍ صاحبها معجب بشارل ديغول. أمّا بالنسبة إلى قلّةٍ صدّقت أنّه قدّيس، يرشح من جسده زيت وبخور، فتراءى واقفاً فوق الحياة نفسها. “قدّيس صربا”، حيث أقام قصرَه الرئاسيّ، قريباً من جونيه، هو “صنم صربا” عند كارهيه.

فؤاد شهاب

بيد أنّ التعالي الظاهريّ، الذي يكلّف الأبناء بما يريده الأب المتعالي، لم يُخفِ الحرب التي نشبت بين شهاب وبين ثلاثة من أصل “جبابرة” الموارنة الأربعة. فشمعون اشتمّ منذ اليوم الأوّل لرئاسته ميلاً ثأريّاً حياله، سيّما وأنّ الودّ كان مفقوداً في الماضي القريب. ذاك أنّ الرئيس السابق حين واجه “الثورة” لم يجد إلى جانبه قائد جيشه الذي آثر اتّخاذ موقف الحياد. وإبّان رئاسة القائد هذا، لم يحتمل شمعون، وهو أحد أبرز مَن واجهوا المدّ الناصريّ في الشرق الأوسط، ربط السياسة الخارجيّة للبنان بمصر الناصريّة، ومنح سفيرها في بيروت، عبد الحميد غالب، منصّة إشراف ووصاية. وبدوره، أسند إدّه معارضته على رفضه الموقع الذي بات يحتلّه “المكتب الثاني” في حياة الناس العامّة، وإلى حدّ ما الخاصّة. لقد رأى مُحقّاً أنّ الموقع هذا يتعارض مع برلمانيّة النظام ومع الديمقراطيّة وحرّيّاتها. وعلى نقاط التقاطع بين شمعون وإدّه، ركّز غسّان تويني جريدته “النهار” صوتاً مؤثّراً للمعارضة المسيحيّة. أمّا فرنجيّة، الذي تصالح مع شمعون ومع حليفه المحلّيّ في زغرتا، الأب سمعان الدويهي، ضامّاً الأخير إلى لائحته عام 1964، فساورتْه الشكوك التي تقارب اليقين. ذاك أنّ رينيه معوّض بات يحلّ محلّه وزيراً في الحكومات الشهابيّة. وكمثل مَن يكون في فمه ماء، اضطُرّ فرنجيّة لأن يحافظ على تحالفه الانتخابيّ مع معوّض، خصوصاً أنّ خلافات العائلات في زغرتا قد تفضي إلى الدم. حكمة المغلوب على أمره كانت: إنّ ما حصل مع شمعون والدويهي في الخمسينات ينبغي ألاّ يتكرّر مع شهاب ومعوّض في الستينات.

انتخابات 64

مع انتخابات 1964، شكّل سليمان فرنجيّة لائحة جمعت إليه معوّض والدويهي. لكنّ ما أمكن تجنّبه في زغرتا استحال تجنّبه إلى الجنوب منها. فقد وجّه شهاب ضربة لمعارضيه الموارنة الجبليّين بحجم الضربة التي سبق أن وجّهها شمعون في انتخابات 1957 لمعارضيه المسلمين: في الشوف رسب شمعون نفسه، وفي جبيل رسب إدّه. هذا الزلزال أشعر موارنة لبنان عموماً، وموارنة الجبل خصوصاً، بأنّ الأرض جُعلت صلصالاً تحت أقدامهم. لقد تراءى لهم أنّ قبضة جمال عبد الناصر تقرع أبوابهم في المتن وكسروان، مهدّدةً بإسكات أجراسهم.

أسند إدّه معارضته على رفضه الموقع الذي بات يحتلّه “المكتب الثاني” في حياة الناس العامّة، وإلى حدّ ما الخاصّة

أمّا بيار الجميّل فلم يعد في وسعه، وقد أمعنتْ الخطّة الشهابيّة في صلفها، أن يقدّم الغطاء المارونيّ الذي قدّمه قبلاً. صحيح أنّ انتخابات 1964 أعطت الكتائب المتوسّعة خارج الجبل مقعداً شغله راشد الخوري في الزهراني، إلاّ أنّ ناخبي الجبل صفعوها باثنين بارزين أسقطوهما: عبده صعب في المتن الجنوبيّ ولويس أبو شرف في كسروان. لقد بدأت الكتائب تتململ وراحت تحذيرات شيخها من هذا “السير في المجهول” ترتفع.

لكنّ رفض فؤاد شهاب التجديدَ أعفى الجميع، لا سيّما الجميّل، من متاعب يُستحسَن تفاديها. ومواجهة القدّيسين، أو الأصنام لا فرق، مهمّةٌ لا يُحسَد صاحبها عليها. حينذاك استقرّ الأمر على شهابيٍّ مُلتبس، وصفه البعض بـ “اليسوعيّ”، لا لأنّه يجاهر بإيمانه بل لأنّه يُخفيه. فشارل حلو، وفق عارفيه، ذو تقيّة تجعله يقول ما لا يُضمر ويُضمر ما لا يقول.

وفي الحالات كافّة، حرص الأقطاب الموارنة على إحاطة الرئيس الجديد برعايتهم، عاقدين الرهان على ما يُضمر لا على ما يقول. وهو بالفعل كان يُضمر الحدّ من سلطان “المكتب الثاني” ومن وصاية القاهرة على السياسة العربيّة للبنان. فوق هذا، كان يعرف، هو الذي تتلمذ على ميشال شيحا، أنّ للبلد معادلات وتوازنات لا يقوم إلاّ عليها، فإذا هُمّش الجبل، ولبنان في آخر المطاف بحر وجبل، خانَ البلدُ أصولَه وفقد معناه.

هذه المساعي أثمرت في 1968، وكانت سبقتها بعام واحد هزيمة عبد الناصر المدوّية في 1967. يومذاك جيء بسليمان فرنجيّة وزيراً لداخليّة الحكومة التي تجري الانتخابات، وفرنجيّة أحد ثلاثة أسّسوا “تكتّل الوسط” الذي ضمّ إليه صائب سلام وكامل الأسعد. الثلاثة هؤلاء كانوا أيضاً خصوماً للشهابيّة، وإنْ بتفاوت في التعبير والحركة. أمّا شمعون وإدّه فأنجزا، في هذه الغضون، استمالة بيار الجميّل، المتعافي من فؤاد شهاب، إلى خطّهما. هكذا نشأ “الحلف الثلاثيّ” المتحالف في الخفاء مع “تكتّل الوسط”. إنّها، إذاً، معركة الحسم ضدّ الشهابيّة وعسكرها.

إقرأ أيضاً:
ملاحظة سريعة حول العونيّة الثقافيّة…
الصراع على الزعامة الدرزيّة في لبنان