fbpx

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (4)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في بداية الحرب اللبنانية، تشكّلتْ حكومة “إنقاذيّة” رأسها رشيد كرامي. لم تحفظ الذاكرة عن تلك الحكومة سوى تعهّدات رئيسها بأنّ “الجولة الرابعة (من الحرب) لن تقع”. الجولة تلك وقعت بالطبع، وبعدها تلاحقت جولات ما عُرف بـ “حرب السنتين”.تلك الحرب أعلنت الأزمة الوجوديّة للزعماء التقليديّين، للسنّة منهم خصوصاً..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يوم 1 تمّوز (يوليو) 1975 جرت المحاولة الأخيرة التي امتحنت قوّة الزعماء التقليديّين، بمسلميهم ومسيحيّيهم. ففيما المتاريس تتبادل القذائف على مدى جولات حربيّة ثلاث، تشكّلتْ حكومة “إنقاذيّة” رأسها رشيد كرامي وكان أبرز وزرائها كميل شمعون. الأبرياء وكبار السنّ وحدهم صدّقوا أنّ الإنقاذ آتٍ، فهم يذكرون أيّاماً كان فيها شمعون وكرامي وزملاؤهما قادرين على إعلان حرب أو فرض تسوية على متحاربين. لسوء الحظّ، هبّت الريح لمصلحة الأجيال الشابّة، وتواضع اللبنانيّون فتحدّث بعضهم عن “تأثّرنا بجزيرة قبرص المجاورة” التي كانت قد شهدت، قبل عام واحد، حرباً أهليّة وتهجيراً واحتلالاً تركيّاً أعقبه تقسيم أمر واقع.

في الحالات كافّة، لم تحفظ الذاكرة، ولا حفظ الأرشيف، عن تلك الحكومة الكراميّة سوى تعهّدات رئيسها بأنّ “الجولة الرابعة لن تقع”. الجولة تلك وقعت بالطبع، وبعدها تلاحقت جولات سُكّ بنتيجتها ما عُرف بـ “حرب السنتين”.

تلك الحرب أعلنت الأزمة الوجوديّة للزعماء التقليديّين، ولكنْ للسنّة منهم خصوصاً: فمن دون “مسألة قوميّة” يبقون مُستَضعفين في السياسة، يستضعفهم الرؤساء الموارنة. لكنْ مع “المسألة القوميّة”، يخرجون من السياسة كلّيّاً، سيّما وأنّ ممثّلي تلك المسألة، أسمُّوا أنفسهم قوميّين أو يساريّين، أو في وقت لاحق إسلاميّين، لا يقبلون بهم شركاء. إنّهم، على العكس، يستمدّون من العداء لهم علّة وجود ومصدر حماسة. فوق هذا فالذين يحرّكون تلك “المسألة القوميّة”، ويملكون القدرة على استخدامها، قد لا يكونون لبنانيّين وقد لا يكونون سنّة أو بيارتة.

تقي الدين الصلح

تقيّ الدين الصلح، وفقاً للرُواة، ميّز، في بدايات تلك الحرب، بين “المسلمين المقاتلين” الذين يحملون السلاح، و”المسلمين المقتولين” الذين كان هو نفسه واحداً منهم. فهؤلاء الأخيرون نُبذوا وانكفأوا إلى بيوتهم، أو هاجروا، أو تأمّلوا مُحبَطين مدنهم وهي تتعفّن. ذاك أنّ السلطة الفعليّة في تلك المدن والمناطق انتزعها خليط متنافر من التنظيمات الفلسطينيّة وأحزاب “الحركة الوطنيّة” اللبنانيّة التي يتزعّمها كمال جنبلاط، قبل أن تنضمّ إليهم، في أواخر 1976، أجهزة الأمن السوريّة.

لمن الحفرة؟

الصدامات المتكرّرة بين الميليشيات والقوى المسيطرة أساءت إلى المدن في أمنها وعمرانها واقتصادها وطريقة عيشها، فيما امتصّ “جيش لبنان العربيّ”، الذي انشقّ عن الجيش بقيادة الضابط أحمد الخطيب، أعداداً ليست ضئيلة من شبيبة الريف السنّيّ، خصوصاً منهم الشماليّين. ثمّ إنّ “المسلم المقاتل”، الذي بات يحتلّ المجال المدينيّ العامّ، إمّا شيعيّ أو درزيّ أو سنّيّ من الأرياف، لكنّه نادراً ما يكون من سنّة المدن. لقد بدا الزعماء السنّيّون أشبه بكائنات تراجيديّة، يحفرون في الأرض ظانّين أنّ النفق لن يتّسع إلاّ للرئيس المارونيّ، لكنّ يداً لا تلبث أن تمتدّ لتدفعهم، هم تحديداً، إلى داخل الحُفَر التي حفروها.

القوى الفاعلة وضعت في واجهة المدن تنظيمات معظمها ينسب نفسه إلى الناصريّة ويعبّر عن أحياء أو عائلات من شرائح دنيا في الطبقات الوسطى. والحال أنّ ما واجهه التقليديّون لم يكن انقلاباً عسكريّاً، ولا ثورة اجتماعيّة، لكنْ كان فيه شيء من الإثنين، لكنّ الأسوأ أنّ اللسان الذي نطق به “المقاتلون”، كان ذات مرّة، لسان أولئك “المقتولين” أنفسهم. وحتّى حين اتّسع التذمّر، تبعاً لشعور بالفائض الضحويّ، بقيت لغة “المقاتل” تحظى بموافقة “المقتول”. إنّها مقدّس يتشارك الكلّ في تقديسه: هذا كان صحيحاً في ما خصّ تحطيم “الهيمنة المارونيّة” والانتصار لـ “عروبة لبنان” وإنجاز “تحرير فلسطين” وسوى ذلك ممّا لا يتجرّأ على مخالفته الزعماء السنّة إلاّ بكثير من المواربة.

الوضع العربيّ الذي كان يشدّ أزرهم لم يعد كذلك. فمصر باشرت ابتعادها وتراجع تأثيرها بمجرّد انتهاء حرب أكتوبر وتوقيع اتّفاق فصل القوّات، والسعوديّة مضت في تحالفها الذي بدأ إبّان تلك الحرب مع سوريّا، ثمّ وافقت على تحوّل “قوّات الردع العربيّة” قوّاتٍ سوريّةً حصراً. أمّا الوضع الدوليّ فكان أبرزه موافقة الإدارة الأميركيّة، وضمناً إسرائيل، على الدور السوريّ الجديد، المضبوط بدقّة في “خطوط حمراء” تضمن “استقرار المنطقة”.

هكذا رحّب الجميع بالسلم الذي حلّ في 1976، لا لأنّه سلم أمثل، بل لأنّ الحرب باتت زمناً لا يُطاق. لكنّ السلم، كما تبيّن سريعاً، لم يكن أقلّ حربيّة من الحرب ذاتها.

“زعامة” الحصّ

مع تسلّم سليم الحصّ رئاسة الحكومة في عهد الياس سركيس، تبدّى أنّ الحياة السياسيّة البيروتيّة، التي تتيح الفرص للوافدين الجدد، أتاحت فرصة أخرى لموظّف نزيه ولاقتصاديّ صادر عن بيئة اجتماعيّة متواضعة. لكنّ نظرة أدقّ كانت تشي بأنّ الزعامة التي وُلدت للتوّ محكومة سلفاً بأن لا تصير زعامة. فما كان يحصل مع الانتداب الفرنسيّ ثمّ مع العهد الاستقلاليّ الذي انتهى إلى الحرب الأهليّة، كفّ عن الحصول. ذاك أنّ السلطة الفعليّة في بيروت وباقي لبنان تستولي عليها قوّات الردع السوريّة، وببعضها تتصدّق على التنظيمات الفلسطينيّة واللبنانيّة الحليفة. هؤلاء جميعاً لا يطيقون سياسيّين تستهويهم تصوّرات مغايرة لتصوّراتهم، ويخوضون انتخابات قد يفوزون فيها وقد يرسبون، لكنّهم، فوق ذلك، قد يختلفون في منشأ اجتماعيّ أو في تحصيل علميّ.

لقد وُلدت “زعامة” الحصّ برأس مقطوع.  

عمليّاً، كان ما تُرك لثنائيّ سركيس – الحصّ قضيّةُ الإعمار وحدها، والإعمارُ ظلّ في النهاية خططاً وأرقاماً باردة لم يتسنّ لها التجريب. لكنْ كلّما كانت تُطرح مسألة سياسيّة تتطلّب غطاء الشرعيّة اللبنانيّة، كان ينشب الخلاف بين الرئيسين فيستنزف واحدهما الثاني. الخلاف هذا سريعاً ما صار صراعاً واتّخذ منحى تصاعديّاً في موازاة التحلّل المتنامي لمجمل الوضع اللبنانيّ.

في 26 نيسان (أبريل) 1982 غضبت بيروت السنّيّة واهتزّت. يومذاك اغتيل الشيخ أحمد عسّاف، إمام مسجد عائشة بكّار، الذي عُرف بحماسته لـ “التعايش المسيحيّ – الإسلاميّ” ومعارضته “الإدارة المدنيّة” التي حاولت “الحركة الوطنيّة” فرضها في بيروت. عسّاف كان اعتبرها عملاً تقسيميّاً.

تلك الجريمة كانت جزءاً من إعداد سيّئ لمواجهة التطوّر الخطير الذي أطلقه الغزو الإسرائيليّ في 6 حزيران (يونيو). ما ضاعف سوءه اشتباكاتٌ كانت تتنقّل بين التنظيمات الفلسطينيّة المسلّحة وحركة “أمل” الشيعيّة: الحياة اليوميّة تردّتْ في بيروت، والقرف والاحتقار صارا سلاح الناس في مواجهة السلاح. القضايا الموصوفة بالقداسة باتت مادّة للسخرية. أمّا في الغرف المغلقة فراح الكثيرون يتهامسون إحساسهم بالحياد والمسافة حيال الغزاة الذين يتقدّمون نحو العاصمة.

لكنّ ما يحصل كان يستدعي حسماً من النوع الذي يفضّل الزعماء السنّة ألاّ يحسموه. فالحصار المحكَم والقصف الشديد لبيروت التي لم يبق فيها سوى 300 ألف نسمة، بدأ يوم 1 آب (أغسطس). فيليب حبيب، المبعوث الرئاسيّ الأميركيّ، ما لبث أن باشر إدارة اللعبة المعقّدة بين الأطراف المعنيّة لإبعاد كأس الدمار عن العاصمة. واشنطن كانت أصلاً ضدّ دخول الإسرائيليّين بيروت، تركّز على إنجاح ما بات يُعرَف، ابتداءً بـ 1 أيلول (سبتمبر)، بـ “مشروع ريغان للسلام”.

قرار الحسم يومذاك فرضته القسوة الإسرائيليّة المعهودة: إمّا التخلّي عن “التضامن القوميّ مع الأخوة الفلسطينيّين” أو تهديم المدينة على رؤوس سكّانها. الأمر لم يعد يحتمل المواربة والمضيّ في التوفيق بين النقائض. حتّى وليد جنبلاط، على رأس “الحركة الوطنيّة” التي كانت لا تزال حيّة تُرزق، أقرّ بضرورة الإذعان. أمّا صائب سلام فصار مَن يتولّى المفاوضة ويعلن القرار. الياس سركيس، رئيس الجمهوريّة، أقرّ له بـ “رئاسة جمهوريّة بيروت”، وفق التعبير الذي استخدمته جريدة “النهار”. شفيق الوزّان، وهو الآخر وافد من بيئة اجتماعيّة متواضعة تولّى رئاسة الحكومة في 1980، بات يقف وراءه.

وهكذا كان: في 25 آب وصلت قوّات المارينز لتأمين إجلاء المسلّحين الفلسطينيّين الذي بدأ في اليوم نفسه. في 30 غادر ياسر عرفات إلى اليونان ومنها إلى المغرب. الوداع كان كبيراً، بل تاريخيّاً، ذُرفت فيه دموع وفيرة وأُطلق فيه رصاص كثير، لكنّ المودّعين كانوا كمن يتمنّى للمُغادر أن يُسعده الله ويُبعده. جنود الجيش السوريّ، الذي أهين في حرب 1982، غادروا أيضاً. الإسرائيليّون هم الذين تولّوا حماية الطريق التي سلكها إلى دمشق.

القرار الصعب

ذاك القرار، رغم ما أحدثه من ارتياح، لم يكن سهلاً. فهو انطوى على شعور بالذنب مردّه العجز عن إنجاد “الأخ”، وربّما غسل اليد من “الأخوّة” بعدما صارت مُكلفة جدّاً. وفي الحالات كافّة، كان هناك جانب عاطفيّ ناشىء عن اكتشاف عقم التاريخ الشخصيّ وعن موت الوهم الذي لازم الزعامات السنّيّة عقوداً بكاملها.

ما جعل العاطفة أكثر التهاباً وإيلاماً أنّ بشير الجميّل كان قد انتُخب رئيساً للجمهوريّة في 21 آب، أي قبل أيّام قليلة على تلك الأحداث القاهرة. في جلسة انتخابه، نال المرشّح الكتائبيّ وقائد الميليشيا المارونيّة 57 صوتاً، لكنّ 14 نائباً سنّيّاً من أصل 19 كانوا قد تغيّبوا عن الجلسة، في عدادهم سلام وكرامي، فيما لم يغب من النوّاب الشيعة سوى 6 من أصل 18. المسلّحون في بيروت الغربيّة أحرقوا بيوت 11 نائباً من الذين انتخبوا بشير. رشيد كرامي أعلن أنّه “سيقطع العلاقات” مع دولة الجميّل إلى الجنوب، معتبراً أنّ انتخابه باطل دستوريّاً لحصوله في ظلّ الاحتلال. صائب سلام، الذي سبق أن استقبل بشير لكنّه بقي يفضّل للرئاسة أخاه أمين أو أباه بيار أو كميل شمعون، حذّر من توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، ثمّ نبّه إلى أنّ الديمقراطيّة اللبنانيّة تتعرّض، بسبب انتخابه، للخطر.

حدثٌ وتصريحٌ لخّصا يومذاك المعضلة الكبرى للزعماء السنّة. أمّا الحدث فأنّ بشير الجميّل ينوي تكليف سليمان العلي برئاسة الحكومة، أي أنّه سيحاول نقل الثقل السنّي إلى الأرياف ممثّلاً بملاّك زراعيّ كهل لم تُنسَب إليه عبارة مفيدة فيما يرى كثيرون أنّ طريقه عُبّدت بالجرائم. سلوك كهذا أوحى بأنّ “الثورة” الاجتماعيّة والسياسيّة التي يطرحها العهد الجديد على السنّة ستكون معاكسة تماماً للثورة التي عرفها جبل لبنان ابتداء بمنتصف القرن التاسع عشر. عند موارنة الجبل، ساد الاتّجاه نحو الأحدث. المطروح على السنّة اتّجاهٌ نحو الأعتق.  

وأمّا التصريح فهو ما أدلى به القياديّ الفلسطينيّ صلاح خلف بعد أربعة أيّام على خروجه من بيروت. لقد تفقّد “أبو إياد” البقاع والشمال وزار الرئيسين رشيد كرامي وسليمان فرنجيّة وقال: “قريباً جدّاً نعود إلى بيروت ومنها إلى القدس”. هكذا بدا “الأخ” في غاية السماجة والإحراج لـ “إخوانه” حتّى الأمس القريب.

مذبحة صبرا وشاتيلا، بُعيد مقتل بشير، سكبت على الجرح السنّيّ ملحاً كثيراً. لقد تضامن الشعور الذاتيّ بالعجز مع القرف والقلق والخوف. صارت رئاسة أمين الجميّل تبدو مكسباً وضمانة في آن واحد، خصوصاً وأنّ ياسر عرفات، الخائف على مَن تبقّى من الفلسطينيّين في لبنان، أصدر شهادة إيجابيّة بأمين، شهادةً تخفّف حرج المحرَجين بانتخابه. الولايات المتّحدة ومصر والسعوديّة أيّدته. حتّى سوريّا أوحت أنّها لا تمانع.

في جلسة انتخابه، نال أمين الجميّل 77 صوتاً مقابل ثلاث أوراق بيضاء.

لكنّ الإجماع في برلمان انتُخب قبل عشر سنوات شيء، وتوازنات القوى الفعليّة شيء آخر. فالجميّل، الذي كلّف الوزّان بتشكيل حكومة مرعيّة من صائب سلام، تسلّم بلداً تتنازعه الاحتلالات. أحد الأفعال الأولى لعهده كان الاتّصال بالأميركيّين كي يطلبوا من الإسرائيليّين إزالة حاجز لهم على طريقه إلى القصر الرئاسيّ في بعبدا. الإيرانيّون أيضاً كانوا يدفعون بمدرّبيهم، ثمّ بمسلّحيهم، فضلاً عن المال والسلاح، إلى لبنان الذي جُعل امتداداً لحربهم مع العراق.

 

إقرأ أيضاً:

 

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (3)

الصراع على الزعامة السنّيّة في لبنان (2)

الصراع على الزعامة السنيّة في لبنان (١)

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.