fbpx

علمانية بلا ديمقراطية وبلا علمانيين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عقدان من الزمن تقريباً انقضيا على أول “ظهور علني” للعلمانية أمام الجمهور العربي في المناظرة الشهيرة في “دار الحكمة” في القاهرة عام 1989، بين يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي، من الجانب الإسلامي، وفؤاد زكريا وفرج فوده من الجانب العلماني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عقدان من الزمن تقريباً انقضيا على أول “ظهور علني” للعلمانية أمام الجمهور العربي في المناظرة الشهيرة في “دار الحكمة” في القاهرة عام 1989، بين يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي، من الجانب الإسلامي، وفؤاد زكريا وفرج فوده من الجانب العلماني.
في تلك الأيام كانت العلمانية كلمة مجهولة بالنسبة الى الجمهور، فقد استطاعت حملات التكفير والإرهاب الفكري أن تحولها إلى كلمة ملعونة. لكن جرت تحت العشب مياه كثيرة، أعادت بعث النقاش حول العلمانية في جو مختلف، صارت العلمانية فيه مطلباً سياسياً و شعاراً يتباهي به الحكام قبل المثقفين.
ولو عاش فؤاد زكريا وفرج فوده إلى اليوم، لأصابتهما الدهشة من هذا التحول الجوهري في الموقف الرسمي من الكلمة التي دفع احدهما حياته ثمناً لها، فيما مات الآخر منعزلاً في بيته بعد أن أغلقت أمامه أبواب النشر والتدريس. ولقد وردت العلمانية على لسان أكثر من رئيس عربي وإسلامي في السنوات الأخيرة. لكن طريقة ورودها وسياق توظيفها ينذر بتحول العلمانية الى أداة صراع جديدة، لا الى أداة تمدين وعقلنة للمجال السياسي والاجتماعي كما يفترض بها.
أول زعيم عربي تحدث عن العلمانية كان بشار الأسد في السنة الأولى للحرب الأهلية  لتسويق نظامه باعتباره “المعقل الأخير للعلمانية والتعايش في المنطقة، حيث تُحمى الاقليات وتتعايش”.  وعلمانية الأسد لا تُعرَّف الا بنقيضها المضمر (الارهاب الاسلامي المتمثل في داعش وجبهة النصرة). وتُختزل هذه العلمانية في بعدين رئيسيين هما، “محاربة الإرهاب” و”حماية الأقليات”. لكن حماية الاقليات ترتبط بالمعنى الحرفي للحماية من الأذى الجسدي، و لا تتطرق الى حق هذه الاقليات في حرية التعبير وحرية ممارسة ثقافتها الفرعية. هي إذاً علمانية تتجاهل التعددية السياسية وحرية الفكر وحرية الضمير، وكلها من الأسس الكبرى للعلمانية. لكن هذا الطرح السوري الرسمي للعلمانية يتجاهل أهم وأبسط أسس العلمانية وهو “فصل الدين عن الدولة”. فرغم الحرية الواسعة لممارسة التدين الفردي التي يحظى بها المسلمون والمسيحيون بكافة اطيافهم في سوريا، إلا ان الخطاب الديني العام خطاب مؤمم لصالح الدولة ولمصلحة الحاكم.
كذلك، سطع نجم النصائح العلمانية، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرتين: المرة الأولى في 2011، عندما نصح الرئيس السابق محمد مرسي والإخوان المسلمين في مصر، بإقامة نظام علماني في. وقد أثار تصريحه صدمة للإخوان، الذين قضوا سنوات عمرهم يؤكدون لأتباعهم أن العلمانية منافية للإسلام، كما أثار ارتباك العلمانيين، الذين وجدوا أنفسهم يؤيديون تصريحات رئيس “إسلامي” يدعو للدولة العلمانية!
لكن أردوغان أضاف ارباكاً جديداً للعلمانية، عندما قال في تصريحاته للإعلام المصري أن “العلمانية لا تعني أن يكون الأشخاص علمانيين، فأنا مثلا لست علمانياً، لكنني رئيس وزراء دولة علمانية”
تخيلوا مثلا مقدار الإرباك الذي سيحصل لو أن رئيس وزراء بريطانيا صرح قائلا: “لست ديمقراطياً ولكنني رئيس وزراء دولة ديمقراطية”! فكيف يمكن أن نتخيل علمانية بدون علمانيين أو ديمقراطية بدون ديمقراطيين أو رأسمالية بدون رأسماليين.
وقد كرر أردوغان ارباك الرأي العام العربي في تصريحاته لقناة العربية عام 2017، والتي ذكر فيها تعريفاً غريباً للعلمانية، وحصرها في حرية الإعتقاد: ” العلمانية هي فقط أن تضمن الدولة الحريات لكافة المعتقدات، وأيضاً أن تقف بنفس المسافة حيالها، وهذا هو مفهوم العلمانية عندنا””. والتعريف هذا الذي ابتدعه أردوغان هو تعريف مراوغ للعلمانية، ويلغي عنها مبدئها الرئيسي: فصل الدين عن السياسة، ويحصرها في جانب صغير من جوانبها هو حرية المعتقد.
الحقيقة أن أردوغان ليس علمانياً باعترافه هو نفسه، ولا يمكن فهم “علمانيته” إلا بالتفكير في الخصم الداخلي الذي يواجهه أردوغان. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرين فخصم أردوغان الداخلي الأقوى “اسلامي” وليس “علماني”، متمثلا في فتح الله غولن وتنظيمه الضخم المتوغل في المجتمع ومؤسسات الدولة.
لمواجهة غولن يحتاج أردوغان الى نوع مهجّن من العلمانية يحصرها في يد الدولة، لكنه في نفس الوقت يقود أوسع عملية أسلمة في تاريخ تركيا الحديثة، منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى. وهي في حقيقتها  “تأميم للدين” وليس فصلا للدين عن الدولة، وتمضي قدماً في نزع كل انجازات العلمنة التي حققتها تجربة مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك.
أما بالنسبة للخارج، فينسى أردوغان علمانيته كلياً، ففي أزمته مع أوروبا تبنى خطاباً إسلامياً سياسياً متعصباً، يتنافى مع علمانية الدولة، ويتبنى خطاب المؤامرة ضدّ الاسلام، والفتوحات، والخلافة العثمانية.
في خضم ثورات وحروب الربيع العربي كان مؤتمر الحوار الوطني في اليمن الذي استمر من آذار/مارس 2013 وحتى كانون الثاني/يناير 2014، يطرح قضية العلمانية بقوة في النقاشات المتعلقة بشكل الدولة وهويتها، وعند مناقشة مشروع الدستور، جرى جدل كثير حول المادة الاولى التي تنص على ان الاسلام دين الدولة، وأن الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وقد طالب أنصار الدولة المدنية في المؤتمر بإلغاء النص على دين الدولة لأن الدولة “شخص معنوي”، وبالتالي لا دين لها إلا القانون.
كان مطلب العلمانية ملحاً في الحالة اليمنية التي شهدت بوادر صعود الحركات الدينية السياسية (السلفيون في الجنوب، الحوثيون في صعدة، الإخوان). وقفت أغلب الحركات الدينية ضد علمنة الدولة وخاصة الاخوان المسلمين، وهذا تصرف كان متوقعا، لكن ما كان من غير المتوقع أن تقوم حركة دينية طائفية أخرى، هي الحركة الحوثية، بتأييد علمانية الدولة والدستور على لسان أكبر ممثليها في مؤتمر الحوار.
لم يكن دفاع الحركة الحوثية حينها عن العلمانية عن قناعة، والدليل أنها عندما استولت على السلطة في نهاية 2014، قادت عملية أسلمة وتشييع عميقة للسياسة والمجتمع بقوة السلاح. وكان سبب مطالبتها بالعلمانية في 2013، أنها في ذلك الحين كانت أقلية ضعيفة معزولة في محافظة صعدة النائية ، وأسلمة الدستور كان يعني سيطرة مذهب الأغلبية السنية، فطرح الحوثيون العلمانية خوفاً من سيطرة الخصم المذهبي.
آخر طرح مثير للجدل للعلمانية في الفضاء الإعلامي والسياسي العربي كان من السفير الإماراتي في امريكا يوسف العتيبة عندما صرح في تموز/يوليو 2017، أن ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين للشرق الأوسط بعد عشر سنوات، هو حكومات علمانية مستقرة ومزدهرة.
السعودية هي منبع الايديولوجيا السلفية الوهابية الاكثر تشدداً في تفسير الاسلام، أما الإمارات فرغم عدم وجود صبغة دينية واضحة للحكم فيها، إلا أنها تدعم فصائل السلفية المتشددة في اليمن بالمال والسلاح، وتتوسع في دعم صوفية سياسية موالية للحكام. فكيف تريد الامارات والسعودية دولاً علمانية بينما هي تدعم حركات التأسلم السياسي وتساند سيطرتها على الحكم في دول الجور؟
علمانية السعودية والإمارات بالأساس أداة صراع سياسي لمواجهة حركة الإخوان المسلمين في اطار سياسة “اجتثاث الإخوان”، التي بدأت خليجياً مع بداية الربيع العربي، بعد اتهام الاخوان بمحاولة تغيير نظام الحكم في السعودية والإمارات.   وهي كما في النموذجين الأردوغاني والأسدي علمانية محصورة في محاربة الإسلام السياسي ومنعه من الاستيلاء على السلطة، أو تجييش المجتمع ضد السلطة.
باستثناء المحاولة اليمنية، فكل هذه الطروحات كانت طروحاً فوقية مفروضة من السلطة، من دون استشارة المجتمع، او حتى حشده لتأييدها (علمانية لا علمانيين!). كما أنها كانت خطاباً موجهاً للغرب، لا للشعوب بطريقة تجعل العلمانية بنداً في باقة “العلاقات العامة”، المصممة لتجميل وجه هذا النظام او ذاك. وهي أيضاً، علمانية استبدادية تقايض الشعوب بالحرية ،في مقابل الأمان واستبداد الانظمة الأخف، في مقابل الاستبداد شديد الوطأة للإسلام السياسي. وعلمانية لا تفصل بين الدين والسياسة، لكنها تؤمم الدين لصالح الدولة، في استمرار لنفس النمط البورقيبي الاتاتوركي في العلمنة من فوق، مع فارق أن بورقيبة وأتاتورك كانا علمانيين حقيقيين، قادا ثورة تغيير ثقافية واجتماعية تاريخية في مجتمعاتهما رغم سلطوتيهما.
وبغض النظر عن هذا التشويه للمفهوم، يبقى للحديث عن العلمانية على هذا المستوى العالي من صناع القرار فضيلة مهمة: سحب العلمانية من الهامش إلى المركز، كضرورة حضارية لتفكيك ألغام الدين والسياسة والمجتمع.[video_player link=””][/video_player]